جنوب العراق... فقر وعشائر وأحزاب ومليشيات

06 سبتمبر 2017
في تظاهرة ضدّ الفساد في البصرة (حيدر الأسدي/ الأناضول)
+ الخط -

يعيش سكان محافظات جنوب العراق أوضاعاً صعبة، وسط الفقر وغياب الأمن وسيطرة العشائر والأحزاب والمليشيات. بعض هؤلاء رأوا في النزوح والهجرة مفراً لهم، أمّا آخرون فوجدوا أنفسهم مرغمين على البقاء.

بطلاقة لافتة يتحدّث سعيد فاضل اللغة الكردية، لدرجة أنّ من لا يعرفه من الأكراد يظنّه واحداً منهم. وفاضل ابن الرابعة والعشرين، كان قد وصل إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، قبل نحو عام ونصف العام فقط آتياً من محافظة البصرة في أقصى الجنوب.

يقرّ فاضل بأنّه لم يكن يجيد التحدّث بالكردية قبل وصوله إلى أربيل، لكنّه نجح سريعاً في إقامة علاقات جيّدة مع الأكراد بسبب عمله، فهو بارع في ميكانيك السيارات. ولم يكن قد مضى على وجوده هناك ستّة أشهر، حتى صار ينافس نظراءه الأكراد من العاملين في مجاله، ويجني شهرياً نحو 4.5 ملايين دينار عراقي (نحو أربعة آلاف دولار أميركي).

يلفت فاضل لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ في إمكانه العمل في مدينته البصرة وكسب مبلغ مشابه تقريباً لما يكسبه في أربيل، إلا أنّ "مشكلات كثيرة تعيشها المحافظة" اضطرته إلى ترك مدينته وأهله. ويوضح أنّ "لا قانون يُطبَّق على الجميع في مدينتنا. ثمّة مسلحون يعطلونه ويفرضون قوانينهم الخاصة من دون أيّ رادع من قبل الحكومة". يضيف أنّ "القوانين العشائرية التي سادت في السنوات الأخيرة هي ما يطبَّق، وقد هُدّدت عائلتي بالقتل إن لم أنفّذ تلك القوانين". ويخبر أنّه دهس بسيارته طفلاً كان يجتاز الشارع ركضاً في منطقة غير مخصصة للعبور، فصدمه. ويؤكّد على أنّ الطفل لم يُصب إلا بشقّ بسيط في رأسه. ويتابع أنّ "شهود عيان أدلوا أمام الشرطة بأقوالهم لصالحي مشيرين إلى أنّ الطفل فاجأني عند اختراقه الشارع، لكنّ والده لجأ إلى الحكم العشائري".

ويتابع فاضل: "لمّا رفضت تنفيذ ما فُرِض عليّ عشائرياً من دفع فدية، عمدت عشيرة الطفل إلى تهديد عائلتي بالسلاح، فاضطررت أخيراً إلى تنفيذ أوامرهم ودفعت مبلغ 10 آلاف دولار. ومنذ ذلك الحين قررت الهرب من مدينتي نحو مكان يطبَّق فيه القانون".

تجدر الإشارة إلى أنّ إقليم كردستان العراق المؤلّف من ثلاث محافظات شمالية، هي أربيل والسليمانية ودهوك، يتميّز بنظام أكثر صرامة في تنفيذ القانون بالمقارنة مع بقيّة مناطق العراق، الأمر الذي جعله ملجأ للعائلات الهاربة من العنف في مدن العراق المختلفة.




فقر وجرائم وهجرة

يفيد آخر تصريح رسمي حول نسبة الفقر في العراق، بحسب المتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي، والصادر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بأنّ نسبة الفقر في العراق تتخطى 30 في المائة، وهذه النسبة آخذة بالارتفاع. إلى ذلك، تسجّل آخر تقارير وزارة الداخلية العراقية أكثر من 900 جريمة كمعدّل شهري في مدن جنوبي العراق، تتسبب في أكثر من نصفها المليشيات والعصابات المنظمة، وكذلك عمليات السرقة والسطو المسلح والمشاجرات التي تفضي الى إصابات مميتة وعمليات الاتجار بالأعضاء البشرية والمخدرات.

ويدفع هذا الواقع بالتزامن مع عجز قوات الأمن العراقية عن وضع حدّ لتصاعد الجرائم، بعدد كبير من الشباب إلى الهجرة من تلك المحافظات في اتجاه بغداد أو كردستان العراق. أمّا آخرون، فقد ركبوا البحر انطلاقاً من تركيا في اتجاه دول أوروبية عدّة بحثاً عن مستقبل أفضل.

في سياق متصل، كان فاضل قد وفّر فرص عمل لأربعة شبان لجأوا من محافظات جنوبية إلى أربيل بحثاً عن فرصة وهرباً من "حكم المليشيات"، بحسب قوله. ويشير إلى أنّ "عماد شراد، وهو أحد هؤلاء الشبان، لم ينجح في العثور على وظيفة حكومية على الرغم من أنّه يحمل شهادة جامعية". من جهته، يقول شراد لـ"العربي الجديد"، إنّه "من المفترض أن يساعدني المؤهّل الجامعي ويسهّل حصولي على تعيين حكومي"، من دون جدوى.

يضيف الشاب الذي يتحدّر من محافظة المثنى (جنوب)، والذي حصل على شهادة في الإدارة والاقتصاد قبل خمسة أعوام، أنّ "مجال العمل أصبح محدوداً في المثنى، ولم أستطع توفير احتياجاتي الخاصة، في حين يتوجّب عليّ مساعدة والدي في مصروف عائلتنا الكبيرة المؤلفة من 11 فرداً".

الفقر وانعدام فرص العمل ليسا السبب الوحيد الذي دفع شراد إلى اتخاذ قرار السفر إلى أربيل والعمل هناك، فهو يشكو من "سطوة المليشيات وظلمها". ويوضح أنّ "المليشيات تدعم العشائر التي تصول وتجول هي الأخرى في المدن، الأمر الذي يؤدّي إلى انفلات الأمن". فهو كان قد تعرّض لضرب مبرح من قبل عناصر يتبعون للمليشيات، والسبب هو، بحسب ما يقول، اعتراضه على "إطلاقهم النار في الهواء وإرهاب الناس". ويخبر أنّ "رجلاً مسنّاً كان يقود سيارته ببطء في الشارع، فأطلق أحد المسلحين الرصاص في الهواء وراء سيارة الرجل المسنّ. كنت واقفاً في المكان، فرفعت لهم يدي معترضاً وطلبت منهم ألا يطلقوا النار فيرهبوا الناس. على الأثر، ترجّل ثلاثة مسلحين من سيارتهم وضربوني حتى أدموني".

وكانت المليشيات قد تمكّنت من فرض سطوتها على الشارع العراقي نتيجة الدعم الذي تتلقاه من قبل أحزاب وشخصيات حكومية نافذة. وقد نجحت المليشيات في ضمّ أعداد كبيرة من شبان المحافظات الجنوبية في صفوفها، إذ رأى فيها هؤلاء فرصة عمل مناسبة لشريحة واسعة من الشباب العاطلين من العمل. وهي إلى جانب الراتب الشهري الذي توفّره، فإنّها تؤمّن للمنتسبين إليها الحصانة والقوة، بحسب ما يؤكده كثيرون من هؤلاء العاملين في صفوفها لـ"العربي الجديد".

حيدر كاظم على سبيل المثال، شاب في العشرينيات من عمره، لم ينهِ دراسته الابتدائية وكان يعمل مع عمّه في البناء، لكنّه وجد في الانضمام إلى المليشيات "طريقاً أفضل لتحقيق رغباتي". إلى جانب المرتّب الجيّد، تتلخص رغبات حيدر بأن يهابه الناس، وأن يحمل سلاحاً فردياً هو مسدس من نوع "غلوك" الأميركي بينما هو في ملابس مدنية، من دون أن يتجرأ أي رجل أمن على محاسبته بسبب ذلك. يضيف في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ "ما كنت أحلم به تحقق، بل إنّ كثيرين من أقاربي وجيراني يقصدونني لأتدخل في حلّ مشكلات تعترضهم".




فساد ومحاصصة

تجدر الإشارة إلى أنّ المحافظات الجنوبية في العراق تتمتّع بموارد اقتصادية وبشرية هائلة، إلا أنّ سكانها يعدون أفقر العراقيين. ويعيد متخصصون السبب إلى المحاصصة الطائفية التي يجري على أساسها تقاسم السلطات في البلاد.

بالنسبة إلى الأستاذ في جامعة البصرة، الدكتور عباس الشمري، فإنّ "الفساد هو السبب الرئيس وراء تدهور أوضاع المحافظات في جنوب البلاد". ويقول في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "المحافظات الجنوبية كانت تتمتع باستقرار أمني كبير، ولو استُغلّ هذا الوضع لكانت مدنها تنافس المدن المتطوّرة في المنطقة". ويدعم الشمري رأيه بالإشارة إلى بيئة تلك المدن الجاذبة، شارحاً أنّ "البصرة تتمتع بشط العرب وبإطلالة بحرية على الخليج، وهي أغنى مدن العراق بالنفط. وتضمّ البصرة بالإضافة إلى محافظتَي ميسان والناصرية، الأهوار (مستنقعات مائية تمتد على نحو 20 ألف كيلومتر مربّع) إلى جانب ما تحويه المحافظات الجنوبية من معادن مختلفة وبيئة جاذبة".

من جهة أخرى، يشير الشمري إلى أنّه وعلى الرغم من كل ما سبق، فإنّ "المحافظات الجنوبية تعاني من بنية تحتية متهالكة، والسبب تفشي الفساد. والفساد ولّدته الأحزاب التي تسلمت إدارة المحافظات وفقاً للمحاصصة". يُذكر أنّ الأحزاب العراقية لجأت منذ بدء عهد سياسي جديد عقب الغزو الأميركي للبلاد في عام 2003، إلى نظام المحاصصة الذي يعتمد على توزيع المناصب وفقاً لحصص الكتل السياسية والطوائف والديانات والقوميات.

والأحزاب التي سيطرت على مدن جنوب العراق، وبهدف "الحفاظ على وجودها وبقائها والانتفاع من الفساد"، لم تعتمد، بحسب ما يقول الشمري، على "الكفاءات في إدارة المشاريع ووضع الخطط لتطوير المحافظات. بدل ذلك، سلّمت تلك المهام لأشخاص وأطراف موالين لها". ويتابع أنّه "بهدف بقائها، دعمت تلك الأحزاب المليشيات والعشائر ووفّرت فرص عمل وخصّصت مشاريع لقادة في المليشيات وشيوخ عشائر. وفي المقابل، فإن تلك الأحزاب صارت إلى جانب شخصيات سياسية خطاً أحمر لا يجرؤ الناس على المساس بها مهما كان حجم الفساد الذي تظهره".