محكمة "بلا مبرّر"... الجنايات الفلسطينية الكبرى بصلاحيات فضفاضة

26 يناير 2018
هل يحال إلى محكمة الجنايات الكبرى؟ (مأمون وزوز/ الأناضول)
+ الخط -

في الثامن من يناير/ كانون الثاني الجاري، سرى مفعول القانون الذي أصدره الرئيس الفلسطيني محمود عباس والقاضي بإنشاء محكمة الجنايات الكبرى في فلسطين، والتي من شأنها النظر في الجرائم الكبرى.

تحفظات كثيرة لقيها قرار إنشاء محكمة الجنايات الكبرى في فلسطين، وسُجّلت مطالبات بإلغائه من قبل مؤسسات المجتمع المدني. فصلاحيات المحكمة فضفاضة، وما تملكه النيابة العامة فيها غير محدود ولا محدد، بحسب ما يرى خبراء ومتخصصون فلسطينيون يتابعون القوانين التي تسنّها السلطة الفلسطينية. بالتالي، يكون المتهم "تحت مقصلة" تلك المحكمة، حتى ولو كان جرمه سياسياً، وهو الأمر الذي يجعلها "معدّة لخصوم السلطة الفلسطينية".

"لا مبرر لإنشاء مثل هذه المحكمة". هذا ما يراه المستشار القانوني في مؤسسة "الحق" الفلسطينية عصام عابدين، الذي يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "القرار صدر عن الرئيس محمود عباس بموجب المادة 43 من القانون الأساسي، ويأتي تحت عنوان الضرورة التي لا تحتمل التأخير". لكن لا ضرورة بحسب مؤسسات المجتمع الفلسطيني (200 مؤسسة) لا تحتمل التأخير، والدليل على ذلك أنّه سبق له وألغى قانوناً بقرار تشكيل محكمة الجنايات الكبرى عام 2006. وهذا يُعَدّ موقف المشرّع الفلسطيني الذي ألغاها، لأنّه لا ضرورة لا تحتمل التأخير وفق القانون الأساسي، ولمخالفتها ضمانات المحاكمة العادلة.

ويوضح عابدين أنّ "اختصاص محاكم البدايات في فلسطين (ثماني محاكم) هو النظر في الجنايات الخطرة، والقانون حوّل اختصاص تلك المحاكم إلى محكمة الجنايات الكبرى. وعندما تنظر أيّ محكمة في الجنايات سوف يتحوّل الاختصاص إلى محكمة الجنايات الكبرى بعد تشكيلها. وهذا يطرح سؤالاً حول الهدف من تحويلها، لا سيّما أنّ محكمة البدايات كانت تنظر فيها". ويسأل عن "دور محاكم البدايات بعد تحويل اختصاصها كله إلى محكمة الجنايات الكبرى التي أخذت اختصاصات هائلة وخطيرة، من أبرزها الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي". ويرى أنّ "جرائم أمن الدولة هي جرائم فضفاضة واسعة تحمل تفسيرات متعددة، يمكن أن تُفسَّر بتفسير انتقائي. وبحسب قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقرّ منتصف العام الماضي، فإنّ الجرائم المرتكبة من خلال الشبكة الالكترونية سوف تحال إلى محكمة الجنايات الكبرى. وثمّة دليل واضح عندما أحالت محكمة صلح مدينة نابلس قضية الصحافي طارق أبو زيد إلى محكمة الجنايات الكبرى".

ويشير عابدين إلى أنّ "هذه المحكمة يُراد لها أن تكون العصا الغليظة للسلطة التنفيذية بهدف ملاحقة معارضي توجّهاتها ومنتقدي أدائها. وباتت ثمّة محاصرة تامة ومحكمة دستورية فرضت سطوتها وسيطرتها على النظام السياسي كله، وهي من قضاة من لون واحد". ويشدد على أنّ "محكمة الجنايات الكبرى صارت بمثابة الجلاد يلاحق وسوف يلاحق المعارضين والمنتقدين لأداء السلطة الفلسطينية أو الأجهزة الأمنية أو الجهة التنفيذية".


ويجزم عابدين بأنّ "هذه المحكمة تفتقر إلى ضمانات المحاكمة العادلة، وهي بالأساس تعطي صلاحيات واسعة للنيابة العامة لإصدار ما يسمّونه قرارات أو إجراءات وقرارات تحفظية. والنيابة تستطيع أن تأخذ أيّ إجراء تحت عنوان إجراء تحفّظيّ مثلاً، أي أنّ من الممكن منع مشتبه فيه من السفر لسنوات تحت ذريعة التحقيق من دون إجراء قضائي". ويؤكد أنّ "هذه المحكمة خطيرة جداً وإقرارها خطير جداً، في حين ثمّة موقف موحّد لمؤسسات المجتمع المدني يطالب بإلغائها".

من جهته، يقول نقيب المحامين الفلسطينيين جواد عبيدات لـ"العربي الجديد" إنّ "النقابة فتحت حواراً مع الجهات المعنيّة يستمرّ لمدة أسبوع. وفي حال جرى التوصل إلى إلغاء هذا القانون أو إدخال تعديل جوهري عليه فسوف تكون موافقة عليه. أمّا في حال لم تسر الأمور وفق المطلوب، فسوف تعمد نقابة المحامين إلى مقاطعة المثول أمام محكمة الجنايات الكبرى". وسوف يصدر قرار المقاطعة بشكل ملزم لكل المحامين، على أن يُفصَل من النقابة المحامي غير الملتزم. ويؤكد عبيدات أنّ "عدم تعامل المحامين مع المحكمة سوف يؤدّي إلى إفشالها، إذ لا يمكن لمحكمة الجنايات الكبرى أن تنعقد من دون وجود دفاع".

ويلفت عبيدات إلى أنّ "قانوناً وُضع للتحايل على المسميات، وهو إثارة النعرات، ويحوي في طياته عدداً كبير من الجنح التي لم تعد من اختصاص محكمة الصلح بل محكمة الجنايات الكبرى بعد إصدار هذا القانون. وهذه المحكمة وُضِعت من أجل انتزاع صلاحيات محاكم الصلح في موضوع الجنايات، على أن يبقى الأمر مفتوحاً في ما يخصّ قضايا أمن الدولة التي بقيت من دون تحديد". وإذ يؤكد عبيدات أنّ "وجود محكمة الجنايات الكبرى مهم مثلما هي الحال في بقية دول العالم"، يرى أنّ "لا حاجة اليوم لسنّ قانون في ظل غياب المجلس التشريعي الفلسطيني، ولا مواضيع اضطرارية لإنشاء هذه المحكمة".

في السياق، أعلنت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان الفلسطينية أنّها ليست ضدّ إقرار هذا القانون وليست ضد وجود محكمة متخصصة أو قضاء متخصص في بعض أنواع الجرائم، لكنّها تشير إلى ملاحظات تعدّها "خطيرة" إذ "قد تؤثّر سلباً على حق المتهم في الدفاع وتخلّ بإجراءات المحاكمة العادلة". فطالبت الهيئة بالتالي بعدد من التعديلات الأساسية.

محتجون فلسطينيون تهدّدهم المحكمة (عصام الريماوي/ الأناضول) 

ومن البنود التي تحفّظت عليها الهيئة بحسب ما يفيد مديرها عمار دويك "العربي الجديد"، هي "إدخال الجرائم الواقعة تحت إطار أمن الدولة ضمن اختصاصات هذه المحكمة، حتى لو كانت الجرائم جنحاً. ومن المفترض أن تنظر هذه المحكمة في الجنايات الكبرى كالقتل والتخابر والمخدرات وتسريب الأراضي للاحتلال". ويعترض دويك على "إدخال جرائم أمن الدولة مثل إثارة النعرات ضمن صلاحيات المحكمة، إذ هذه تهمة تستخدمها الأجهزة الأمنية بصورة روتينية لتوقيف المعارضين السياسيين في الضفة الغربية".

يضيف دويك أنّ "الهيئة تحفّظت كذلك على صلاحيات التوقيف التي مُنحت للنيابة العامة لمدّة أربعة أيام، ولتمديد التوقيف كلّما تظهر أدلة جديدة. فهذا يفتح بالتالي المجال أمام تجزئة الأدلة واستخدامها لتمديد الفترات من قبل النيابة وحدها من دون اللجوء إلى المحكمة". وإلى جانب التحفّظ على التدابير الاحترازية التحفظية، يتحدّث دويك كيف أنّ "القانون أعطى النيابة صلاحية اتخاذ أيّ تدابير تحفظية في مرحلة التحقيق من دون أن يحددها أو أن يربطها بإطار زمني محدد أو أن يضعها تحت إشراف القضاء. وهذا يعطي بالتالي صلاحيات واسعة للنيابة للقيام بأيّ شيء. على سبيل المثال، القانون يجيز للنيابة استجواب المتهم من دون حضور محاميه في حالة الضرورة والتلبّس، من دون تحديد ما هي هذه الضرورة، وبالتالي يُحرم المتّهم من حق أساسي من حقوقه". ويؤكد دويك أنّ "القانون أضعف محكمة الاستئناف ودورها في القضايا. ومحكمة الاستئناف في المحاكم العادية يمكنها أن تنظر مرافعة، أمّا في الجنايات الكبرى فيمكنها فقط النظر تدقيقاً. ويمكن أن تكون مرافعة بناء على طلب الخصوم ضمن ضوابط معينة". إلى ذلك، يحذّر دويك من "إدخال جرائم أمن الدولة المصوغة بالقوانين الثانية ببنود فضفاضة جداً، وهذا أمر خطير".

إلى ذلك، يرى الكاتب والمحلل السياسي جهاد حرب في حديث إلى "العربي الجيد" أنّ "هذا القانون خطأ، إذ إنّ الفلسطينيين في حاجة إلى تسريع إجراءات القضاء أمام المحاكم، وليسوا في حاجة إلى محاكم استثنائية أو خاصة تنظر في القضايا المعروضة على المحاكم". يضيف أنّ "محكمة الجنايات الكبرى تنظر في القضايا الكبرى مثل القتل وغيره، ولها إجراءات محددة تتمثل في اختصار المدة الزمنية للمحاكمة. لكنّ المشكلة هي في أنّ إجراءات القضاء الفلسطيني متباعدة، كذلك لا يعقد جلساته بسرعة".

ويتابع حرب أنّ "ثمّة مشكلة أخرى يعاني منها القضاء الفلسطيني وهي عدم قدرة المحاكم على الانعقاد في ظلّ عوامل عدّة، منها غياب الشهود في مناطق (ج) و(ب) الخاضعة إلى السيطرة الإسرائيلية، والذين لا تستطيع الشرطة الفلسطينية الوصول إليهم". ويكمل أنّ "الحاجة ملحة إلى إجراءات تنهي الاختناق القضائي، وإجراءات عملية في جلب الشهود والمتهمين أمام المحكمة". وإذ يؤكد "وجوب أن تكون المحاكمة عادلة"، يلفت إلى أنّ "قواعد وأسس المحاكمة العادلة لا تنظر إلى إجراءات استثنائية أو محاكم خاصة". ويشدّد حرب على "أننا في حاجة إلى تطوير القضاء الفلسطيني وتعزيز مكانته وليس الذهاب إلى محاكم جديدة أو استثنائية".