رصاص العراق... سماء مشتعلة في الأفراح والأتراح

29 أكتوبر 2018
نجت من تلك الرصاصة (وسام العقيلي/ فرانس برس)
+ الخط -


بعدما كان إطلاق الرصاص في المناسبات العراقية محصوراً في القرى، تمدّد ليطاول كذلك المدن، وراح يخلّف عدداً أكبر من الضحايا وخوفاً أعظم بين الناس.

لا تدعو رشقات الأسلحة النارية التي قد تدوّي في سماء أيّ من مدن العراق، إلى الفزع. في هذا البلد المبتلى بواقع أمني غير مستقر منذ سنوات غير قليلة، إطلاق الرصاص لا يعني خرقاً أمنياً أو اشتباكاً مسلحاً أو هجوماً ينفّذه إرهابيون على مجموعة من البشر. الناس اعتادوا على ذلك، لا سيّما أنّه يشير ربّما إلى أفراح أو أتراح.

الرصاص وسيلة للتعبير في مناسبة فرحة أو حزينة على حدّ سواء، وعادة مجتمعية غير مستجدة في البلاد لكنّها كانت تمارس غالباً في القرى والبوادي. ثقافة الناس الذين يسكنون المدن كانت قد شهدت تطوّراً في ما يخصّ العادات القبلية المتوارثة، وصاروا يعدّون إطلاق الرصاص تعبيراً عن شعور متخلّف. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ القانون يمنع ممارسة هذه العادة، ويتعرّض المخالف إلى عقوبة تقضي بالسجن والغرامة ومصادرة السلاح. ومن ضمن القرارات المحفّزة على منع هذه العادة، تخصيص مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن مطلق نار مجهول.

وكان القانون العراقي الخاص بإطلاق الرصاص قد وُضع حيّز التنفيذ في عام 1982، وبقي سارياً حتى الغزو الأميركي للبلاد في عام 2003. وعلى الرغم من عدم إلغائه من قبل الحكومات التي تعاقبت على البلاد بعد هذا التاريخ، فإنّه بقي معطّلاً بسبب انتشار السلاح، علماً أنّ ممارسي هذه العادة هم غالباً من المنتسبين إلى المليشيات أو القوى الأمنية. بالتالي، بات يصعب تطبيق هذا القانون.

لقطة من زمن الاحتلال الأميركي (واثق الخزاعي/ Getty)

باستمرار، ومنذ سنوات، تطالب منظمات مدنية وحقوقية بالإضافة إلى مواطنين كثيرين، بتفعيل القانون لمنع وقوع حوادث خطيرة تصل إلى حدّ الموت بسبب هذه العادة. واليوم، تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور لقتلى وجرحى مضرجين بالدماء بسبب خطأ في حمل السلاح وطريقة الرماية في أثناء مناسبات خاصة. ولا تتوقف المستشفيات عن استقبال أشخاص مصابين نتيجة سقوط رصاصات من الجو، ما يؤدي إلى وفاة بعضهم. وأخيراً، أعلن مستشفى جراحة الجملة العصبية، في العاصمة بغداد، في بيان، استقبال 54 إصابة بالرأس نتيجة الرماية العشوائية منذ مطلع العام الجاري وحتى الأول من سبتمبر/ أيلول الماضي، مبيناً أنّ المصابين أُنقِذوا بمعظمهم بعد إخراج الرصاص من رؤوسهم.

وأشار البيان إلى أنّه من بين الحالات 48 إصابة لذكور وستّ إصابات لإناث، مبيناً أنّ كلّ الحالات عانت من نزيف في الدماغ، وخلّفت الإصابات بمعظمها شللاً كلياً أو نصفياً، في حين ألحق بعضها ضرراً بالنظر فضلاً عن أضرار مختلفة أخرى. وقد أكد المستشفى في بيانه أنّ طواقمه وبعد إجراء اللازم من إسعافات وعمليات، تمكّن من إنقاذ مصابين، مشيراً إلى أنّ بعضهم تمكن من استعادة حركة أطرافه، في حين أنّ آخرين كانوا قد لقوا حتفهم قبل إدخالهم إلى غرفة العمليات، بسبب وصول الرصاصة إلى عمق الدماغ.




تجدر الإشارة إلى عدم توفّر إحصاءات حول عدد الإصابات بإطلاق النار العشوائي، غير أنّ جهة رسمية أو مدنية أو أخرى تشير دائماً إلى إصابات في هذا السياق، لا سيّما في المناسبات، كاحتفالات رأس السنة أو فوز المنتخب العراقي لكرة القدم في بطولة دولية ما.

في السياق نفسه، يتحدّث الدكتور محمد صلاح، وهو طبيب متخصص في الجهاز العصبي، عن "مناشدات أطلقتها مستشفيات وأوصلتها إلى وزارة الصحة من أجل تفعيل قانون يغلّظ العقوبة على مطلقي العيارات النارية"، مبيّناً أنّ "إصابات عدّة تصل باستمرار إلى المستشفيات، وثمّة من يتعرّض إلى إعاقات دائمة بسبب هذه الحوادث". يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "حوادث من هذا النوع تكون غالباً في الرأس، إذ إنّ الرصاص ينزل من أعلى الجوّ نحو الأرض، وبالدرجة الثانية في الكتف أو الصدر أو الظهر". ويشرح صلاح أنّ "ثمّة إصابات تضرب الحبل الشوكي (النخاع) وتؤدّي إلى شلل إمّا نصفي وإمّا كلي وإمّا جزئي بحسب نوع الإصابة وخطورتها. وفي بعض الأحيان، يصعب استخراج الرصاص لأنّ العملية الجراحية المطلوبة حساسة جداً، بالتالي يُفضَّل عدم إجرائها وإبقاء الرصاصة في داخل الجسم إذا لم يكن ثمّة ضرر في ذلك". ويلفت صلاح إلى أنّ "كل ذلك يحدث من دون أن يدرك مطلق الرصاص وهو يمارس هوايته أو تقاليده التي يتباهى بها، أنّه يرتكب مجازر بحقّ آخرين".

قبل ثلاثة أعوام، فقد زامل جواد (56 عاماً)، القدرة على المشي، لكنّه يعبّر لـ"العربي الجديد"، عن "سعادتي لأنّني ما زلت على قيد الحياة". هو كان قد وصل إلى حافة الموت بعد إصابته بثلاث رصاصات عن قرب، في أثناء احتفال أقيم في قريته بمناسبة ختان مجموعة من الصبيان الصغار. وجواد يسكن في قرية تابعة لمحافظة كركوك، شماليّ البلاد، اعتاد أهلها على إطلاق الرصاص الحيّ في الجو في مناسبات عدّة.

إطلاق الرصاص ابتهاجاً أمر مرجّح فور انتهاء المباراة (محمد الصواف/ فرانس برس)

ويخبر جواد بأنّه "في خلال اجتماع للأقارب داخل القرية، وقف رجال وسط باحة كبيرة تابعة لأحد البيوت، يشاركون أهلها فرحتهم بختان الأحفاد الصغار. وكانت زغاريد النسوة ترتفع، في حين راح رجال يذبحون الخراف لإقامة مأدبة غداء كبيرة تجمع سكان القرية الذين يفوق عددهم 300 شخص". يضيف أنّ "شبان القرية راحوا يطلقون الرصاص من أسلحتهم بين حين وآخر. صبيّ صغير رغب في تجربة إطلاق النار، وحين بدأ بالرماية لم يتمكّن من السيطرة على الرشاش الذي بين يدَيه، وعجز عن إبقاء فوهته موجّهة إلى الأعلى. فطاولت رشقة من الرصاص الموجودين، وأدّت إلى مقتل رجل وإصابتي مع أربعة آخرين". ويشير إلى أنّ "إصابتي كانت الأخطر بالمقارنة مع المصابين الآخرين، لكنّني أحمد الله لأنّني بقيت حياً. فأنا أصبت برصاصة في رأسي وأخرى في بطني وصلت إلى العمود الفقري، وكانت النتيجة شللاً في الأطراف السفلى".

ما يشعر به كثيرون عند رؤيتهم إصابات خطرة تعرّض لها آخرون، يدفعهم إلى منع أبنائهم من التوجّه إلى خارج منازلهم في خلال الاحتفالات أو المناسبات المختلفة التي يصار فيها إلى إطلاق النار في الجوّ. وتخبر مضاء مؤنس أنّها كانت شاهدة على "مأساة جيراني حين أصيب ولدهم الصغير بطلق ناري في رأسه، فخضع إلى عملية جراحية، لكنّه توفي بعد يومَين متأثراً بإصابته". تضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "مأساة جيراننا وقعت في أثناء احتفالات بمناسبة فوز منتخب العراق في بطولة آسيا بكرة القدم في عام 2007"، مشيرة إلى أنّ "احتفالات المواطنين وأفراحهم تتحوّل إلى كوارث وأحزان ومآس لدى آخرين". وتتابع مؤنس أنّ "الحادثة التي وقع جيراننا ضحيتها ليست الوحيدة، فأنباء كثيرة وردت عن إصابات أخرى. وللأسف، لم يكن هؤلاء الذين يحتفلون بتلك الطريقة ينصتون إلى مطالب الجهات الرسمية ومناشدات الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بوقف إطلاق النار". لذلك، تقول مؤنس: "أنا أمنع أولادي من الخروج في خلال أيّ مناسبة يُصار فيها إلى إطلاق النار، فرحة كانت أم حزينة. وقبل أيام على سبيل المثال، توفي أحد وجهاء حيينا، فمنعت ولدي من المشاركة في التشييع، مخالفة بذلك العرف السائد في مجتمعنا وتعاليم ديننا. أمّا السبب فإطلاق النار الكثيف في خلال الجنازة".




في السياق، يقول الرائد أحمد العبيدي، من وزارة الداخلية، إنّ "محاسبة مطلق النار في مثل هذه الحالات ليست أمراً سهلاً"، مبيناً لـ"العربي الجديد"، أنّ "الذين يطلقون النار في معظم الأحيان ينتمون إلى أجهزة أمنية أو هم عناصر مليشيات". يضيف العبيدي: "نستطيع القول إنّ نسبة كبيرة من الشعب مسلحة وتنتمي إلى تلك الأجهزة الأمنية أو المليشيات"، لافتاً إلى أنّ "الوضع في العراق منذ عام 2003 يُعَدّ خاصاً، بسبب الارتباك الأمني. في البداية كان الاحتلال (الأميركي) ثمّ ظهرت التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي ساعد في تعطيل بعض القوانين، ومنها إطلاق الرصاص عشوائياً". ويشدد العبيدي على أنّ "استقرار الوضع الأمني بصورة أكبر مستقبلاً، يكفل تطبيق القانون الذي من شأنه أن يحول دون هذا الخطر".