يعاني "جيل الاحتلال" في العراق من الأمّية إلى جانب كلّ شيء. فبينما هناك أكثر من خمسة ملايين عراقي أمّي فإنّ معظمهم من هذا الجيل الذي ولد أو نشأ بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
فالاحتلال ومن بعده الحروب، وانعدام الاستقرار الأمني ضربت قطاع التعليم أكثر من غيره، ما أدى إلى تحوّل العراق من واحد من أفضل بلدان المنطقة في التعليم وأقلها أمية إلى واحد من الأسوأ، فقد سجلت الأمية عام 1989 نسبة 0.9 في المائة فقط، فيما تصل اليوم إلى 18 في المائة من مجموع سكان البلاد وفقاً لتقرير أصدرته وزارة التخطيط العراقية العام الماضي. واللافت في الأمر أنّ 60 في المائة من أصل 5 ملايين و400 ألف عراقي أمّي هم من فئة الشباب، وهناك من يعتبر النسبة أكبر والأرقام أعلى مما تعلن الحكومة.
صائب حسان، أحد هؤلاء الشباب. هو يجيد كتابة اسمه الأول، لكنّه لا يعرف حروفاً أخرى غير "الصاد والألف والهمزة والباء" وهو ما علّمه جاره. صائب المولود عام 2001، ماهر جداً في الحدادة، التي زجه بها والده مذ كان في الخامسة من العمر. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه اكتسب خبرة كبيرة في خلال عمله المبكر في هذه المهنة، وافتتح محلاً خاصاً به قبل ثلاثة أعوام، وهو ينفق على أسرته التي تعيش حياة أفضل بسبب ذلك. الكثير من أصدقاء صائب أمّيون. يقول: "لكن لديّ مجموعة من الأصدقاء ممن يجيدون القراءة والكتابة، مع ذلك لم يكملوا تعليمهم الابتدائي. الظروف الحياتية الصعبة فرضت علينا ألّا نتعلم".
الشعور بالظلم يتوضح من خلال حديث صائب إذ يؤكد أنّه بالرغم من نباهته في السوق لكنّه تعرّض للنصب والاحتيال عدة مرات كونه لا يعرف القراءة ولا يجيد فهم الإيصالات وقوائم الشراء والبيع ولا حتى عدّ الأرقام وجمع الأسعار. يعلّق: "أنا وأصدقائي ظلمنا. ولدنا في أسر فقيرة، وآباؤنا لم يكملوا تعليمهم، هم فقط يجيدون القراءة والكتابة. كان أمام ذوينا خياران، إما زجنا في العمل لمساعدتهم في توفير ثمن المعيشة اليومية البسيطة، أو نكون كأقراننا تلاميذ في المدارس فنموت جوعاً". يستطرد: "اتخذوا الخيار الأول، فصرنا أميين لا نجيد القراءة والكتابة لكنّنا نعمل. هذا يشعرنا أننا أقل شأناً من الشباب الآخرين الذين واصلوا تعليمهم".
اقــرأ أيضاً
أمينة أ. (22 عاماً) أم لطفل يعاني من عدة أمراض. تقول: "أطرق الباب ليلاً على جارتي كي ترشدني إلى الدواء الذي يجب أن أعطيه لابني خوفاً من تكرار مشكلة سابقة كادت تفقده حياته بسبب علبة دواء أعطيته منها بالخطأ". تضيف: "أعاني كثيراً. حتى زوجي لا يضع كلمة دخول لهاتفه وكثيراً ما أراه يكتب، فأشك أنّه يتحدث مع فتيات لكن لا أعرف ماذا يقولون في الرسائل. وهو مرتاح جداً لهذا الأمر". تؤكد أمينة أنّها قررت أن تتعلم الكتابة والقراءة لكي تتخلص من عقدة الشعور بالنقص لكن بلا جدوى، فلا مراكز أو مدارس قريبة، كما أنّ رعاية طفلها المريض تحول دون ذلك.
في منطقة الشيخ عمر، وسط العاصمة بغداد، التي تعتبر من أكبر المناطق الصناعية في العاصمة، وأقدمها وأكثرها شهرة، قصص كثيرة تشير إلى الظلم الذي لحق بالطفولة. هناك آلاف المحال المتخصصة بتصليح السيارات، وآلاف الورش الصناعية المختلفة. وهناك كذلك كثير من الأطفال المنتشرين ابتداء من عمر الخامسة. ملابسهم متسخة بأنواع من الدهانات والأتربة، ووجوههم وأيديهم تدل على مزاولتهم مهناً متعبة، تتطلب جهداً بدنياً.
محمد وليد ابن السبع سنوات يقبل على العمل بنشاط، فهو يسمع باستمرار تشجيعاً من رب عمله الذي يصفه أمام عملائه بالذكي و"الكمبيوتر". محمد الذي تخلّف عن المدرسة تعلم كتابة الأرقام بالعربية واللاتينية، ويكتب اسمه الثلاثي ولقب "الشيخلي" الذي تحمله عائلته، ويعرف كلمات إنكليزية يقول عنها: "تعلمتها من أفلام كرتون سمبسون الذي أشاهده على اليوتيوب". في حديثه إلى "العربي الجديد" يقول عبد الله الجنابي صاحب ورشة ميكانيك السيارات التي يعمل فيها الطفل محمد إنّ "الحالة المادية الصعبة التي تمر بها أسرة محمد جعلتهم يزجون به في العمل، فوالده من الأشخاص ذوي الإعاقة، ووالدته تعمل في محل لبيع الملابس، وهناك أربع بنات يكبرن محمد". يضيف: "محمد ذكي جداً، ومثله عدد كبير من الصغار يعملون هنا في الشيخ عمر. مؤسف أن يكون مكانهم هنا وليس على مقاعد الدراسة، لكن ظروف عائلاتهم صعبة ولا خيار سوى العمل لمساعدتها".
اقــرأ أيضاً
من جهته، يقول محمد لـ"العربي الجديد" إنّه سيكمل دراسته: "ربما بعد سنتين أو ثلاث ستتحسن حال عائلتي، وسوف أدرس، وحينها سأعمل فقط في أيام العطلة".
المعارك الأخيرة في العراق أدت إلى نزوح عشرات آلاف العائلات في عدة محافظات، بعض النازحين توجهوا إلى مدن عراقية أخرى، فيما كانت الهجرة خارج البلاد مصير آخرين. هذا التهجير تسبب في منع التحاق أعداد كبيرة من الصغار بالمدارس، وإكمال بعضهم دراستهم، إذ كان خيار عائلات كثيرة الزج بصغارها في سوق العمل بعدما فقدوا في مدنهم أعمالهم التي كانت توفر لهم مصدر الدخل.
عمار عبد السلام الذي كان يطمح والداه في أن يكون مهندساً معمارياً، حرمته الأحداث التي مرت بها عائلته من تحقيق أولى خطوات حلم والديه، فحرم من الالتحاق بالمدرسة. عائلة عمار كانت تقطن في بغداد، واضطرت إلى النزوح في اتجاه محافظة الأنبار (غرب)، إثر اعتقال إحدى المليشيات الوالد وقتله بعد تعذيبه. ما كان من الأم سوى الهرب من بغداد إلى محافظة الأنبار، حيث سبقها بعض أقاربها الذين وقعوا ضحية للطائفية التي نشبت في البلاد بين عامي 2005 و2009.
توفير المعيشة اليومية كانت طموح العائلات الهاربة، بعد الحصول على الأمان، ما أجبر عمار وعدداً من أقرانه على العمل. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه كان حينها في السادسة، وعمل مع أطفال يكبرونه قليلاً في المنطقة الصناعية: "كنت أتنقل من عمل إلى آخر. عملت في ورش للنجارة والميكانيك، وعملت في بيع البنزين، وأيضاً عملت في المزارع، وفي جمع روث الحيوانات، وفي رعي الأغنام. كلما احتاج أحدهم عاملاً قدمت نفسي، وأحياناً كانوا يرفضونني لصغر سني، فبعض الأعمال تحتاج إلى قوة بدنية".
عمار كان يوفر لأسرته المكونة من أمه وابنتين تكبرانه قليلاً وشقيق يصغره بعامين، ما تحتاجه من مؤونة يومية، بحسب قوله: "ما كان يفرحني هو أنّ شقيقتي سما ونهى، وأخي بكر، واصلوا دراستهم، وكانوا يستيقظون باكراً للذهاب إلى المدرسة حينما أستعد للخروج إلى العمل".
مرة أخرى تهرب العائلة بحثاً عن الأمان، كان ذلك عام 2014، حين سيطر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على مدينة الأنبار. يقول عمار: "هذه المرة كانت الوجهة نحو أربيل، عاصمة إقليم كردستان، وهناك وجدت عملاً جيداً في مفقس للدواجن. عملت حارساً وعاملاً فيه، ووفر لنا صاحب المفقس بيتاً صغيراً، وواصل إخوتي دراستهم، وهذا أكثر ما يهمني".
عمار يقول إنّ جهله القراءة والكتابة أكثر ما يؤلمه، ويحاول أن يعوض ذلك في تفوق أختيه وشقيقه "اليوم سما ونهى تدرسان في الجامعة، وبكر في المرحلة النهائية من الدراسة الثانوية".
المحرومون من الدراسة، يؤكدون أنهم يشعرون بـ"نقص" وهم يرون أقرانهم يواصلون دراستهم، وآخرون يحملون شهادات جامعية، لكنهم يهتمون كثيراً في رسم مستقبل لعائلاتهم يختلف عما مروا به.
فصائب حسان يخطط مستقبلاً لإنشاء مصنع خاص لأعمال الحديد. يقول إنه يستمر في الاطلاع على مشاريع مصانع الحديد في العالم عبر الإنترنت. ويتابع: "غايتي أن أكوّن أسرة سعيدة وألاّ يعيش أولادي الفقر والحرمان. سوف أمكنهم من الدراسة في أفضل المدارس وأن يحملوا أعلى الشهادات".
اقــرأ أيضاً
محمد وليد، الذي يطلق عليه صاحب العمل لقب "الكمبيوتر" هو الآخر يفكر في المستقبل، يقول إنّه تعلم أسراراً كثيرة في مهنة الميكانيك، وتجارة أدواتها الاحتياطية، ومنها سينطلق إلى عالم الثراء، بحسب ما يخططه للمستقبل. يقول: "أولاً عليّ الاهتمام بعائلتي، أمي وإخوتي، وحين أكبر لن أدع أولادي يعيشون معاناتي، لكنّ همي الحالي هو الدخول إلى المدرسة، في بعض الأحيان أبكي وأنا أرى أصدقاء لي يحملون حقائبهم في ذهابهم إلى المدرسة وعودتهم منها".
من جهته، يعتبر عمار عبد السلام أنّه وبعد أعمال عديدة تنقّل فيها، أصبح يدرك كيف يدير المشاريع، وانتقاء المشروع الأفضل، مشيراً إلى أنه يسعى لامتلاك أرض زراعية واستغلالها في مشروع.
ليس فقط الفقر والحرمان ما يخشاه من عانى ويعاني من شظف العيش، على مستقبلهم ومستقبل أسرهم، بل هناك ما هو أخطر من ذلك، وأول تلك المخاطر أن الفقراء يكونون ضحايا سهلة للمليشيات والعصابات الإجرامية والاتجار بالجنس. يقول صائب إنّه تنقّل بين عدة ورش حدادة في بداية عمله "بسبب ميول بعض أصحاب هذه الورش الشاذة" مؤكداً: "بعض أقراني في بداية عملنا ونحن بأعمار صغيرة وقعوا ضحية أرباب العمل الشاذين. إنه أمر مقزز ومخيف، إذ يستغلون فقرهم وحاجتهم إلى المال وعدم إدراكهم". يقول إنّ الاستغلال يصدر من جهات كثيرة، موضحاً "اليوم وكوني صاحب ورشة مستقلة تستغلني المليشيات وتجبرني على إنجاز ما يحتاجون من أعمال خاصة بالحدادة من دون مقابل".
بدوره، يؤكد عبد الله الجنابي أنّه يحرص على "تعليم محمد مبادئ الإسلام. فنحن نصلي معاً داخل الورشة عند دخول أوقات الصلاة، وأمنعه من الاختلاط ببعض أقرانه ممن يعملون في ورش قريبة منا. أراقب سلوكه باستمرار وأقدم له النصائح، فهناك أشخاص ومجاميع يحاولون الإيقاع بالصغار واستغلالهم في الكثير من القضايا، والإرهاب أحدها".
أما عمار عبد السلام، فيرى في المليشيات أكبر خطر يهدد مستقبله، موضحاً "عشنا سنوات صعبة. قتلت المليشيات والدي وشردتنا، وحرمتني من الدراسة، لو لم تتعرض لنا المليشيات لما اضطررنا للهرب لنواجه لاحقاً ظلم وإرهاب داعش، ولما بتّ أمياً أجهل القراءة والكتابة".
ترتبط زيادة نسبة الأمية في العراق بشكل كبير بالفقر، بحسب مختصين، ثم ما آلت إليه تداعيات الأحداث في العراق، خصوصاً بعد غزو البلاد عام 2003. يقول المشرف التربوي محمد الجبوري لـ"العربي الجديد" إنّ العراق وبعد قضائه شبه التام على الأمية، في سبعينيات القرن الماضي، وتحوله إلى واحد من أكثر بلدان المنطقة تطوراً في نظم التعليم، تراجع بسبب الحروب والمشاكل الأمنية والاقتصادية، منذ الحرب مع إيران (1980- 1988) ثم الحصار الاقتصادي الذي فرض من قبل الأمم المتحدة عام 1990، نتيجة غزو الكويت، الذي أثر كثيراً في المجتمع.
يضيف: "النظام التربوي والتعليمي الرسمي تقهقر كثيراً في البلاد عقب 2003، نتيجة سوء الإدارة وانتشار الفساد بسبب المحاصصة الطائفية والحزبية التي قضت بتقاسم الوزارات، والبحث عن انتفاع مادي منها على حساب التعليم والمجتمع ومستقبل الأطفال ومصلحة الوطن".
وطبقاً لآخر إحصائية عن وزارة التخطيط صدرت عام 2015، يعد المجتمع العراقي فتياً، إذ تصل نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً إلى 42 في المائة.
فالاحتلال ومن بعده الحروب، وانعدام الاستقرار الأمني ضربت قطاع التعليم أكثر من غيره، ما أدى إلى تحوّل العراق من واحد من أفضل بلدان المنطقة في التعليم وأقلها أمية إلى واحد من الأسوأ، فقد سجلت الأمية عام 1989 نسبة 0.9 في المائة فقط، فيما تصل اليوم إلى 18 في المائة من مجموع سكان البلاد وفقاً لتقرير أصدرته وزارة التخطيط العراقية العام الماضي. واللافت في الأمر أنّ 60 في المائة من أصل 5 ملايين و400 ألف عراقي أمّي هم من فئة الشباب، وهناك من يعتبر النسبة أكبر والأرقام أعلى مما تعلن الحكومة.
صائب حسان، أحد هؤلاء الشباب. هو يجيد كتابة اسمه الأول، لكنّه لا يعرف حروفاً أخرى غير "الصاد والألف والهمزة والباء" وهو ما علّمه جاره. صائب المولود عام 2001، ماهر جداً في الحدادة، التي زجه بها والده مذ كان في الخامسة من العمر. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه اكتسب خبرة كبيرة في خلال عمله المبكر في هذه المهنة، وافتتح محلاً خاصاً به قبل ثلاثة أعوام، وهو ينفق على أسرته التي تعيش حياة أفضل بسبب ذلك. الكثير من أصدقاء صائب أمّيون. يقول: "لكن لديّ مجموعة من الأصدقاء ممن يجيدون القراءة والكتابة، مع ذلك لم يكملوا تعليمهم الابتدائي. الظروف الحياتية الصعبة فرضت علينا ألّا نتعلم".
الشعور بالظلم يتوضح من خلال حديث صائب إذ يؤكد أنّه بالرغم من نباهته في السوق لكنّه تعرّض للنصب والاحتيال عدة مرات كونه لا يعرف القراءة ولا يجيد فهم الإيصالات وقوائم الشراء والبيع ولا حتى عدّ الأرقام وجمع الأسعار. يعلّق: "أنا وأصدقائي ظلمنا. ولدنا في أسر فقيرة، وآباؤنا لم يكملوا تعليمهم، هم فقط يجيدون القراءة والكتابة. كان أمام ذوينا خياران، إما زجنا في العمل لمساعدتهم في توفير ثمن المعيشة اليومية البسيطة، أو نكون كأقراننا تلاميذ في المدارس فنموت جوعاً". يستطرد: "اتخذوا الخيار الأول، فصرنا أميين لا نجيد القراءة والكتابة لكنّنا نعمل. هذا يشعرنا أننا أقل شأناً من الشباب الآخرين الذين واصلوا تعليمهم".
في منطقة الشيخ عمر، وسط العاصمة بغداد، التي تعتبر من أكبر المناطق الصناعية في العاصمة، وأقدمها وأكثرها شهرة، قصص كثيرة تشير إلى الظلم الذي لحق بالطفولة. هناك آلاف المحال المتخصصة بتصليح السيارات، وآلاف الورش الصناعية المختلفة. وهناك كذلك كثير من الأطفال المنتشرين ابتداء من عمر الخامسة. ملابسهم متسخة بأنواع من الدهانات والأتربة، ووجوههم وأيديهم تدل على مزاولتهم مهناً متعبة، تتطلب جهداً بدنياً.
محمد وليد ابن السبع سنوات يقبل على العمل بنشاط، فهو يسمع باستمرار تشجيعاً من رب عمله الذي يصفه أمام عملائه بالذكي و"الكمبيوتر". محمد الذي تخلّف عن المدرسة تعلم كتابة الأرقام بالعربية واللاتينية، ويكتب اسمه الثلاثي ولقب "الشيخلي" الذي تحمله عائلته، ويعرف كلمات إنكليزية يقول عنها: "تعلمتها من أفلام كرتون سمبسون الذي أشاهده على اليوتيوب". في حديثه إلى "العربي الجديد" يقول عبد الله الجنابي صاحب ورشة ميكانيك السيارات التي يعمل فيها الطفل محمد إنّ "الحالة المادية الصعبة التي تمر بها أسرة محمد جعلتهم يزجون به في العمل، فوالده من الأشخاص ذوي الإعاقة، ووالدته تعمل في محل لبيع الملابس، وهناك أربع بنات يكبرن محمد". يضيف: "محمد ذكي جداً، ومثله عدد كبير من الصغار يعملون هنا في الشيخ عمر. مؤسف أن يكون مكانهم هنا وليس على مقاعد الدراسة، لكن ظروف عائلاتهم صعبة ولا خيار سوى العمل لمساعدتها".
المعارك الأخيرة في العراق أدت إلى نزوح عشرات آلاف العائلات في عدة محافظات، بعض النازحين توجهوا إلى مدن عراقية أخرى، فيما كانت الهجرة خارج البلاد مصير آخرين. هذا التهجير تسبب في منع التحاق أعداد كبيرة من الصغار بالمدارس، وإكمال بعضهم دراستهم، إذ كان خيار عائلات كثيرة الزج بصغارها في سوق العمل بعدما فقدوا في مدنهم أعمالهم التي كانت توفر لهم مصدر الدخل.
عمار عبد السلام الذي كان يطمح والداه في أن يكون مهندساً معمارياً، حرمته الأحداث التي مرت بها عائلته من تحقيق أولى خطوات حلم والديه، فحرم من الالتحاق بالمدرسة. عائلة عمار كانت تقطن في بغداد، واضطرت إلى النزوح في اتجاه محافظة الأنبار (غرب)، إثر اعتقال إحدى المليشيات الوالد وقتله بعد تعذيبه. ما كان من الأم سوى الهرب من بغداد إلى محافظة الأنبار، حيث سبقها بعض أقاربها الذين وقعوا ضحية للطائفية التي نشبت في البلاد بين عامي 2005 و2009.
توفير المعيشة اليومية كانت طموح العائلات الهاربة، بعد الحصول على الأمان، ما أجبر عمار وعدداً من أقرانه على العمل. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه كان حينها في السادسة، وعمل مع أطفال يكبرونه قليلاً في المنطقة الصناعية: "كنت أتنقل من عمل إلى آخر. عملت في ورش للنجارة والميكانيك، وعملت في بيع البنزين، وأيضاً عملت في المزارع، وفي جمع روث الحيوانات، وفي رعي الأغنام. كلما احتاج أحدهم عاملاً قدمت نفسي، وأحياناً كانوا يرفضونني لصغر سني، فبعض الأعمال تحتاج إلى قوة بدنية".
عمار كان يوفر لأسرته المكونة من أمه وابنتين تكبرانه قليلاً وشقيق يصغره بعامين، ما تحتاجه من مؤونة يومية، بحسب قوله: "ما كان يفرحني هو أنّ شقيقتي سما ونهى، وأخي بكر، واصلوا دراستهم، وكانوا يستيقظون باكراً للذهاب إلى المدرسة حينما أستعد للخروج إلى العمل".
مرة أخرى تهرب العائلة بحثاً عن الأمان، كان ذلك عام 2014، حين سيطر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على مدينة الأنبار. يقول عمار: "هذه المرة كانت الوجهة نحو أربيل، عاصمة إقليم كردستان، وهناك وجدت عملاً جيداً في مفقس للدواجن. عملت حارساً وعاملاً فيه، ووفر لنا صاحب المفقس بيتاً صغيراً، وواصل إخوتي دراستهم، وهذا أكثر ما يهمني".
عمار يقول إنّ جهله القراءة والكتابة أكثر ما يؤلمه، ويحاول أن يعوض ذلك في تفوق أختيه وشقيقه "اليوم سما ونهى تدرسان في الجامعة، وبكر في المرحلة النهائية من الدراسة الثانوية".
المحرومون من الدراسة، يؤكدون أنهم يشعرون بـ"نقص" وهم يرون أقرانهم يواصلون دراستهم، وآخرون يحملون شهادات جامعية، لكنهم يهتمون كثيراً في رسم مستقبل لعائلاتهم يختلف عما مروا به.
فصائب حسان يخطط مستقبلاً لإنشاء مصنع خاص لأعمال الحديد. يقول إنه يستمر في الاطلاع على مشاريع مصانع الحديد في العالم عبر الإنترنت. ويتابع: "غايتي أن أكوّن أسرة سعيدة وألاّ يعيش أولادي الفقر والحرمان. سوف أمكنهم من الدراسة في أفضل المدارس وأن يحملوا أعلى الشهادات".
من جهته، يعتبر عمار عبد السلام أنّه وبعد أعمال عديدة تنقّل فيها، أصبح يدرك كيف يدير المشاريع، وانتقاء المشروع الأفضل، مشيراً إلى أنه يسعى لامتلاك أرض زراعية واستغلالها في مشروع.
ليس فقط الفقر والحرمان ما يخشاه من عانى ويعاني من شظف العيش، على مستقبلهم ومستقبل أسرهم، بل هناك ما هو أخطر من ذلك، وأول تلك المخاطر أن الفقراء يكونون ضحايا سهلة للمليشيات والعصابات الإجرامية والاتجار بالجنس. يقول صائب إنّه تنقّل بين عدة ورش حدادة في بداية عمله "بسبب ميول بعض أصحاب هذه الورش الشاذة" مؤكداً: "بعض أقراني في بداية عملنا ونحن بأعمار صغيرة وقعوا ضحية أرباب العمل الشاذين. إنه أمر مقزز ومخيف، إذ يستغلون فقرهم وحاجتهم إلى المال وعدم إدراكهم". يقول إنّ الاستغلال يصدر من جهات كثيرة، موضحاً "اليوم وكوني صاحب ورشة مستقلة تستغلني المليشيات وتجبرني على إنجاز ما يحتاجون من أعمال خاصة بالحدادة من دون مقابل".
بدوره، يؤكد عبد الله الجنابي أنّه يحرص على "تعليم محمد مبادئ الإسلام. فنحن نصلي معاً داخل الورشة عند دخول أوقات الصلاة، وأمنعه من الاختلاط ببعض أقرانه ممن يعملون في ورش قريبة منا. أراقب سلوكه باستمرار وأقدم له النصائح، فهناك أشخاص ومجاميع يحاولون الإيقاع بالصغار واستغلالهم في الكثير من القضايا، والإرهاب أحدها".
أما عمار عبد السلام، فيرى في المليشيات أكبر خطر يهدد مستقبله، موضحاً "عشنا سنوات صعبة. قتلت المليشيات والدي وشردتنا، وحرمتني من الدراسة، لو لم تتعرض لنا المليشيات لما اضطررنا للهرب لنواجه لاحقاً ظلم وإرهاب داعش، ولما بتّ أمياً أجهل القراءة والكتابة".
ترتبط زيادة نسبة الأمية في العراق بشكل كبير بالفقر، بحسب مختصين، ثم ما آلت إليه تداعيات الأحداث في العراق، خصوصاً بعد غزو البلاد عام 2003. يقول المشرف التربوي محمد الجبوري لـ"العربي الجديد" إنّ العراق وبعد قضائه شبه التام على الأمية، في سبعينيات القرن الماضي، وتحوله إلى واحد من أكثر بلدان المنطقة تطوراً في نظم التعليم، تراجع بسبب الحروب والمشاكل الأمنية والاقتصادية، منذ الحرب مع إيران (1980- 1988) ثم الحصار الاقتصادي الذي فرض من قبل الأمم المتحدة عام 1990، نتيجة غزو الكويت، الذي أثر كثيراً في المجتمع.
يضيف: "النظام التربوي والتعليمي الرسمي تقهقر كثيراً في البلاد عقب 2003، نتيجة سوء الإدارة وانتشار الفساد بسبب المحاصصة الطائفية والحزبية التي قضت بتقاسم الوزارات، والبحث عن انتفاع مادي منها على حساب التعليم والمجتمع ومستقبل الأطفال ومصلحة الوطن".
وطبقاً لآخر إحصائية عن وزارة التخطيط صدرت عام 2015، يعد المجتمع العراقي فتياً، إذ تصل نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً إلى 42 في المائة.