الشهداء لا يموتون.. إبراهيم ادكيدك: شهيد مجزرة الأقصى الأولى قبل 27 عاما

12 أكتوبر 2017
مازالت والدته تتذكر تفاصيل يومه الأخير (العربي الجديد)
+ الخط -
27 عاماً لم تكن كافية لتمحو من ذاكرة والدة الشهيد محمد علي فرحات ادكيدك، من بلدة شعفاط شمالي القدس المحتلة لحظات اليوم الأخير الذي ودّعت فيه نجلها بقبلة طبعها إبراهيم على يديها وسارع للنزول إلى المسجد الأقصى، حيث كانت الأنباء تتوارد عن نية متطرفين يهود اقتحامه ووضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم.

إبراهيم ادكيدك كان في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1990 طالب ثانوية عامة حين اقترفت قوات الاحتلال مجزرة الأقصى الأولى والشهيرة إلى جانب عشرين شهيدا آخر ارتقوا في ذلك اليوم، فيما كانت ساحات الأقصى شاهدا على دماء غزيرة نزفت من أجساد الشهداء والجرحى الذين قدر عددهم بأكثر من ثلاثمائة جريح.

في ذلك اليوم، كما يروي محمد ادكيدك ابن أخت الشهيد لـ"العربي الجديد"، نقلا عما وثقته عائلته في ذلك اليوم الذي ابتدأ بنهوض الشهيد مبكرا لأداء صلاة الفجر ثم تناول فطوره، ومن بعد ذلك قادته خطاه إلى باحات الأقصى بدلا من التوجه إلى قاعات الامتحان، وقد كان أنين الأقصى يصل إلى أسماع فتية القدس وشبابها وشيبها ونسائها، وكان إبراهيم كما هو عز الدين المناصرة وقائمة الشهداء أول من يلبي النداء ليزحف الجميع صوب الساحات وهمهم الوحيد الدفاع عن مسجدهم وإحباط محاولة الحاخام غرشون سلمون إدخال حجر كبير قيل إنه "حجر الأساس لبناء الهيكل المزعوم".

كانت والدة الشهيد، وهو حال كل أم تخشى على فلذات كبدها، قلقة على ولدها، ولم تفلح معه تنبيهاتها بعدم الذهاب إلى الأقصى خوفا عليه، وهو الابن الأوحد والشقيق الوحيد لأربع شقيقات.

كان إبراهيم يدرك رغم صغر سنه، حيث لم يتجاوز في حينه السابعة عشرة، حجم الخطر الذي يتهدد الأقصى والمصلين فيه، في وقت كان المتطرفون اليهود يبدون تغولا عليه، لكن ذلك لم يردعه، وكان رده على تنبيهات والدته بابتسامة أتبعها بتقبيل يديها، وهو يقول: "ما أروع الشهادة في الأقصى".



يقول قريبه: "استشهد خالي عند متوضأ الكأس، بينما كان يتوضأ للصلاة وحقيبته المدرسية على كتفيه، ولم يكد ينهي صلاته، حتى بدأ اقتحام جنود الاحتلال ساحات الأقصى بأعداد كبيرة، ومن بينهم قناصة اعتلوا سطح المدرسة التنكزية وشرعوا بإطلاق الرصاص الحي، ولم يكن إبراهيم بعيدا عن مرمى النيران، فحاول الاحتماء بالمسجد القبلي تجنبا لمطر الرصاص المنهمر من كل صوب، ليبدأ الشهداء بالارتقاء واحدا تلو الآخر، وكان إبراهيم واحدا منهم، حيث أصيب بست رصاصات استقرت إحداها في عنقه، وأصابت أخرى خاصرته، بينما توزعت باقي الرصاصات على أنحاء الجسد الطريّ فارتقى شهيدا في المكان".

يقول الشيخ محمد حسين خطيب المسجد الأقصى في حينه، والمفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، وأحد الشهود على المجزرة في حديث لـ"العربي الجديد"، "توجهت عبر مكبرات الصوت بنداءات إلى قوات الاحتلال أن كفوا عن إطلاق الرصاص، إنكم تقتلون الأبرياء، لكنّ ذلك لم يجد نفعا، كان أزيز الرصاص يعلو على أصوات مكبرات الصوت في الأقصى".

ويضيف: "ناشدت المواطنين في القدس القديمة وضواحيها أن هبوا للدفاع عن المسجد، لكن الاحتلال كان مصمما على ارتكاب المجزرة، فارتقى الشهداء وسالت دماؤهم الزكية على الساحات وفي الأروقة لتغطيها، حيث ارتقى 21 شهيدا جلّهم من الفتية الأغرار ومن الشبان وحتى نساء مسنّات، وزاد عدد الجرحى عن ثلاثمائة جريح".

يقول محمد ادكيدك: "حين وصل نبأ الإصابات وارتقاء الشهداء كانت جدتي على إدراك ربما قادها إليه حدسها بأن إبراهيم هو من بين الشهداء، لذا لم تأخذ بأقوال من أخبرها بأن إبراهيم مصاب فقط، ويتلقى العلاج في مستشفى المقاصد، حتى بلغ جثمان الشهيد منزل عائلته، فانهارت جدتي من صدمة فقدانه، وودعته على عجل وسط نهر من الدموع".


كان الشهيد أحد طلاب الثانوية العامة "التوجيهي" في  مدرسة الفرير في "باب الجديد"  داخل أسوار البلدة القديمة من القدس، وكان الذراع الأيمن لوالده في منجرة خاصة يملكها، كما كان يعمل على بسطة متواضعة عند باب المنزل.

يقول محمد: "لقد اعتدنا القدوم لبيت جدتي يوميا والجلوس معها، حيث لا تزال تتذكر أحداث مجزرة الأقصى، وتتابع يوميا الأنباء التي تتحدث عن ارتقاء شهداء، وتستمع للأغاني الوطنية التي يبثها التلفاز".

مما يرويه محمد، وقد اعتذر لنا عن إجراء مقابلة مع جدته بسبب حالتها الصحية، أنه بعد خمسة وعشرين عاما من استشهاد خاله تمكنت العائلة من الكشف عن جثمانه في القبر الذي ووري فيه جسده الطاهر.

يقول: "حين ارتقى الشهيد فادي علون قبل عامين تقرر دفنه بجوار إبراهيم، بيد أن سلطات الاحتلال رفضت ذلك. مع ذلك فتحنا قبر إبراهيم وقد أصرت والدته وعائلته على النزول فيه ورؤية الشهيد في قبره، وكان ذلك أول لقاء يجمعها به بعد خمسة وعشرين عاما، حيث قبّلته وعانقته مطولا، وحال إبراهيم كما كان عليه لحظة استشهاده قبل أكثر من ربع قرن، فحذاؤه البني الذي كان ينتعله وبنطال الجينز الذي ارتداه  يوم استشهاده يحتفظان بدمائه الطاهرة".

كانت مجزرة الأقصى الأولى قبل سبعة وعشرين عاما محطة من محطات لم يكف الاحتلال عن ارتكاب المزيد منها، فبعد عشر سنوات بالتمام اقترف مجزرة أخرى في ذات الساحات ليرتقي المزيد من الشهداء، ويعلو على الجراح مئات الجرحى في ما عرف بمجزرة الأقصى الثانية في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول من العام 2000، بعد أن اقتحم وزير جيش الاحتلال آنذاك أرئيل شارون، قبل ذلك بيوم، باحات الأقصى مستفزا مشاعر الفلسطينيين ومتحديا إرادة المقدسيين في التصدي له.

وبين مجزرة تسبب بها الحاخام غرشون سلمون، ومجزرة كان الجنرال شارون سببا لاشتعال فتيل انتفاضة ثانية ظلّ الشهداء يرتقون، بينما ازداد تغول المستوطنين ضد الأقصى، وفي ذكرى المجزرة الأولى اقتحمه أكثر من خمسمائة مستوطن في يوم واحد، فيما المسجد يئن تحت أخطار التهويد ومخاطر الهدم والإزالة ليبنى هيكل مزعوم من أساطير الجنون.