المسيحيون العراقيون... خوفاً من البطش وبحثاً عن الأمان (5 /8)

30 سبتمبر 2017
من بصمات داعش في الموصل (سافي حامد/ فرانس برس)
+ الخط -
طبقاً لما يتفق عليه كلّ من المؤرخين البلاذري في "أنساب الأشراف" والطبري في "تاريخ الأمم والملوك" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" وغيرهم أنّه في المكان الذي أقيمت عليه مدينة بغداد كان هناك دير فيه عدد من الكهنة، وأنّ أبا جعفر المنصور دعا إليه كبيرهم وسأله عن مناخ المنطقة التي يريد أن يبني فيها عاصمة خلافته، وماذا تقول كتبهم عنها. وقد أجابه الكاهن مؤكداً صلاحية المكان لسكنى الخليفة وأهل بيته وحاشيته وجنوده والناس، وأنّ كتبهم تقول إنّ هذه المدينة تحيا وتتوسع وتستمر إلى يوم القيامة. عند ذلك صمّم الخليفة على ما اعتزمه وكلّف المهندسين بإعداد خريطة العاصمة الموعودة.

مهاجرون

يُستدل من روايات سابقة حول الفتوحات الإسلامية ومن هذه الرواية أنّ الوجود المسيحي في العراق كان راسخاً ومكيناً خلاف ما يتوهم بعضهم من أنّ العراق كان يدين بالزرادشتية وهي العقيدة الفارسية القديمة. ويبدو من روايات متعددة أنّ المذاهب المسيحية كانت منتشرة في عموم المدن والأرياف العراقية قبل الفتوحات الإسلامية، وأنّ السلطة الكسروية كانت مع من حولها تتمذهب بالزرادشتية، لكن كانت للمسيحية الهيمنة على الفضاء الثقافي والاجتماعي بعد الفتوحات ولقرون طويلة. وهو ما يطرح السؤال المحزن حول ما تبقى من هذا الوجود؟
يقدَّر عدد المهاجرين المسيحيين العراقيين في المرحلة الحالية بنحو مليون نسمة. وهذه الهجرة هي جزء من هجرة أو لجوء يصل لدى العراقيين إلى نحو أربعة ملايين عراقي. ومثل هذا العدد وأكبر من النازحين. هذا التدهور في عدد المسيحيين سابق لظهور الربيع العربي، وكانت محطته المفصلية هي الغزو الأميركي وسقوط الرئيس صدام حسين مسبوقاً بالحصار والحرب الأميركية على العراق نهايات القرن الماضي ومطالع القرن الحالي.

يُقدّر المتابعون للوجود المسيحي في العراق أنّ أعداد الذين هجروا هذا البلد من المسيحيين بسبب أعمال العنف والاستهداف التمييزي وغياب الاستقرار الأمني ليس من السهل تحديده لعدم توافر أرقام ومعلومات دقيقة عن توزّع العراقيين طوائفياً في الإحصاءات التي كان يجريها النظام العراقي السابق. ويرى المتابعون أنّ نحو 800 ألف مسيحي، كانوا يعيشون على الأراضي العراقية عشية الهجوم الأميركي على العراق في مارس/ آذار 2003، معظمهم من الطائفة الكلدانية الكاثوليكية. ويتمثل المسيحيون العراقيون اليوم بخمسة نواب في مجلس (برلمان) مؤلف من 275 نائباً، وبوزير واحد في الحكومة الفدرالية.

بغداد

المسيحية هي الديانة الثانية في العراق لجهة عدد الأتباع بعد الإسلام بطائفتيه الشيعية والسنية، ومعترف بها في الدستور العراقي الذي يعترف بأربع عشرة طائفة مسيحية في العراق ويسمح بالتعبد بها. يتوزع أبناؤها على عدة طوائف ويتحدث غالبيتهم اللغة العربية كلغة أم، فيما نسبة قليلة منهم تتحدث السريانية والأرمنية. وتبعاً لإحصاء جرى في عام 1947 كانت نسبة المسيحيين في العراق 3.1 في المائة أي نحو 149 ألف نسمة من أصل أربعة ملايين ونصف كانوا إجمالي سكان العراق. وقدّر عددهم في الثمانينيات بين مليون ومليوني نسمة من المجموع. لكنّ التسعينيات شهدت انخفاضاً في أعدادهم تحت وطأة حربي الخليج الأولى والثانية ومضاعفاتهما السياسية والاقتصادية والمعيشية. أما بعد احتلال الولايات المتحدة العراق فقد تصاعدت وتيرة هذا المنحى بعدما رافقت تلك المرحلة وتبعتها أعمال عنف طائفي عصفت بالبلاد ونجم عنها تهجير عدد كبير من مسيحيي ضاحية الدورة في العاصمة بغداد، بالإضافة إلى مسيحيي المدن الأخرى. وقد سارت هذه الهجرة في خطين: داخلي نحو إقليم كردستان العراق الذي ظل آمناً ولم يعرف هذا الانفلات الطائفي العنيف، وخارجي خصوصاً نحو بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.

يوجد المسيحيون في العراق في المحافظات كافة تقريباً، لكنّ وجودهم يتركز في العاصمة بغداد حيث أكبر تجمع سكاني لهم، وفي منطقة سهل نينوى شمال العراق. كذلك، يوجدون في دهوك وأربيل والموصل والبصرة والعمارة والحلة وبعقوبة والحبانية وكركوك وغيرها، ولهم كنائس فيها.

أضاء شمعة (سافين حميد/ فرانس برس) 


"داعش"

لكنّ موجة النزوح والهجرة الأولى أعقبتها موجة أعتى مع تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" نظاماً إرهابياً هو دولة الخلافة الإسلامية، ولا سيما مع إعلان قيام الخلافة من مدينة الموصل تحديداً التي كانت تضم أقلية مسيحية مهمة وشيعية وإيزيدية مقابل أكثرية سنية. وعندها تعرّض المسيحيون أكثر من غيرهم إلى كارثة إنسانية كان مدخلها عمليات التمييز التي تعرضوا لها بسبب انتمائهم الديني، فقد جرى وضعهم بين خياري التخلي عن دينهم أو الجزية أو القتل. وخلال هيمنة هذا التنظيم صودرت أموالهم وممتلكاتهم وتمت مطاردتهم في مدنهم وقراهم وخربت كنائسهم حتى بات عددهم الآن في العراق بأكمله لا يزيد على نصف مليون مواطن.

وقد شهد العراق خلال هيمنة "داعش" على أجزاء واسعة منه أعلى وتيرة من عمليات التمييز والقهر عبرت عن نفسها بعمليات القتل والاغتصاب والخطف والاستعباد، وسرقة وتدمير المواقع الدينية، والإجبار على تغيير الديانة، وطلب الخوّة، والاستيلاء على الممتلكات، واستهدف التنظيم جماعات لا تقول بقوله من المسلمين وغيرهم. ومع أنّ الدستور العراقي يكفل حرية العقيدة والممارسة الدينية، فالحماية الحكومية لم تتحقق يوماً، وكان وما زال الانتماء الديني - الطائفي حاسماً في البناء السياسي والهيمنة على مفاصل ومراكز القرار، وقرارات التوظيف والحصول على الحد الأدنى من الخدمات والحقوق المعترف بها. كلّ هذا وغيره قاد إلى استمرار العنف، وتخريب البُنى المجتمعية، وبالطبع طاول التخريب الأحياء والمدن والقرى، وأرغم مئات الألوف من المسيحيين على الرحيل، والملايين من غير المسيحيين.



الدستور العراقي الذي تمّ إقراره أولاً عام 2005 وتمت صياغته النهائية عام 2013 لم يوفر شروط الاستقرار الذي ساد المراحل الماضية من عمر الدولة العراقية، بدلالة الفشل في تحقيق عملية الاندماج الوطني وما نتج عنها من صياغات غير منصفة للهوية الوطنية العراقية. وفي مجتمع يُدار من خارج المواد والآليات التي يقررها الدستور، وتتحكم به قوى متداخلة من رسمية طائفية إلى مليشاوية تطيح حقوق الجماعات الضعيفة (أقليات طائفية وإثنية: سنّة، مسيحيون، إيزيديون، صابئة. وعرب، تركمان، أشوريون، كلدان وغيرهم) والأفراد وحرياتهم الأساسية، كحق الحياة والتملك والتعبير. وقد قادت هذه الأوضاع التي تداخلت فيها القوى المحلية بالخارجية إلى تأجيج الفتنة الطائفية واستخدام الإكراه وتكريس نموذج حكم الأغلبية الطائفية على حساب الهوية الوطنية والعربية والاندماج الوطني.

الوجود المسيحي في العراق كان راسخاً (سفين حميد/ فرانس برس) 


كردستان

من المعروف أنّه لدى سقوط حكم الدولة العثمانية ودخول العراق تحت سلطة بريطانيا، كانت العلاقات المسيحية - الإسلامية في هذه البلاد، كما في معظم الدول العربية، مقبولة، باستثناء المرحلة التي شهدت، في مطلع الثلاثينيات، انتفاضة الأشوريين وقمعها بطريقة عنيفة أدت إلى سقوط آلاف الضحايا. وقد أعقبها تأكيد القيادات الكلدانية الدينية تمسكها بالعراق ودولته وبالهوية الوطنية والعربية للعراق. كذلك، لعب القادة الروحيون والسياسيون المسيحيون دوراً مهماً في مواجهة الطموحات التركية بإلحاق الموصل وضمه إلى أراضيها، وعزّز هذا الموقف من دورهم الوطني. وخلال المرحلة الاستقلالية شغلت الكوادر المسيحية بالنظر إلى كفاءاتها العلمية وزارات أساسية في الدولة العراقية، مثل وزارة المال، ومراتب في الإدارة ومرافق الدولة غير الحساسة. فالدرجات العالية في الجيش وفي مجمل دوائر الدولة الرئيسية بقيت محظورة عليهم حتى الحرب الطاحنة مع إيران في الثمانينيات.

وخلال سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي تمتع المسيحيون بحقوقهم الدينية، كما برز عدد قليل منهم على الساحة السياسية العراقية، أهمهم من دون منازع كان طارق عزيز الذي تسلّم منصبي وزارة الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء، وهو أعلى منصب شغله مسيحي في العراق. لكنّ مجلس النواب شهد ضموراً للحضور المسيحي، علماً أنّ نسبة المسيحيين من مجمل عدد سكان العراق قد ارتفعت بين عامي 1953 و1984 من نحو 3.1 في المائة إلى 3.5 في المائة. لكنّ الرئيس صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى وتحت وطأة الضغوط والأوضاع الداخلية المتردية حاول اللعب على العصبية الإسلامية لاستثارة شعوب الدول العربية المحيطة به على حكامها وأنظمتها التي تحالفت مع الدول الغربية لمواجهته إثر اجتياحه الكويت في أغسطس/ آب 1990.

بعد ذلك أتى حصار العراق ثم احتلاله ليفاقم الهجرة المسيحية، ولا سيما عندما توسعت عمليات التفجير والقتل والخطف لتستهدف المسيحيين ودور عباداتهم ومؤسساتهم. وقد تركزت الاعتداءات عليهم في بغداد والموصل، ما أدى إلى موجات نزوح جماعية منهما، وكذلك من البصرة حيث تراجعت أعدادهم تراجعاً ملحوظاً، من غير أن تتمكن السلطات المحتلة والرسمية العراقية من اتخاذ التدابير الكفيلة بحمايتهم.

في المقابل، سعت حكومة إقليم كردستان العراق إلى تشجيع عمليات جذب اللاجئين العراقيين المسيحيين إليها، وقدمت لهم التسهيلات لإقناعهم بالبقاء في هذا الإقليم، بالنظر إلى حاجتها القصوى لكفاءاتهم العلمية والإدارية وقدرات بعضهم المالية، من خلال توفير أجواء من الحماية والاستقرار والحرية الدينية الأوسع. وعليه، وفيما كان السائد في العراق هو المد الأصولي السني والشيعي (هناك ما لا يقل عن 84 تنظيماً شيعياً يملك الكثير منها أذرعاً مسلحة، وقد بات تشكيل الحشد الشعبي شرعياً، بالإضافة إلى عشرات التنظيمات السنية عشائرية وغيرها) كان إقليم كردستان الكردي العراقي يتمتع بجاذبية كبرى كونه قدم نفسه ملاذاً للمسيحيين وغيرهم من أقليات مضطهدة.

على الصعيد التاريخي، لعب المثقفون المسيحيون في العراق دوراً مهماً في نهضته الأولى لدى انتقال الحكم من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية وتحول بغداد إلى مقر للخلافة، وشاركوا بفعالية ملموسة في بناء الحضارة الإسلامية ودفعها إلى مستوى العالمية. وقد برز المسيحيون خصوصاً السريان والنساطرة منهم في العلوم والأدب والرياضيات والصيدلة والفلك. وكان الطب شبه امتياز لهم، والعديد من أطباء الخلفاء كانوا من المسيحيين، وهناك أسر توارثت هذه المهنة عدة أجيال مثلهم مثل المنجمين. وكانوا ذوي مكانة في قصور الخلفاء وبلاطات الأمراء والقادة ما دعا إلى الاعتماد عليهم في مجالات اختصاصهم وعلومهم.

يعيش العراق الآن محنة عامة تطاول أبناءه جميعاً، لكنّها أكثر ما تصيب الأقليات المضطهدة، ما يجعل الكثيرين يترحمون على ظلم البعثيين الذي لم يكن على علاّته مذهبياً، فقد ضمن حرية العبادة للجميع، وحمى الأقليات الدينية من الاضطهاد. الآن يرحل الجميع بمن فيهم الشيعة المتنورون والسنّة والمسيحيون خوفاً من السلطات والتنظيمات السلفية، والمتطرفة سنّية وشيعية على حد سواء. تنظيمات لا تتورع عن أعمال القتل ونسف الكنائس والمساجد ما أدى إلى هجرة معظم المسيحيين العراقيين - آشوريين وكلدان- بحثاً عن أمنهم الشخصي والعائلي.

(باحث وأستاذ جامعي)