عمّال مستعبدون... أوروبا تلبس ما يخيطه صغار العالم الثالث

01 مايو 2017
يوضّب أقمشة في دكا (سبنسر بلات/ Getty)
+ الخط -

اليوم هو الأوّل من مايو/ أيار. في حين يحتفل عمّال العالم بيومهم، ثمّة آخرون يُستغلّون في صناعة الملابس الأوروبية. هؤلاء منسيّون، بينما ينادي من يستغلّهم بـحقوق الإنسان.

تعبّر جمعيات الرفق بالحيوان في الغرب، وتحديداً في غرب أوروبا وأميركا، عن امتعاض شديد إزاء استغلال الحيوانات والصيد الجائر الذي يستهدفها. وبينما يندّد هؤلاء بقتل الفيلة لاستغلال عاجها وبقتل التماسيح لدباغة جلودها أو بطريقة الذبح الحلال، فإنّ انتهاكات غير مرئية أو لا تعني سوى بعض نقابات عمالية وشخصيات مهتمّة تُرتكب في حقّ أطفال آسيا ونسائها. هؤلاء يعملون في مصانع لا تصلح أن تكون في مدن الغرب، في حين يزوّدون مستهلكي الغرب بما يستر أجسادهم.

أربعة أعوام مرّت على كارثة انهيار مصنع خياطة ملابس "رانا بلازا" في العاصمة البنغلادشية دكا، التي تجاوز عدد ضحاياها ثلاثة آلاف قتيل وجريح. فصباح 24 أبريل/ نيسان من عام 2013 وخلال ثوان معدودة، انهار مبنى المصنع المؤلّف من تسع طبقات على العاملين، وجلّهم من النساء، مخلفاً ألفاً و127 ضحية وأكثر من ألفَين و500 جريح.

مرّت المأساة وما رافقها من انتقادات دولية لطريقة إنتاج ملابس مستهلكي الغرب، تماماً مثلما مرّ حريق معمل دكا للأغلفة البلاستيكية قبلها في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 الذي فقد 117 عاملاً خلاله حياتهم. من هؤلاء من يصنّفون في الغرب أطفالاً أو قصّرا. واليوم، يُحكى عن أكثر من أربعة آلاف و500 معمل جديد، تُشغَّل فيها ماكينات الخياطة وسط ظروف يصفها المهتمون بـحقوق الطفل والعمال بأنّها "العبودية بعينها".

حيال ذلك، ينقسم الغربيون. ثمّة من يرى في مصانع العبودية والموت تلك "فرصة لا بدّ منها لتوظيف الفقراء"، في ما يشبه التبرير لتفادي أيّ جدال حقوقي وإنساني يتعلّق بالاستغلال واختلال توازن العلاقة بين الشمال المتخم بالثراء والجنوب المعدم. أمّا آخرون فيرون فيه نموذجاً صارخاً لنفاق غربي حول حقوق العمال الاستنسابية.

دم الفقراء

قبل أن يحلّ عصر العولمة وتحوّل العالم إلى "قرية كونية"، كان الاستغلال الرأسمالي يهرق دم الفقراء. ولا يستطيع أحد إهمال استغلال الأطفال لدرجة تصل إلى حدّ الرق في أفريقيا بهدف إنتاج الشوكولاتة الفاخرة في أوروبا، ولا استغلالهم هم وغيرهم في مزارع البنّ في أميركا اللاتينية خلال فترات الاستعمار الجديد وثم نقل الإنتاج إلى الدول المعدومة حيث الإنتاج السريع بأبخس التكاليف إرضاء للأسواق الأوروبية والمجتمعات الثرية.

تعترف منظمات حقوقية في بعض الدول الأوروبية بأنّ ظروف عبودية الشغل في آسيا تترافق مع تهديدات بالموت تستهدف كل نقابي يحاول تسليط الضوء على جشع الغرب ومن يتعامل معه من برجوازيين محليين. ويشعر نقابيون يساريون في الشمال الأوروبي بأسى إزاء انحسار مفهوم التضامن بين العمال في مقابل تضامن أقوى وعابر للحدود والجنسيات لدى الرأسماليين الذين يجرفون في طريقهم كل من يقف بوجههم. ويرفع هؤلاء النقابيون الصوت متوجّهين إلى المستهلك، كمحاولة أخيرة لعلّه يدرك حجم الكارثة في الجنوب، على الرغم من أنّ الأمر شاق وطويل المسار. يُذكر أنّ ثمّة مستهلكين، ما إن يستشعرون بعضاً من "تراجيديا" نساء مصانع الألبسة وأطفالها، يتوجّهون نحو "تجارة عادلة". لكنّهم يجدون أنفسهم من جديد عرضة للنهب ولاستغلال في نوع آخر.

هل يعلمنَ من خاط الملابس التي اشترينها؟ (العربي الجديد)


استغلال متزايد

مشكلة المستهلك، سواء أكان ألمانياً أم دنماركياً أم من أيّ جنسية أوروبية أخرى، هي أعمق من مجرّد ماركة ألبسة محددة. فمصانع الموت إلى ازدياد على الرغم من حوادث الانهيار والاحتراق وعلى الرغم من كلّ التقارير الأممية والمتخصصة المستنكرة. والقضية ليست في كيفية بناء مصنع وطريقة تأمينه، بل تتعلق بالذين يشتغلون فيه وبأجورهم وحقوقهم وما إلى ذلك. فالفساد المحلي في دول معينة ممزوجاً بتحالف المنتجين الذين نقلوا مصانعهم إلى تلك الدول، بات يسهّل توسيع الإنتاج بطريقة لا تتيح للمستهلك التمييز. وهذا ما تبيّنه دراسات متخصصة في أساليب الاستغلال والالتفاف على القوانين.

ويتوسّع مفهوم سلسلة متاجر الألبسة لتنتشر محلات الماركات المعروفة لا سيما مع تزايد المراكز التجارية. هكذا يتزايد الاستغلال، لتمتدّ مصانع تلك الماركات إلى بورما/ ميانمار مع الخطورة نفسها التي تُسجّل في بنغلادش والهند. ووفقاً لتقرير متخصص صادر عن "مركز البحوث حول تعاون الشركات المتعددة الجنسيات" في فبراير/ شباط الماضي، فإنّ شركات غربية تستغل الانفتاح من خلال تشغيل 12 مصنعاً جديداً للنسيج بيد عاملة من الأطفال والقصّر وبأجور تقلّ عن الأجور المحلية، أي بما لا يتجاوز دولارَين أو ثلاثة دولارات في اليوم. وهؤلاء العمّال بحسب التقرير، يعيشون حالة رقّ "فيُجبرون على العيش في ما يشبه السجون، إذ يُمنعون من التواصل مع العالم الخارجي". وينقل أحد الباحثين عن طفل قاصر قوله: "لا أريد أن أشتغل، لكنّني لا أملك أيّ خيارات أخرى".

في السياق، قفول المسؤولة عن التواصل في الفرع الدنماركي لـ"حملة ملابس نظيفة" المهتمة بعمالة الأطفال واستغلال الآسيويين، هيلي لوستو: "حين يقبل الناس العمل بأجور منخفضة وشروط عمل غير لائقة، يكون ذلك تعبيرا عن يأس". وتضيف جازمة: هؤلاء الذين ينتجون الملابس التي يرتديها الأوروبيون يعملون 60 ساعة أسبوعياً في مقابل 2.2 دولار، ضحايا لجريمة "من جرائم العبودية".

حقوق العمال؟

إلى ذلك، فإنّ الاتحاد الأوروبي الذي يصدر القوانين المتعلقة بكيفية تسمين الدجاج وإنتاج لحومها وكذلك بالحدّ الأدنى للأجور، يشيح بنظره عن "تسمين" شركاته خلف البحار. وعلى سبيل المثال، منذ عام 2011، تجاهل الاتحاد الظروف التي تنتج فيها شركاته في بورما ملابسها. يُذكر أنّ ثمانية مصانع يملكها أوروبيون من بين 12 مصنعاً. وتشير أرقام الاتحاد الأوروبي وببعض تفاخر، إلى أنّ تصدير بورما من الملابس إلى دوله "يزيد اليوم عن 80 بالمئة". وأقصى ما تطلبه تقارير الاتحاد السابقة (2015) هو "ألا تفكّر شركات الإنتاج في بورما بخرق حقوق العمال".

ويبقى الوضع في بنغلادش معبّراً عن الاستغلال الجشع الذي تمارسه شركات أوروبية لإنتاج الألبسة. فالتقارير المختصة في هذا المجال تتحدث عن أكثر من أربعة ملايين شخص يعملون في هذا القطاع منذ سنوات. وقد وصلت الأجور إلى مستويات غير مسبوقة في التدني، نتيجة احتياجات الناس وفقرهم. وفقاً لتلك التقارير يتعرّض الناس في دكا لاعتقال وتهديد من قبل الشرطة إن حاولوا التظاهر أو الاحتجاج "ويصار إلى إسكات النقابيين بالتهديد بالقتل". وفي تقرير بعنوان "مخيطة العالم" أصدرته نقابة "3 إف" التي تهتم بالعمالة في الدنمارك وحول العالم، تناشد النقابة بعد عرض "الظروف الرهيبة للعمل في تلك المخيطة"، التفكير ملياً بما يشترونه من ألبسة رخيصة وأين تُصنع قبل عرضها في محلات بهيجة".

ولعلّ نقابة "3 إف" تدرك أنّه في عالم اليوم، حيث ينتشر جشع الرأسماليين ليبلغ مستويات مخيفة، الملاذ الأخير لهؤلاء البشر المستعبَدين في العالم الثالث هم البشر المستهلكون. فتشدّد على أنّ "مستهلكينا يدفعون نحو عمالة الأطفال وتوسيع انتهاكات الحقوق الأساسية ونشر الخوف والعنف ضدهم. إنّه ثمن تدمير بيئة العمل التي تكلف أرواحاً بشرية كما حدث في رانا بلازا".

في المقابل، ترى شركات غربية مغطّاة سياسياً وكذلك بعض البرجوازيين أنّ ذلك يعمل على "درء توافد اللاجئين والمهاجرين". لكنّ وجهات جديدة للاستغلال تُستحدث. في تايلاند، بدأت الشركات تستغل اللاجئين من أطفال وبالغين في مدينة ماي سوت على بعد ستّ ساعات من بانكوك، في خياطة ماركات عالمية تُباع في متاجر اسكندنافية بأسعار غير تلك التي تخصص للبضائع المنتجة في مصانع غربية. أكثر من مائة مصنع، وفقاً لمنظمة العفو الدولية تستغلّ اللاجئين، ومن يحتجّ يُطرَد إلى بورما، على الرغم من توقيع البلد على اتفاقيات مع منظمة العمل الدولية والأمم المتحدة حول مكافحة استغلال اليد العاملة والتمييز.

هل اشترينَ بضائع مجبولة بعرق أطفال مستغَلّين؟ (العربي الجديد)


انتشار مقلق

تنتشر عمليات استغلال اليد العاملة الفقيرة في فيتنام وتايلاند وبورما وبنغلادش والهند وغانا وساحل العاج والكونغو. وتختلف تلك العمليات بحسب البلد. ففي حين تورّد الكونغو الذهب مستفيدة من عمالة القصر والأطفال، فإنّ قاطفي الكاكاو في غانا وساحل العاج وغيرهما لا يعرفون طعم الشوكولاتة المنتجة في الشركات الأوروبية التي تشغّلهم.

في 1996، صرّحت منظمة العمل الدولية بضرورة "الانتهاء التام من عمل الأطفال في ظروف أشبه بالرق" بحلول عام 2016. لكنّ ذلك الهدف المرسوم، لم يحقق وفقاً لتقارير المنظمة نفسها ومنظمات غير حكومية في أوروبا ودول الاستغلال. يُذكر أنّه في عام 2008 هربت شركات متعددة الجنسيات من الأزمة الاقتصادية العالمية نحو دول أخرى في العالم الثالث.

إلى ذلك، تقوم بنغلادش منذ بداية عام 2017، بالتضييق أكثر فأكثر على النقابيين ومنظمات حماية حقوق الأطفال العاملين عبر سجن هؤلاء استناداً إلى "قانون التخريب". وهو ما جرى فعلاً في يناير/ كانون الثاني الماضي بحقّ 34 نقابياً عُزِلوا عن العالم الخارجي لإسكات الأصوات الأخرى، فيما وجّهت تهم بالشغب لنحو 300 عامل.

المفزع بالنسبة إلى المنظمات الحقوقية أنّ بنغلادش تستخدم قانون عقوبات من الحقبة الاستعمارية الإنكليزية يتّهم المحتجين بـ"تخريب اقتصاد البلد" ويعطي السلطات حقّ سجن هؤلاء مدى الحياة. والمنظمات الحقوقية في الدنمارك ترى هذا القانون حماية لشركات الإنتاج الغربية التي تصمت تماماً عن الثمن الذي يدفعه المشتغلون لديها. يُذكر أنّ الدنمارك وحدها تستورد ملابس مصنّعة هناك بنحو مليار يورو.

تجدر الإشارة إلى أنّ وسائل الإعلام في بنغلادش مملوكة لرجال أعمال في قطاع النسيج وحياكة الملابس. أمّا ملاك المصانع فلهم نفوذ سياسي برلماني، إذ إنّ 10 في المائة من الأعضاء هم ملاك مصانع الألبسة أو أقرباء لهم. لذا، فإنّه من الصعب أن تصل أصوات هؤلاء المُستغلين.

وتلحظ بعض النقابات والمنظمات اليسارية ازدواجية في مواقف حكومات غربية. ففي حين ترتفع أصوات حكومات دول أوروبية كالدنمارك والسويد وألمانيا وبريطانيا حول "حقوق العمال الآسيويين وظروفهم" في دول خليجية، تقف تلك الحكومات نفسها شبه صامتة إزاء ما ترتكبه شركاتها في حقّ مئات القصر والفتيات في بنغلادش والهند وغيرهما.