حرمت الحرب في سورية العديد من المناطق والمدن من كوادرها الطبية، ومنها محافظة إدلب التي استهدف النظام مستشفياتها ومراكزها الطبية ما أدى إلى مقتل كثير من الأطباء والكوادر الطبية وهجرة آخرين.
اليوم، ومع استمرار الزيادة السكانية في المحافظة نتيجة عمليات النزوح إليها، تبدو الحاجة إلى الرعاية الطبية أكثر إلحاحاً من السابق، خصوصاً تجاه تخصصات محددة، إذ يعاني المرضى من عدم القدرة على الوصول إلى الطبيب المختص والمؤهل لتشخيص وعلاج حالتهم. أبرز التخصصات الطبية التي يندر وجود طبيب لها في المنطقة هي الغدد والأطفال والعيون والكلى، بالإضافة إلى الجراحة العامة والعصبية، فيما تتوفر تخصصات الباطنية والنسائية والصحة العامة بأعداد أقل من الحاجة اللازمة.
"الشكوى لغير الله مذلة، لم أجد طبيباً حتى بعدما أصيبت عيني بالعمى" تعلق ماجدة (54 عاماً، مدرّسة من ريف إدلب) حول معاناتها في تشخيص وعلاج مرضها. تمسك بيدها كيساً أبيض متخماً بعلب الأدوية، وتسأل: "من يصدق أنّ هذا الكيس لامرأة في عمري؟ كلما رأيته شعرت أني سأموت غداً". تتابع: "كلما ذهبت إلى طبيب طلب مني أن أترك الأدوية السابقة لآخذ أدوية جديدة، حتى صارت عندي هذه المجموعة. خلال 3 أشهر فقط راجعت سبعة أطباء، وما زالت حالتي تزداد سوءاً".
وفقاً للأطباء الذين قابلتهم ماجدة شخصت إصابتها بمرض السكري في مرحلة متقدمة، وبالإصابة بالمياه البيضاء في إحدى عينيها بسبب المرض. تقول: "لم أعرف بالسكري حتى بدأت أشكو من عدم الرؤية في عيني اليسرى، ذهبت بداية إلى إدلب المدينة ولم أجد متخصص عيون، فقابلت طبيباً ما زال يتابع تخصصه، فشخّص إصابتي بالمياه البيضاء، وطلب مني التواصل مع طبيب آخر ليحدد لي العلاج. كان الأخير في تركيا وطلب مني أن أنتظر زيارته إلى سورية لأقابله، في هذه الأثناء صرت أبحث هنا وهناك، ولم يبق مركز أو مستشفى لم أذهب إليه، سواء لعلاج السكري أو البحث عن طبيب عيون. طلب مني البعض صراحة أن أسافر إلى مناطق سيطرة النظام فهناك عدد أوفر من الأطباء المختصين، لكنّي لم أجرؤ فلديّ ابن مطلوب لأمن النظام".
بعد انتظار عدة أشهر، استطاعت ماجدة مقابلة الطبيب المختص في منزله، لكنّها في ذلك الحين كانت قد فقدت نحو 90 في المائة من بصرها في العين المصابة. تقول: "كان الطبيب قد جاء إلى سورية في إجازة عيد الفطر الماضي، وحين قابلته كنت منهارة ويائسة وصرت أرجوه أن يخلصني مما أنا فيه. فحصني في المنزل ولم تكن لديه المعدات ولا الأجهزة اللازمة، فقال لي إنّي أحتاج إلى عملية وساعدني بتحديد موعد لإجرائها في أحد المستشفيات الحدودية مع تركيا". بعد عناء استطاعت السيدة إجراء العملية: "لا أعرف إن كنت سأرى بعيني اليسرى مجدداً، لكنّ أملي بالله كبير أن أستعيد بصري تدريجياً".
شذى شابة من ريف إدلب (25 عاماً) تطوعت منذ بداية الثورة السورية في أعمال طبية كغيرها من الشابات والشبان بدافع مساعدة المصابين والجرحى، وهو ما أكسبها خبرة في الإسعافات وبعض الفحوص الطبية. تعمل شذى اليوم في عيادة أحد أطباء الصحة العامة في مدينة أريحا. تقول: "لا يشعر بمعاناة المرضى إلا من يجالسهم ويحادثهم في غرف الانتظار في العيادات والمستشفيات. يومياً، نستقبل في العيادة أكثر من 45 مريضاً. يأتي إلينا مرضى من أهالي المنطقة والنازحين من مختلف القرى والبلدات المجاورة. رأيت مرضى وهم يتوسلون الطبيب لإجراء جراحة لهم لأنّهم لم يجدوا مختصاً يجريها. بالأمس، راجع العيادة شاب نازح من ريف دمشق مصاب باضطراب عصبي مع والده المسنّ. قال لنا الوالد إنّه لم يجد طبيب أمراض عصبية يفحص ولده حتى الآن. الأسوأ في هذه الحالات أنّ الأهالي يجدون صعوبة بالغة في التعامل مع الأمراض العصبية أو النفسية كالصدمات، فتتدهور حالة المريض بشدة".
استقرار الأطباء في المحافظة غير مستقر إذ يتنقلون كثيراً بين المدن وتركيا لدوافع العمل أو لدواع طبية. ويساعد تطبيق الهدنة عادة في تشجيع كثير من الأطباء على العودة إلى المحافظة، ما يؤدي إلى تحسن مؤقت في مستوى الرعاية الطبية.
إحسان طبيب يعمل متنقلاً بين المناطق المحررة وفي المستشفيات الحدودية فيما تقيم عائلته في تركيا. يقول: "أتنقل بين ريف جسر الشغور وإدلب والريحانية. وبعد كلّ عملية استهداف للمستشفيات كنت أعود إلى تركيا مجدداً بضغط من عائلتي وأطفالي، وبعد حين أعود إلى الداخل السوري بضغط من بعض المرضى والممرضين وإدارة المستشفى".
من جهة أخرى، وبالرغم من توفر عدد من التخصصات الأخرى كالنسائية، ووجود عدد لا بأس به من الأطباء الموزعين في المحافظة إلا أن أعدادهم ما زالت أقل بكثير من الاحتياجات. تقول وفاء، وهي سيدة حامل من جبل الزاوية : "قطعت عدة كيلومترات لأصل إلى عيادة تعمل في قرية مجاورة، بالرغم من أتّي في الشهر التاسع من الحمل. انتظرت 8 ساعات في غرفة الانتظار، لأتمكن من مقابلة الطبيبة لمدة لم تتجاوز خمس دقائق. طوال الفترة السابقة كنت ألجأ إلى قابلة قانونية لمتابعة حملي بسبب عدم وجود أي طبيب في قريتي. وبالرغم من توسلي للطبيبة للإشراف على ولادتي اعتذرت قائلة إنّها لم تعد تشرف إلا على الولادات الخطرة وإلا لن تجد وقتاً للنوم. تفهّمت الأمر لكني قلقة منذ ذلك الحين، إنّها المرة الأولى التي ألد فيها من دون طبيب، تروادني الهلوسات فماذا لو أصابني شيء خلال الولادة ولم تستطع القابلة أن تفعل شيئاً، ربما أموت قبل أن يتمكنوا من إيصالي إلى أحدهم".