عراقيات يرفضنَ العودة إلى الريف

04 يناير 2017
فرحات بإنجازهنّ (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -

بعد دراسة جامعيّة لسنوات في المدينة، كثيراً ما تصعب العودة إلى الريف. أمر طبيعيّ بالنسبة إلى أيّ كان. هذه هي حال شابات عراقيات نلنَ شهاداتهنّ ورغبنَ في حياة أكثر انفتاحاً.

سريعاً، انقضت السنوات الخمس بالنسبة إلى صابرين ابنة الريف العراقي. والشابة العشرينيّة التي أنهت دراستها في كلية طب الأسنان في جامعة بغداد هي واحدة من بين مئات الطالبات الخريجات اللواتي لا يرغبن في العودة إلى نمط حياتهنّ القديمة، أي قبل انتسابهنّ إلى جامعاتهنّ واندماجهنّ في مجتمع مختلف عن المجتمعات التي وفدنَ منها.

سعاد (20 عاماً) من بيئة تشبه التي تتحدّر منها صابرين، ما زالت تُتابع دراستها في الحقوق في كلية القانون التابعة لجامعة ديالى. تقول: "مذ دخلت الجامعة وأقمت في سكن الطالبات، راحت حياتي تتغيّر تدريجياً. فقد أصبحت أكثر استقلالاً وحريّة في اختيار ما أريد". تضيف: "لم أعد تلك الفتاة التي كانت تعيش في منزلنا المتواضع في قريتنا المنغلقة على نفسها، والتي تحكمها تقاليد وأعراف. التعامل مع الفتيات في قريتنا يختلف كثيراً عن تعامل أهل المدينة مع بناتهم". لا تنكر سعاد أنّ "ثمّة أشياء في قريتنا جميلة، إلا أنّ نمط الحياة في المدينة وحياة الجامعة بالنسبة إليّ أفضل من حياتي السابقة. وعلى الرغم من أنّ العيش في المدينة أكثر تعقيداً، إلا أنّها أكثر تطوراً وانفتاحاً على العالم. وهذا ما يجعلني أفكّر في إقناع أهلي بالسماح لي بالبحث عن عمل أو استكمال دراستي، الماجستير. لا يمكنني أنّ أتخيّل عودتي إلى حياتي السابقة في القرية".

أمّا جُهينة (22 عاماً) فهي طالبة في المرحلة الرابعة في جامعة بغداد. تقول: "عشت 18 عاماً في منزل العائلة في قريتنا الصغيرة، إلى حين تحقّق حلمي وانتسبت إلى الجامعة. بعد محاولات كثيرة، نجحت في إقناع والدي بالسماح لي بالدراسة الجامعية. وقد شجّعته على الموافقة إقامتي في بيت عمتي". تضيف: "واليوم، وقد شارفت سنوات دراستي على الانتهاء، يُصرّ والدي على عودتي، على الرغم من أنّني أتوسّله للبقاء في بيت عمتي والبحث عن وظيفة بعد تخرّجي. فأنا استطعت الحصول على معدلات جيدة واعتدتُ التمدّن والتطوّر وفي الوقت نفسه حافظت على التقاليد التي يجب الحفاظ عليها". وتشير جهينة إلى أنّ "من سلبيات الدراسة بالنسبة إلى فتيات وفدن من مجتمعات قروية هي اضطرارهنّ إلى العودة إلى حياتهنّ السابقة. من يعتد نمطاً جديداً ومختلفاً عمّا كان يعيشه يصعب عليه التخلّي عنه". وتؤكد أنّ "قليلات جداً هنّ طالبات الجامعات اللواتي لا يتمكّنَ من التأقلم مع حياة المدينة".




في هذا السياق، يقول الأكاديمي رامي عباس، في حديث إلى "العربي الجديد"، إنّ "نظرة الآباء في المجتمعات الريفية تغيّرت تجاه نمط حياة أبنائهم، وتغيّرت كذلك مفاهيم المجتمع ونظرتهم إلى الفتاة. فهي لم تعد فقط تلك التي خلقت من أجل البيت والزوج وتربية الأبناء". ويشرح أنّ "نظرة أخرى أكثر إيجابية بدأت تتبلور، خصوصاً عندما نجد شابات يصلنَ إلى المدينة طمعاً في دراسة تخصّصات يحتاجها مجتمعهنّ أو يرغبنَ في تحقيق حلمهنّ بدراسة تخصّص معيّن، وكذلك عندما يعملنَ في تخصصاتهنّ داخل قراهنّ كمدرّسات أو طبيبات أو محاميات أو غيرها".

يضيف عباس أنّ "الإنسان في طبيعة الحال يميل إلى التغيير وحبّ الاستكشاف. من هذا المنطلق، يعدّ العيش في المدينة أمراً رائعاً ومغرياً بالنسبة إلى كثيرين ولدوا ونشأوا في مجتمعات ريفية، خصوصاً الشابات اللواتي وجدنَ في إكمال دراستهنّ فرصة للخروج من واقعهنّ واستكشاف سلوك أناس مختلفين في بعض عاداتهم وتقاليدهم وأنماط حياتهم". ويشدّد على أنّ "التجارب والتنشئة الاجتماعية في المدن وكذلك الفرص هي أكثر توفّراً وانفتاحاً بالمقارنة مع القرى. والتسهيلات في التنقل والطبابة إلى جانب عدم التدخّل في شؤون الآخر من المميّزات التي تُضاف إلى حياة المدينة. إلى ذلك، ثمّة إمكانية للحصول على فرصة عمل في شركات أهلية وحتى حكومية وما إلى ذلك من أمور تجعل الحياة في المدينة أكثر استقراراً وحريّة. وهذا ما يدعو الشابات إلى تفضيل العيش بمستوى أفضل في المدينة، لما فيها من وسائل راحة متاحة". ويشير إلى أنّ "ذلك لا يمكن تحققه إلا من خلال الدراسة أو الزواج من رجل يسكن المدينة أو انتقال عوائلهنّ إلى المدن".

ويستدرك عباس: "لا يمكن القول إنّ حياة القرى سلبية. على الرغم من عدم تطوّر نمط الحياة فيها، إلّا أنّ ثقافة وسلوك الناس في القرى والأرياف أكثر بساطة وترحيباً وأكثر مراعاة لبعضهم بعضاً. كذلك، يمكن الحصول على أيّ مساعدة من الجيران في أيّ ساعة من اليوم، من دون خوف من ردود فعلهم. فهم أكثر وداً وتآلفاً وحفاظاً على التقاليد". ويتابع: "مثلما تُعدّ المدينة هدفاً لكثيرين من سكان القرى، فإنّ العكس صحيح مع زحمة العيش في المدينة". ويشدّد على أنّ "إعطاء الشابات بعض الحريّة لتكوين شخصيتهنّ بعد الضغط عليهنّ وحرمانهنّ من حقوقهنّ هو سبب في عدم رغبة كثيرات من اللواتي أكملنَ دراستهنّ في العودة إلى حياتهنّ السابقة".



من جهتها، تُشير الباحثة الأكاديمية زهرة الديالي إلى "مشاكل عدّة تقف في طريق الشابات من أصول قروية. ثمّة معضلة في ظلّ أزمة العراق الاقتصادية، من انتشار للفقر والبطالة. وهذا ما فاقم من مشكلة التعليم في القرى، حيث المجتمع الذكوري الذي يفرّق بين حقوق الذكور والإناث. بالتالي، تمنع أسر عدّة بناتها من الذهاب إلى المدرسة في الأساس، إذ في حال توفّر المال فإنّه يذهب إلى الأبناء الذكور. كذلك، فإنّ دراسة الفتاة تُعدّ أمراً غير مقبول في أعراف تلك العائلات".

وتتحدّث الديالي لـ "العربي الجديد" عمّا "تُعانيه الفتيات في القرى والأرياف العراقية، وهو خروجها للعمل في المزارع والبساتين إلى جانب الذكور، على الرغم من أنّ تلك المجتمعات ترى أنّ المرأة تختلف عن الرجل. ولو استمرت المجتمعات في إهمال حقوق النساء واضطهادهنّ فإنّ المعاناة سوف تستمر في البلاد". وتشرح أنّ "كثيرين في القرى والأرياف وبعض المناطق الفقيرة في المدن يرون أنّ إكمال الفتيات تعليمهنّ قد يجعلهنّ يتمرّدنَ على قرارات عوائلهنّ ويرفضنَ الخضوع لأوامرها، خصوصاً إذ عاشت الشابة خلال فترة الدراسة في سكن جامعي. إلى ذلك، تنتشر في المجتمعات الريفية ظاهرة تزويج بنات العائلة في سنّ مبكرة، أحياناً قبل أن تبلغ الخامسة عشرة، تماشياً مع التقاليد والأعراف السائدة". تضيف أنّ "كلّ ذلك جعل شابات كثيرات يفكّرنَ بالتمرّد على أعراف مجتمعاتهنّ. لكنّ قليلات فقط نجحنَ في بلوغ هدفهنّ وإكمال دراستهنّ الجامعية والعيش باستقلالية وإن كانت مؤقّتة".

وتتابع ديالي أنّ "نحو 90 في المائة من الشابات الآتيات من مجتمعات ريفية واللواتي يكملنَ دراستهنّ الجامعية، يفضّلنَ عدم عودتهنّ إلى الحياة السابقة في مجمعات منغلقة بعض الشيء". وتُشدّد على ضرورة أن "يتعامل المجتمع مع المرأة ككائن بشريّ، ولا بدّ من دعمها وتعليمها وتمكينها للمشاركة في تنمية البلاد"، قائلة إنّ على "الحكومة العراقية ووزارة التعليم العالي خصوصاً أن توليا اهتماماً أكبر بتعليم النساء، من خلال حثّ المجتمع الريفي على عدم حرمان بناته من الدراسة الجامعية".

المساهمون