ما زال المهاجرون الذين خاضوا البحر، يختبرون العنف بدلاً من الحماية في أوروبا. في هذا التقرير الذي تنشره "العربي الجديد" بالتعاون مع منظمة "أطباء بلا حدود" يتم تسليط الضوء على معاناة سكان مخيم موريا في اليونان.
أدت سياسة احتواء طالبي اللجوء المتواجدين على الجزر اليونانية إلى احتجاز أكثر من 9 آلاف شخصٍ، ثلثهم من الأطفال، إلى أجل غير مسمى، في مخيم موريا الذي تبلغ قدرته الاستيعابية القصوى 3.100 شخص. ويعيش آخرون في امتداد غير رسمي للمخيم، في منطقة "ذا أوليف غروف"، حيث غالباً ما يكونون من دون مأوى ويفتقرون إلى أبسط الخدمات الأساسية حتّى، ومن بينها المراحيض. ما زال نصف طالبي اللجوء تقريباً في موريا الذي يقع في جزيرة ليسبوس، يعيشون في خيم، على الرغم من مرور ثلاثة أعوام على الاتفاق التركي- الأوروبي.
وفي حين ينتظر هؤلاء إتمام إجراءات طلبات اللجوء الخاصة بهم، يواجهون شتى أنواع العنف، ويعانون من الظروف المعيشية الصعبة، وانعدام الحرية والحقوق الممنوحة للمهاجرين، والتدهور الحادّ في الصحة والصحة النفسيّة، إلى جانب الإجهاد والضغط اليوميَين المفروضَين على جميع سكان الجزيرة، ما جعل ليسبوس أشبه بمصح نفسي قديم الطراز لا تراه أجزاء من أوروبا منذ منتصف القرن العشرين.
مرحاض لـ70 شخصاً
تُعتبر الظروف في موريا غير ملائمة لاستقبال الأطفال خصوصاً. وتشهد فرق "أطباء بلا حدود" حالات جديدة متعدّدة في كل يوم للالتهابات الجلدية الحادّة (والتي غالباً ما تكون مؤلمة) في صفوف الأطفال سببّتها وفاقمتها الظروف المعيشية المروّعة في موريا. يعيش أكثر من ثلثي مرضى المنظّمة من الأطفال في خيم بموريا. بالإضافة إلى ذلك، تفاقم الوضع بسبب النقص المزمن في موظفي الصحة الأساسيّين. وبالتالي، حُرم رجال ونساء وأطفال كثر من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية. فالاكتظاظ وغياب المساعدة الأساسيّة (الطبيّة، والمسكن الأساسي، والغذاء، وغيرها)، وغياب الوضوح بشأن صفة اللجوء، وبشأن المدة المتبقية للاجئين في موريا، تخلّف أثراً مدمراً، ليس على صحة الأشخاص الجسدية فحسب، بل على صحتهم النفسية أيضاً. وقد حذّرت المنظمة في السابق من حالة الطوارئ المستمرة المتعلقة بالصحة النفسية في الجزر اليونانية، غير أنّ الحكومة اليونانية والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه فشلت في العثور على حلول مستدامة وإنسانية بهدف تجنّب هذا الوضع.
وللعام الثالث على التوالي، تدعو منظمة "أطباء بلا حدود"، السلطات اليونانية والاتحاد الأوروبي، إلى تحمّل مسؤولية إخفاقاتهما الجماعية، ووضع حلول مستدامة لتفادي هذا الوضع الكارثي عبر إجلاء الأفراد الأكثر حاجة إلى مآوي آمنة في البلدان الأوروبية الأخرى وإيقاف الدوامة اللامتناهية من الاحتقان الطارئ والظروف الرهيبة التي تشهد عليها المنظمة في موريا. وقد توصّل تقييم منظمة "أطباء بلا حدود" إلى أنَّ هناك ما بين 62 و70 شخصاً يستخدمون مرحاضاً واحداً، و91 شخصاً يستخدمون حوض استحمام واحد (وهي أرقام أدنى بكثير من المعايير المقبولة إنسانياً). ويفيد مرضى المنظمة بانتظارهم بين ساعتين وثلاث في الصفّ للحصول على وجبة طعام، إذ ينتظرون أحياناً من السابعة صباحاً حتى العاشرة للحصول على وجبة الفطور، في حين تفيد بعض الأُسر ممن لديها أطفال مرضى بعدم انتظارها دائماً في الصفّ للحصول على الطعام، خشية على أطفالها من العنف والاستغلال الجنسي.
أعداد المهاجرين وجنسياتهم
اعتزمت الحكومة اليونانية تخفيف الاكتظاظ في النقاط الساخنة، من خلال نقل 2000 شخص مع نهاية شهر سبتمبر إلى داخل اليونان. هي شريحة صغيرة من الأشخاص الذين هم في حاجة للوصول إلى مأوى آمن ورعاية صحية. في الواقع، لا تعتبر النقاط الساخنة في اليونان مأوى ملائمًا للأطفال ولأشخاص آخرين أكثر حاجة. بالتالي، يجب نقل الأطفال والأشخاص الآخرين الأكثر حاجة، إذ إنهم معرّضون لأذى متواصل وجدّي. ويجب أن يكون أمام كلّ الأشخاص المعرّضين لخطر صحي، ويحتاجون إلى علاج طبي، إلى مأوى آمن للعلاج.
ما زال ثلاثة آلاف شخص في جزيرة ليسبوس خارج المخيمات، ينتظرون نقلهم إلى داخل اليونان، من بينهم نساء عازبات وقاصرون. في الوقت الحالي، ينتظر طالبو اللجوء 4 أو 5 أشهر على الأقل للخضوع لفحصهم الأول لقياس درجة احتياجاتهم، وأكثر من 6 إلى 8 أشهر لإجراء مقابلتهم الخاصة بطلب اللجوء. أمّا الجنسيات الأكثر تواجداً على الجزيرة هي الأفغانية، والسورية، والكونغولية، إلى جانب جنسيات أخرى كالليبية، والتونسية والفلسطينية. كثيرون منهم لم يصلوا سابقاً إلى الحالة النفسية المعدمة التي يواجهونها الآن. لكن على الرغم من ذلك، تبقى بقعة ضوء بسيطة، إذ يتشارك اللاجئون في ما بينهم شعوراً جميلاً بالتضامن، وأوقاتاً جميلة، إذ يغنون ويعزفون الموسيقى سعياً للتغلب على الواقع المرير.
طوارئ
"معظم المرضى في العيادة الطبية في جوار مخيم موريا الذين تقدم لهم منظمة أطباء بلا حدود رعاية طبية خاصة، قد مروا بظروف صعبة خلال رحلتهم، بداية من بلدهم الأم، مروراً بتركيا، عبوراً بالبحر إلى حين وصولهم إلى موريا" بهذه العبارة يختصر تميم النجار، الناشط في مجال التوعية الصحية في عيادة منظمة أطباء بلا حدود للأطفال والرعاية الصحية للنساء في مخيم موريا، الوضع هناك.
انضم النجار إلى المنظمة نهاية عام 2015، وبالنسبة إليه فإنّ دور الوسيط الثقافي الذي يتولاه مهم جداً، إذ يعتبر صلة الوصل بين المريض والطاقم الطبي، وهو ينقل احتياجات المرضى من خلال فهمه لغة المهاجرين واحتياجاتهم. يتابع: "معظم المرضى يقولون لنا إنَّ مَن يمضي 3 أيام من حياته في مخيم موريا كمن يعيش عقوداً في بلدٍ يرزح تحت الحرب. يتمنى الناس لو أنهم ماتوا تحت القصف مرة واحدة بدلاً من الموت اليومي، كلّ يوم ودقيقة في مخيم موريا جراء الظروف المعيشية، خصوصاً العائلات التي لديها أطفال صغار يجهدون صحياً من الأمراض والظروف السيئة داخل المخيم". يشير النجار إلى أنّه يلتقي بمهاجرين مرضى من جنسيات مختلفة ويسعى إلى تكوين الثقة إلى جانب العلاقات الجيدة.
يضيف النجار: "في موريا حالة طوارئ. صحيح أنَّ طبيعة العمل هي نفسها يومياً، لكنَّ المواقف والأحداث مختلفة، وعمل الطوارئ مختلف جراء الصعوبات والتحديات التي نتعلم منها. نسعى جاهدين إلى تقديم الدعم المناسب لكلّ شخص في أمسّ الحاجة إليه ونبذل قصارى جهدنا لمساعدته. يقتضي عملي الميداني أن أكون في الصف الأول لناحية التواصل مع المرضى، ما يجعلني أقرب منهم وأكثر قدرة على التعبير عن احتياجاتهم. التحديات وكمية الضغط النفسي كبيرة جداً، خصوصاً أنّي أعمل مع الفريق الطبي في بيئة صعبة جداً لناحية مشاكل الناس الكثيرة والظروف الصعبة التي يواجهونها، وكيفية التعامل معها، ما يمثِّل تحدياً كبيراً. في عيادة موريا نقابل حالات عدة لأطفال يحاولون الانتحار بسبب التحديات الهائلة. الوضع صعب جداً نفسياً بالنسبة للأطفال، ما يفرض على سلطات الاتحاد الأوروبي ضرورة التحرك لإخلاء كلّ الحالات الخاصة داخل المخيم، حالات لا يمكن محوها من ذاكرتي".
محاولات انتحار الأطفال
يعيش مخيم موريا حالة طوارئ صحية ونفسية غير مسبوقة بين أوساط الرجال والنساء، تزداد حدتها في حالة الأطفال وتشهد عليها منظمة "أطباء بلا حدود" الطبية الإنسانية. وفي هذا الصدد، تدعو المنظمة إلى الإجلاء الطارئ للمحتاجين، خصوصاً الأطفال، إلى مآوي آمنة في البرّ اليوناني بشكل أساسي وداخل الاتحاد الأوروبي. وتعاين طواقم المنظّمة كلّ أسبوع الكثير من المراهقين الذين حاولوا الانتحار أو إلحاق الأذى بأنفسهم، وتستجيب إلى الكثير من الحوادث الخطيرة الناجمة عن العنف وإلحاق الأطفال الأذى بأنفسهم وانعدام فرص الحصول على الرعاية الطبيّة الطارئة، وتُسلّط الضوء على الثغرات الكبيرة في حماية الأطفال والأفراد الأكثر حاجة.
لاحظت طواقم المنظّمة، بين فبراير/شباط ويونيو/حزيران الماضيين، في مجموعة من الأنشطة النفسيّة للأطفال (بين 6 و18 عاماً)، أنّ نحو ربع الأطفال (18 من أصل 74) ألحقوا الأذى بأنفسهم أو حاولوا الانتحار أو فكّروا في الانتحار. يعاني الأطفال المرضى الآخرون من الصمت الاختياري ونوبات الذعر والقلق والانفجارات العدوانية والكوابيس المستمرة.
تجدر الإشارة إلى أنّه خلال الأسبوعَين الأولين من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي وحده، وصل أكثر من 1500 شخصٍ إلى ليسبوس، ومع غياب أي مساحة متبقية، ينامون الآن من دون مأوى ومن دون طعام كافٍ وفرصهم محدودة في الحصول على الرعاية الطبيّة.
وعالجت المنظمة كثيراً من الأطفال الذين وجد المستشفى أنّهم بحاجة إلى الرعاية في أثينا، لكن بسبب الافتقار إلى أماكن الإقامة في اليونان، لا يستطيع هؤلاء الحصول على الرعاية، ويُجبرون بالتالي على العيش في بيئة تتدهور فيها حالتهم الطبية والنفسية.