أمهات معاصرات

21 اغسطس 2017
هذا الوقت لهما (روب ستوثارد/ Getty)
+ الخط -
مع نمط حياة جديد لعائلات ينهكها العمل، وتضطر لاستقدام عاملات ومربيات، تتغير العلاقة بين الأفراد، إذ تتبدّل الأدوار الأساسية التي يخيّل لبعضنا أنها صلبة وجوهرية، خاصة تلك التي تتعلق بالأم والأب وأولادهما الصغار.

تتذكر الثلاثينية ليلى، والتي صارت أمّاً منذ قرابة السنتين، جزءاً من طفولتها السعيدة. لا يخلو هذا الجزء الخاص من حضور غامر للجد الذي كان يرافقها إلى البحر، ويصنع لها بيديه أرجوحة في الضيعة، ويسقيان معاً شجيرات وأحواض ورد زرعها الجد في ساحة الدار.

لكننا الآن في حديقة صغيرة خاصة بالأطفال على أطراف بيروت، ومثل هذه الحدائق نادرة الوجود في لبنان. الدخول إليها غير مجاني، بل مكلف لمتوسطي الحال فما بالك بالفقراء، حيث تقع عيوننا على مشهد عائلي جديد يخالف تماماً ما كانت عليه الحال مع ليلى وجدّها.
بمرحٍ لا ينقصه الشغف تلاعب العاملة المنزلية الإثيوبية سالام الطفل حمزة، فيما والده يدخّن في مكان غير بعيد عنهما. يجلس الأب مع زوجته إلى طاولة، بينما تنقل سالام حمزة من الأرجوحة إلى مساحة رملية قريبة، مستمرة في مداعبة الطفل الذي بدا سعيداً.

ليس هذا بمشهد غريب في أيامنا هذه، وهو ربما علامة على تفكك العائلة الكبيرة، إذ لا نجد أثراً للجد أو الجدة برفقة الأطفال، بينما يزداد حضور المربّيات، اللاتي تتعدد أدوارهن، وتتضاءل العلاقة الحميمة بين الأبوين وأطفالهما.

طيلة الوقت الذي قضته العائلة الصغيرة في الخارج، كان للمربية المنزلية الدور الأكبر فيه، فهي التي تتولى الاعتناء والملاعبة، وهما حيزان نفسيان حميمان لتوطيد علاقة الطفل بوالديه.
ربما جاء الزمن الذي تتحوّل فيه العاملات المنزليات إلى أمهات، فالأفعال المادية والملموسة واليومية، وهي الوسيط الحميم الذي تتجذر فيه العلاقة الأبوية وتترسخ، جلّها من نصيبهن، كتنظيف الطفل وتغيير ملابسه وإطعامه والتنزه معه وملاعبته، حتى تعليمه المشي والكلام، فيما الأم تراقب حسن قيام العاملة بدورها، وتكاد بذلك تتحوّل إلى طرف أجنبي في هذه العلاقة شديدة الألفة. فهي التي "تصدر الأوامر"، غير أنها في الوقت ذاته الأبعد عن طفلها، وهذا أمر غريب وربما يستهجنه البعض ويرى فيه اختصاصيون اجتماعيون نقصاً في العاطفة وغياباً قسرياً للمحبة والاعتناء. وربما يكون الأمر نتيجة اضطرار الوالدين للعمل، وضيق الوقت عليهما لإيلاء اهتمام أكبر بأطفالهما. كما أنه علامة على غياب دور الجدّين التقليدي. وإذا ما كان أحدنا قريباً من الأطفال في هذه الحديقة التي تبدو قديمة ومرتبة ومكلفة في آن واحد، فسوف يجد نفسه محاطاً بعاملات أقرب إلى أمهات معاصرات.

المساهمون