العودة إلى الفلوجة.. تكافل يعوّض الأهالي ما فقدوه

03 يناير 2017
عادوا سريعاً إلى مدينتهم (صباح أرار/ فرانس برس)
+ الخط -
المعركة التي انتهت في يونيو/ حزيران الماضي بتحرير مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار، غرب العراق، ألحقت الدمار بجميع مرافق المدينة وبناها التحتية. فالمعركة دارت داخل الأزقة والأحياء السكنية، ما اضطر القوات الحكومية العراقية إلى استخدام الأسلحة الثقيلة بكثافة في كثير من الأحيان لفتح الطرق والتمكن من التوغل والسيطرة.

لم ينتظر الكثير من سكان الفلوجة مرور وقت طويل على تحرير مدينتهم، حتى عادوا إليها بعدما نزحوا منها إثر احتلال "داعش" لها، أو بسبب نشوب المعركة الأخيرة. وبالرغم من خراب مدينتهم وانعدام وجود أيّ بنى تحتية وخدمات تسمح لهم بالسكن فيها، يصرّون على ذلك.

سعادة وأمل وتيمّن بالخير... هي أجوبة مباشرة من الأهالي عن أحوالهم. كلّ ما يحيط بهم من أهوال يرون فيه "خيراً كبيراً"، فهم في النهاية في مدينتهم، وبيوتهم، وإن كانت مهدمة. هي رغم ذلك، أفضل من مخيمات النزوح.

أسواق المدينة تبدو عامرة بالرغم من بساطتها. كلّ شيء هنا متوفر: اللحوم والخضر والفاكهة والملابس والمواد الغذائية بكلّ أصنافها ومواد البناء. ليس ذلك فحسب، بل يدهش زائر المدينة، بروح التكافل والتعاون بين السكان، فكلّ من يحتاج مساعدة يجدها فوراً من الآخرين، وأحياناً قبل أن يطلبها.

وفي هذا الإطار يتضح أنّ أسعار السلع والمواد الغذائية بما فيها الخضر والفاكهة واللحوم زهيدة بشكل واضح، فهي تبلغ نصف أسعار مثيلاتها في أسواق باقي المدن العراقية. يفسر جاسم الدليمي، وهو صاحب محل للبقالة: "يكفيني أن أجني ربحاً هامشياً".

ليس الدليمي وحده بين أصحاب المحال يملك تلك الروح التعاونية، بل جميع الباعة يفعلون الشيء نفسه. هم اتخذوا عهداً أن يساعد بعضهم الآخر، وألّا يدعوا محتاجاً في المدينة من دون أن يقضوا حاجته. يشير الدليمي لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "روح العمل الجماعي والتعاون ليست جديدة على أهل الفلوجة، تلك خصلة فينا، لكنّنا اليوم نمرّ في وضع صعب، وأغلب سكان المدينة فقدوا أموالهم وممتلكاتهم من جراء المعركة والنزوح. والبعض فقدوا بيوتهم، لذلك يتطلب الموقف منا أن نكون أكثر تعاوناً ومساعدة لبعضنا".

أهم الخدمات التي يعتمد الناس عليها في معيشتهم يفتقدها سكان الفلوجة، وأبرزها الكهرباء والماء والصحة والتعليم. فالمعركة لم تترك في المدينة شيئاً من مرافق هذه الخدمات إلّا وهدمته أو أخرجته من الخدمة. لكنّ الأهالي يتغلبون على هذه المعوقات، أو يحسبون أنفسهم فعلوا ذلك، إذ أوجدوا بدائل، كما اعتبر بعضهم أنّ الكهرباء ليست ذات أهمية.



يقول ناصر المحمدي، وهو العائد مؤخراً إلى بيته، بعد نزوح في مخيم ببغداد استمر نحو ثمانية أشهر: "يكفي أن نعتمد على الفانوس للإنارة ليلاً، وليس من المهم مشاهدة التلفزيون أو الحصول على الإنترنت. كذلك، لا أهمية قصوى إن كان الماء لا يصل إلى البيوت عبر المواسير. وليس مهماً إن كانت جميع المستشفيات مغلقة حتى الآن". يشير المحمدي إلى أنّ أسرته وغيرها عادوا إلى بيوتهم في الحيّ وسرعان ما تلقوا معونات من سكان سبقوهم في العودة، وهذا ما يساعدهم بحسب رأيه في تجاوز العقبات حتى تعود المدينة إلى سابق عهدها.
حركة الأسواق النشطة تنسحب أيضاً على الأزقة الممتلئة بأطفال يلعبون كرة القدم أو يطارد بعضهم بعضاً. البراءة تنضح من حركاتهم وتعابيرهم وأصوات ضحكهم. يقول حسين الزوبعي، وهو يستعد للانطلاق بدراجته النارية، وقد استغلها في نقل المياه الى بيته وبيوت جيرانه: "نحن بخير، أطفالنا وعائلاتنا بخير، بل نستعد لتزويج أخي". يوضح الزوبعي لـ"العربي الجديد" أنّ سعادة كبيرة يشعر بها، بالرغم من انعدام جميع الخدمات: "اتخذت عهداً على نفسي أن أزوّد جيراني بالماء باستخدام دراجتي. أسير نحو كيلومتر للوصول إلى مصدر المياه، وهي خزانات مخصصة للسكان، وكلما فعلت ذلك زادت سعادتي، لأنّي أقدم خدمة يشكرني عليها الآخرون".

الزوبعي، والذي يعتاش من راتبه التقاعدي الذي يبلغ 300 دولار أميركي شهرياً، يشير إلى أنّ مبلغاً بسيطاً يمكّنه من تدبير معيشة أسرته بأفرادها الستة: "كلّ شيء ميسّر، والأسعار زهيدة، ونحن لا نشتري سوى ما نحتاجه".

ليس الزوبعي وحده من يعتمد على شراء ما يحتاجه فقط والاستغناء عن كلّ ما ليس ضرورياً، بل جميع السكان على هذه الحال. حتى الميسورون، وهم قلة، يفضلون أن يتكفلوا بمعيشة الفقراء، بدلاً من شراء حاجيات غير ضرورية. من بين هؤلاء حاج خمسيني رفض نشر اسمه وهو يتحدث إلى "العربي الجديد" كونه يعتبر ما يقوم به "واجباً شرعياً وأخلاقياً وإنسانياً". يقول: "كلّ أهالي الفلوجة يعملون الخير ويحسنون إلى الآخرين، لكنّ الكثيرين منهم خسروا أموالهم وأعمالهم ومساكنهم، لذلك تعهد جميع السكان أن يتكافلوا ويتعاونوا، لكي ننهض بمدينتنا من جديد ونعيد لها الحياة وبناء كل ما تهدّم".

الصحة والتعليم من الضروريات التي يجب توافرها في المدن، لكنّ مستشفيات ومدارس الفلوجة خرجت عن الخدمة بسبب المعركة، وتحتاج إلى مبالغ طائلة ترصد لعملية تأهيلها من جديد. رغم ذلك لا يجد الأهالي عائقاً في ذلك، إذ يمضون إلى بغداد لعلاج مرضاهم، أي ما يتطلب منهم ساعة سفر.

أما التعليم، فالأمر سهل بالنسبة إليهم، إذ يعتبرون جلوس التلاميذ على الأرض لا يمنع تلقيهم العلم. وفي هذا الإطار، يؤكد تلاميذ في المرحلتين الأساسية والثانوية لـ"العربي الجديد" أنّهم سعداء بعودتهم إلى مدارسهم، وهم لا يجدون مشكلة في الجلوس على الأرض. ويشيرون إلى أنّ ما يهمهم فعلاً هو مواصلة مشوارهم الدراسي.

هذا ما يحصل في الفلوجة إذاً، وقد ساهمت أيضاً في دفع السكان إلى التكافل حملة أطلقها ناشطون من سكان المدينة على مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك، دعا رجال دين وشيوخ قبائل ومثقفون ووجهاء من المدينة إلى ذلك.