المعجزة الفنلنديّة.. نظام تعليمي يتصدّر دول العالم

10 ديسمبر 2016
هناك ليونة كبيرة في المناهج التعليمية (أوليفر مورين/فرانس برس)
+ الخط -

تبقى فنلندا أكثر دول شمال أوروبا تقدماً في مجال التعليم وأنظمته وفقاً لأرقام وتقارير "مجلس دول الشمال" و"البرنامج العالمي لتقييم أداء التلاميذ"، فما السرّ في هذه الصدارة الدائمة؟

التجربة الفنلندية الرائدة والناجحة في المجال التعليمي بدأت مع عملية إصلاح طويلة المدى باشرت بها البلاد، وشملت التعليم الابتدائي، تلتها لاحقاً بقية المراحل. استندت العملية بشكل أساسي على فرض احترام المدرسين من خلال احترام الرغبات لدى التلاميذ بكل الفئات العمرية.

خصصت فنلندا منذ عام 1995 حتى العام الماضي 2015 ما نسبته 6 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي في العملية التعليمية بزيادة 1.5 في المائة عما كان قائماً خلال العقدين اللذين سبقا بداية الخطة. وبذلك تجاوزت دول الشمال في إيلاء اهتمام كبير لعملية التعليم والتعليم العالي، عدا عما تخصصه أيضاً في مجال البحث العلمي.

الاستقلالية الكبيرة في "التجريب" وفقاً لخبراء التعليم الشماليين، تلعب دوراً كبيراً في العقد الأخير في التطور الذي تعيشه مراحل التعليم المختلفة في فنلندا. قبل بضعة أعوام، وعند نهاية الفصل الدراسي في مدرسة "كيركوجارفي" في مدينة إسبو، إلى الشمال الشرقي من العاصمة هلسنكي، فعل أحد المدرسين المخضرمين ما لم تعتد عليه معايير التعليم في بلده. فقد وجد أنّ صبياً من أصل كوسوفي لم يتعلم شيئاً وقاوم بشدة ما طلبه المدرسون منه. عرض ذلك المدرس التلميذ الذي كان في السادس الأساسي على مختصين نفسيين واجتماعيين. الخلاصة أنّ هؤلاء الخبراء شخّصوا الصبي أنّ من غير الممكن إلقاء اللوم عليه في حالة الكسل. عندها، قرر المدرس المخضرم كاري لوهيفوري الاحتفاظ بالتلميذ سنة أخرى مراهناً على قدرته في جعله يحب الدروس من خلال التعلم عن طريق القيام بأشياء عملية يحبها الصبي. بالفعل، أصبح بارعاً في القراءة والحساب بعد الامتناع التام عن نظرية التعليم النظري. اليوم لدى ذلك الصبي شركة تصليح سيارات وشركة تنظيفات وموظفون منذ أنهى الثانوية.

معايير مرتفعة

انتقلت فنلندا إذاً نحو نظام تعليم ابتدائي يرغّب التلميذ في التعلم عبر تحفيزه بما يحب أن يكون عليه ذات يوم. فإذا كان حلمه أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو حتى طباخاً يجري تدريسه من خلال تطبيق حصص تأخذ بعين الاعتبار رغباته وأحلامه. اليوم، لا تجد طفلاً في مدارس فنلندا لا يعرف التصرف مع الكومبيوتر، فقد جرى إقناع التلاميذ جميعاً أنّ كلّ شيء مرتبط باستخدام الكومبيوتر.

ما خلقته التجربة هو إعداد مدرسين يواكبون عملية التطوير السريع في النظام التعليمي الفنلندي. وتعتبر الثقة المبنية بين المدرّس والتلاميذ إحدى أهم الأسس التي تقوم عليها كلّ العملية التعليمية هناك. مدرّسو المرحلة الابتدائية يجب أن يكونوا حاصلين على دراسة جامعية تتراوح بين 4 سنوات و6. ومعايير القبول في وظيفة المدرّس مرتفعة جداً، فلا يُقبل سوى 10 في المائة من المتقدمين. خلق ذلك في المجتمع الفنلندي جواً من الاحترام الكبير لمهنة التدريس والكفاءة المهنية لدى المدرّسين. تلك المهارات جرى تطويعها ليصبح لدى المدرسين استقلالية وسيطرة على مسار العملية التعليمية بعيداً عن السيطرة الإدارية المركزية، وبالترافق مع القليل من تدخل الأهل. كلّ ذلك، كان بفعل الثقة الكبيرة أنّ مدرّسي المرحلة الابتدائية هم الذين يعرفون ما سيحتاجه التلاميذ في المراحل الأولى من تعليم لأجل مستقبلهم العملي والدراسي.

وفقاً لما استنتجه خبراء التعليم الاسكندنافيون الذين يحاولون تبني التجربة الفنلندية منذ سنوات، فإنّ منح المدرّسين الكثير من الاحترام للتلاميذ، جعل الصفوف تعيش في هدوء بعيد عن الشغب والضجيج، وهو هدوء مبني على سلطة هرمية مقبولة قوامها المعلم في رأس الهرم ثم التلاميذ في القاعدة. أوجد هذا الأمر سهولة في المحافظة على الانضباط الصارم الذي يتقبله الجميع من أجل الاستفادة من ساعات التعليم.

حالة الهدوء المنتج هذه، يعترف الدنماركيون والسويديون والنرويجيون أنّهم يفتقدونها تماماً في مدارسهم. ويعترف آخرون حول العالم أيضاً أنّ مدارسهم تقوم على التلقين والحفظ بدلاً من مشاركة التلاميذ في خلق المعرفة التي تبنى على رغبات مستقبلية تكون دافعاً من أجل تعلم المزيد.

الأستاذ في جامعة "آرهوس" في الدنمارك ستي بروستروم يقول: "يبرع الفنلنديون بتعليم الصغار اللغة منذ مرحلة رياض الأطفال من خلال اللعب. يستخدمون اللهو واللعب كطريقة تربوية لتعليم اللغة من دون أن يرهقوا الصغار. وبذلك، بات هؤلاء جاهزين بعدما تحصّلوا على طفولة ممتعة، وفي الوقت نفسه تعلموا اللغة". يعتبر هذا الخبير التربوي أنّ مدرّسي الأطفال في مرحلة الرياض باتوا "يشرحون الروابط بين المفردات، كالرابط بين الباب والمرآة على سبيل المثال، والرابط بين المفردة والفعل. ذلك يعني جهوزية وتشجيعاً للبدء في الصف الأول الأساسي بنهم التعلم أكثر".




تطور لاحق

تطور العملية التعليمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية العام الجاري 2016 استند إلى "تجارب" عدة خاضتها فنلندا على مدى سنوات. فوفقاً للأهداف والخطط "يجب منح فرص متساوية للجميع في السياسة التعليمية الفنلندية". يعكس هيكل النظام التعليمي المبادئ الموضوعة في تساوي الفرص لجميع المواطنين، من دون أن يعيق الانتقال من مرحلة إلى أخرى أصحاب المستويات المرتفعة. التركيز في هذا النظام هو على التعلم بدلاً من التقييم عبر الاختبارات، إذ لا يوجد في النظام التعليمي ما يسمى "فحصاً" للتلاميذ في المرحلة الابتدائية. القضية كلّها تتعلق بتقييم المعلمين قدرات وكفاءات تلاميذهم، بالاتفاق مع الأخيرين بالتأكيد، على أساس الأهداف المدرجة في المناهج لا على أساس اختبارات. كلّ تلك المناهج التعليمية تغطيها الدولة مالياً، باستثناء الدراسات العليا لمن هم من غير مواطني الاتحاد الأوروبي.

وقد بدأت وزارة التطوير وتعليم الشباب، بالتعاون مع وزارة الثقافة والتعليم وتطوير التعليم، في أغسطس/ آب الماضي في تطبيق إصلاحات جديدة في مسألة الاختبارات التعليمية الإعدادية والثانوية "بما يتوافق وتطوير المجتمع وتحديات الحياة العملية في سوق العمل"، وفقاً لما لما نشرته وزارة الثقافة والتعليم.

الإصلاحات المشار إليها ستمنح حرية أكبر للتلاميذ في اختيار المواد بما يتناسب مع رغباتهم الدراسية والعملية المستقبلية.

ويستند النظام الجديد على أهداف تمنح التلاميذ خبرة واسعة من خلال توزيع ساعات الدروس بحرية الاختيار الفردي لكلّ منهم، بما في ذلك التطبيق العملي. وسيكون في إمكان التلاميذ جلب المعلومات المتعلقة بالخطة التعليمية وأهدافها من خلال الموقع الإلكتروني لوزارة تعليم الشباب، فيخططون وفقاً لما هو موضوع لها من أهداف.

بالأرقام

يعتمد النظام التعليمي في فنلندا على اللامركزية، فالمحافظات والبلديات لديها استقلالية كبيرة في تقرير سياساتها التعليمية ضمن هدف وطني مشترك، أسوة ببقية دول الشمال. وهذا يشمل قطاع التعليم الخاص أيضاً الذي لا ينخرط فيه إلاّ ما نسبته 3 في المائة من مجموع المتعلمين، بسبب تطور القطاع الحكومي.

هناك ليونة كبيرة في مسألة المناهج التعليمية. تبدأ المرحلة الأساسية في السابعة من العمر، وهي إجبارية حتى سن السادسة عشرة. وبعد السادسة عشرة يجب على التلاميذ الاختيار بين أمرين: إما الانتقال مباشرة إلى سوق العمل من خلال دراسة مهنية، أو الذهاب إلى الثانويات التي تؤهل هؤلاء لحياة أكاديمية.

تحتل جامعة هلسنكي المرتبة 89 عالمياً، وتضم فنلندا 20 جامعة و30 معهداً دراسياً. كذلك، فإنّ 40 في المائة من مواطني فنلندا هم من خريجي الجامعات. ويواصل 30 في المائة من الطلاب دراستهم الجامعية في مجالات العلوم الطبيعية والبيئة البحثية.

استغلت فنلندا خبرة الدنمارك في مجال الجامعات الشعبية، فبإمكان أيّ شخص بالغ العودة إلى مقاعد الدراسة في أي سنّ. وهناك نحو مليون فنلندي على مقاعد الجامعات الشعبية المفتوحة.

وبينما يصل الدخل السنوي لفنلندا من قطاع السياحة إلى 7 مليارات يورو، فإنّها تخصص جزءاً كبيراً من موازنتها ونظامها الضريبي في سبيل تحسين البنية التحتية والخدمية للمواطنين كمجانية التعليم والتأمين الصحي، والصرف بسخاء على المراكز والمعاهد البحثية.

دلالات