يرتفع أبو ربيع عن الأرض قبل أن يعود ليخبط بجزمته السوداء عليها، فيعلو تصفيق الجمهور. يدخل مع راقصي الدبكة وقد رفعوا رؤوسهم ونفخوا صدورهم، في دلالة على "الشموخ". هذا ما يؤكده أبو ربيع. يشبك الراقصون أياديهم ببعضها بعضاً طوال رقصهم، للتأكيد على "الاتحاد والقوّة". أمّا الخبطات الثلاث على الأرض، فتعني: "كنّا هون، ونحنا هون ورح نبقى هون" (كنّا هنا، ونحن هنا، وسوف نبقى هنا). هم يصرّون على انتمائهم لأرضهم وتشبّثهم بها. في خطوتهم الأخيرة، يركع الراقصون على الرجل اليمنى ورأسهم مرفوع، كأنهم يجزمون بأنّ "أهالي إهدن (شمال لبنان) لا يركعون لغير الرب".
دبكتهم هذه ليست إلا الدبكة اللبنانية التي يعرفها الجميع. لكنّ أبو ربيع يحبّ أن يُطلق عليها اسم "الدبكة الإهدنيّة". صحيح أنّ الحركات نفسها والرقصة نفسها، إنّما "بنكهة إهدن وبطيب نسيمها".
كثيراً ما رقص أبو ربيع في منطقته زغرتا (بلدة إهدن تقع ضمن قضاء زغرتا)، حتى صار عنواناً للدبكة. مع ذلك، قليلون هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي، أي سمعان فيكتور يمّين. هو، منذ زمن بعيد، لقّب بأبو ربيع. ويحكي قصّة هذا اللقب: "كنا مع الكشّاف نشاهد فيلماً في السينما، وكان البطل يُدعى أبو ربيع. فأطلق أحد الأصدقاء دعابة سائلاً: شو مفكّر حالك الممثل أبو ربيع؟ منذ ذلك الحين، رافقني أبو ربيع بدلاً من سمعان". وزاد اللقب شرعيّة بعد 11 عاماً، عندما رُزق بصبيّ وأصرّت أمّ أبو ربيع أن يُسمّى حفيدها ربيع وليس تيمناً بجدّه فيكتور، كما العادة. هي حرصت أن يحافظ ابنها على اللقب الذي عرفه الناس به.
في عام 1983، رقص أبو ربيع الدبكة للمرّة الأولى. كان أيضاً عضواً في الكشّاف عندما تدرّب من بين عشرة شبّان على يد فوزي الجعيتاني، ليدبكوا في شوارع زغرتا في يوم "خميس الذكارى" الذي لا يفوّت الزغرتاويّون الاحتفال به. خميس الذكارى هو اليوم الذي يتذكّر فيه المسيحيون موتاهم، قبل بداية الصوم الكبير.
في تلك المرّة الأولى، "أقيم الكارنفال ودبكنا. وهذه السنة، بعد 33 عاماً، استعدنا الاحتفال نفسه، برعاية جمعية الإنماء والخير الزغرتاويّة". ويعود بالذاكرة إلى ماضٍ أبعد من تلك السنوات، فيعدّد من الفرقة القديمة التي احتضنت الجعيتاني: بيت زكّا وبيت نعّوم وبيت كعوي وآل دحدح وآل الشيخا الدويهي وآل فرنجية وآل معوّض وغيرها من العائلات التي رقص أفراد منها في تلك الفرقة قبل اندلاع الحرب. يُذكر أنّ خلال السنوات الممتدّة ما بين 1985 و1990، لم تُسمع للدبكة ولا خبطة واحدة. لكنها في أوائل تسعينيّات القرن الماضي، قامت من سباتها الطويل مع أبو ربيع، عندما جمع شبّاناً ودرّبهم ليحيوا مهرجانات إهدن التي تُنظّم سنوياً، منها مهرجان الميدان ومهرجان الكبرى والسرايا.
اكتشف أبو ربيع أنّ الدبكة بالنسبة إليه أكثر من مجرّد هواية، فاتخذ منها حرفة و"مَلَكتها مظبوط" على حدّ قوله. حتى يومنا هذا، درّب أبو ربيع المئات من شبّان وشابات منطقة زغرتا، وقد أسّس فرقة مؤلفة من 25 راقصاً، يدبكون في الأعراس والمهرجانات وحفلات التكريم ونشاطات الجمعيّات.
بالنسبة إلى أبو ربيع، أهالي زغرتا "يليق بهم الحزن كما يليق بهم الفرح، وهم يجيدون التعبير عن الحالتين على حدّ سواء". لكنّه من جهته، اختار التخصص في الفرح. يبتسم وهو يقول: "عندما ندبك في زغرتا أو في إهدن، أو حتى خارج منطقتنا، نكون خمسة أشخاص قبل أن نصبح 500 شخص بغمضة عين". ويشير إلى أنّ الجيل الجديد من الشباب الزغرتاوي يُبدي اهتماماً بالتراث وبإحيائه، وهو مّا يفرح أبو ربيع الذي يحرص على التدريب بمهنيّة عالية.
"الدبّيك الحقيقي" هو الذي يتمتّع بأذن موسيقية مرهفة ويتأثر بالنغمات من أعماق قلبه، فيترجم ذلك بصدق على خشبة المسرح. هذا ما يشدّد عليه. ومن الآلات الموسيقية التراثية، يحبّ أبو ربيع الطبلة التي يجيد العزف عليها بعض الشيء. ويقرّ أنّه لا يستطيع أن يقاوم إيقاعها ولا صداها، ويحسّ فوراً بحاجة ملّحة إلى الرقص.
بعد سنوات طويلة من العِشرة، أصبح الزغرتاويّون يعرفون حاجة أبو ربيع الملحّة هذه، ويعرفون حاجتهم الملحّة إليه، فيدعمون الدبكة الإهدنيّة ويسهمون في المحافظة عليها. ولا تحظى الدبكة الإهدنية بمحبة أهلها وأهل المنطقة فحسب، بل بدعم مادّي ملموس من أطراف عديدة.
راقص الدبكة الأول بين الزغرتاويّين، لا تعرف رجلاه الراحة. في كلّ مرّة يُدعى إلى حفل زفاف أو يحضر حفلة كواحد من الجمهور، تعلو الهتافات "وينو بو ربيع"؟ الجميع يطالب به، ما إن تُسمع ضربات على الطبلة.