النزوح الأكبر.. أهالي حلب يسلّمون أرواحهم

29 نوفمبر 2016
لا يعرفون ماذا ينتظرهم (جورج أورفليان/ فرانس برس)
+ الخط -
خلال الأيّام الثلاثة الماضية، شهدت العديد من أحياء مدينة حلب حركة نزوح جماعيّة غير مسبوقة، تزامناً مع الهجمة العسكريّة الشرسة للنظام منذ منتصف الشهر الجاري، على الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة. واقعٌ أدّى إلى نزوح أهالي أحياء الصاخور والهلك والشيخ خضر والحيدرية، الواقعة في القسم الشمالي من الأحياء الشرقية لمدينة حلب، بعدما بدأت قوات النظام اقتحامها، أول من أمس، معلنة بسط سيطرتها عليها، أمس، بعد قصف جوي عنيف، وسط تقدم الوحدات الكردية في اتجاه حي بستان الباشا والهلك التحتاني والشيخ فارس.

وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أعلن أن نحو 10 آلاف نازح قد وصلوا إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وحي الشيخ مقصود الواقع تحت سيطرة الأكراد، في وقت يؤكّد ناشطون وصول آلاف العائلات إلى القسم الآخر من الأحياء المحاصرة، والتي ما زالت خاضعة لسيطرة قوات المعارضة المسلّحة.

إلى الأحياء الكردية

لجأ العدد الأكبر من نازحي الأحياء الشرقية في حلب إلى حي الشيخ مقصود، الذي تقطنه غالبيّة كرديّة، وتسيطر عليه وحدات حماية الشعب الكردية. وكانت وحدات حماية الشعب قد بررت، في بيان، سيطرة قوات سورية الديمقراطية (التي تشكل جزءاً أساسياً منها) على مناطق في أحياء الهلك وبستان الباشا، بضرورة فتح معابر للنازحين من أحياء حلب الشرقية، مؤكدة أن نحو 6 آلاف نازح مدني وصلوا إلى حي الشيخ مقصود. وناشدت المنظمات الإنسانية بإغاثة النازحين المتواجدين في مناطقها، وإرسال المساعدات.



في هذا السياق، يقول عثمان، وهو أحد سكان حي الشيخ مقصود في حلب، إن الحيّ يستقبل عدداً كبيراً من النازحين، مؤكداً أن العدد تجاوز الثلاثة آلاف أمس فقط، ومعظمهم من النساء والأطفال. يضيف أن أكثر من من ألفي شخص كانوا في حالة مأساوية لدى وصولهم، وكانت وجوههم وأجسادهم منهكة. هؤلاء نزحوا بشكل مفاجئ، من دون أن يعرف معظمهم مصير باقي أفراد أسرهم. ويشير إلى أن إحدى النساء التي وصلت إلى الحي أُبلغت بقصف منزل ابنها، من دون أن تعرف عنه شيئاً، وما إذا كان قد تمكن من النزوح.

يضيف عثمان: "نبذل جهوداً لتأمين التدفئة والحليب والمأوى. لكن الوضع بدأ يخرج عن السيطرة. هذه كارثة إنسانيّة حقيقيّة، ونحتاج إلى تدخّل منظمات دولية لتأمين الطعام والمأوى للنازحين". يتابع أن "هؤلاء لم يحملوا معهم إلّا القليل من الحاجيات، وقد اضطروا إلى السير مسافة طويلة جداً"، موضحاً أنه استقبل في منزله عائلة مؤلّفة من ثلاثة أطفال صغار. يقول: "كان أحدهم مريضاً، فلم أستطع تركهم يبيتون في مكان بارد".

أما جميلة، التي نزحت من حي الصاخور، ووصلت مع عائلتها إلى حي الشيخ مقصود، فتقول لـ"العربي الجديد": "لم نكن ننوي الخروج، إلى أن رأينا الموت بأعيننا. لم يبق سلاح إلا واستخدم ضدنا. في البداية، خرجنا بسيارتنا، فأطلقوا عليها الرصاص من بعيد. ثم تابعنا سيراً على الأقدام". لم يستطع ابنها الأصغر (4 أعوام) المشي من شدة خوفه، فيما حمل الابنان الأكبر سناً جدتهما العجوز. تضيف أنهم نزحوا بالثياب التي كانوا يرتدونها، من دون ملابس بديلة أو أغطية أو أي شيء آخر، وقد مشوا أكثر من ست ساعات. تتابع: "رأينا الناس يسيرون نحو الشيخ مقصود فسرنا معهم. يقولون إن أرض الله واسعة لكننا لم نجد مكاناً آمناً فيها". تضيف: "انتهى بنا الأمر في مستودع مع ثلاث عائلات أخرى. هنا لا طعام ولا شراب ولا أغطية ولا نعرف ماذا ينتظرنا. ماذا عساي أن أقول؟ سنقبل كل شيء يأتي من الله".

خيار أخير

رغم محاولات النظام السابقة لدفع سكان الأحياء الشرقية في حلب للنزوح إلى مناطقه، إلا أنها المرة الأولى التي ينزح فيها هذا العدد من الأهالي إلى الأحياء الغربية، منذ إغلاق معبر بستان القصر - المشارقة في وجه المدنيين في عام 2014. في هذا السياق، يقول طلال الحسيب، من حي الشعار في حلب: "لم يكن أهالي حلب ليلجأوا إلى قاتلهم. إلا أنّهم فقدوا الأمل في كل شيء، وقد جردوا من كلّ مقومات الحياة، ولم يعد لديهم ما يخشونه، رغم أنهم اليوم معرّضون لخطر الاعتقال وغيره من أعمال انتقامية. اليوم، لم يعد أمامهم إلا الموت".

وكان آلاف السكان الذين بقوا في الأحياء الواقعة في يد النظام قد وجدوا عشرات الحافلات الخضراء في انتظارهم، فسلّموا أنفسهم لقوات النظام، التي سيّرت تلك الحافلات إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها بعد تسجيل بياناتهم، فيما توجهت أخرى إلى مركز إيواء في جبرين، والذي أنشأته حكومة النظام في وقت سابق من العام الجاري قرب مطار حلب الدولي، ونقل النازحون، الذين كانوا يقطنون في عدد من المدارس والمؤسسات الحكومية في مناطق سيطرتها إليه.



من جهته، أعلن فرع جمعية الهلال الأحمر في حلب أنه استجاب لموجة النزوح الطارئة لأهالي أحياء مساكن هنانو والحيدرية إلى منطقة جبرين، مشيراً إلى أن فرق الجمعية وزعت المستلزمات الأساسية على النازحين هناك، من فرش وبطانيات وأدوات مطبخ، بالإضافة إلى الشمع والحصر وملابس الأطفال والخبز والطعام المطبوخ وعبوات مياه الشرب والأدوية اللازمة. ولفتت الجمعية إلى أنّها خصّصت فرقاً طبيّة جوالة لتأمين الرعاية الصحية والإسعافات الأولية، مشيرة إلى أن حالة النزوح مستمرة، وتعمل فرقها بجهد للاستجابة.

من جهته، يقول أحمد العلي، الذي يعيش في الأحياء الغربية لمدينة حلب: "كنت أنتظر استقبال عائلة أخي، إلا أنها أخذت إلى مركز الإيواء في جبرين، ولم يسمح لهم بالدخول إلى حلب. وحين طلب أخي من أحد العناصر أن يسمح له بالمجيء إلى هنا، قيل له إن ذلك غير ممكن قبل الانتهاء من التحقيق معهم، للتأكّد من أنّهم لم يتعاملوا مع إرهابيّين".

الهرب إلى الحصار

استقبلت بقيّة الأحياء المحاصرة في حلب، والتي ما زالت تحت سيطرة قوات المعارضة، كالميسر والقاطرجي والشعار والطحان، آلاف النازحين الذين توجهوا إلى منازل أقاربهم. وتعدّ هذه الأحياء، التي تحتضن أكثر من 250 ألف مدني محاصر، أحياء منكوبة، وتتعرض بشكل يومي للقصف بشتى أنواع الأسلحة، كالصواريخ والبراميل المتفجرة والقنابل.

وعلى عكس وجهات أخرى، لا أمل للنازحين إلى هذه الأحياء بأن يحصلوا على أي مساعدات، إذ يعيش السكان في ظل حصار خانق منذ أكثر من ثلاثة أشهر، علماً أن آخر قافلة مساعدات غذائية كانت قد دخلت هذه الأحياء في يوليو/ تموز الماضي.

يقول عبد الرحمن، الذي نزح مع عائلته إلى حي الشعار: "لن أسلم رقبتي للنظام مهما حصل.
لقد قتلوا ولدي وأخي وأولاده. أفضل الموت جوعاً على أن أسكن تحت كنفه. في الوقت الحالي، نحن محاصرون من كل الاتجاهات، ولا ندري إلى أين نذهب". يضيف: "وصلت إلى بيت شقيقي. نتقاسم معهم رغيفاً يابساً وكأس شاي مرّ بعدما فقد السكر، لكنه ليس أمرّ من ذلّ العيش في كنف قوات النظام".

من جهته، يؤكّد الدفاع المدني السوري أن 39 مدنيّاً قتلوا في أحياء حلب المحاصرة يوم الأحد وحده، فيما أصيب أكثر من 200 آخرين، مؤكداً أن فرقه مستمرّة في عمليّات إنقاذ المفقودين من تحت أنقاض المباني المدمّرة. ويزداد واقع المصابين والجرحى سوءاً، مع خروج معظم مستشفيات المدينة عن الخدمة، ما يحرمهم من تلقي العلاج اللازم. ووفقاً لمديرية صحة حلب الحرة، فقد وصل عدد الضحايا، خلال الأيام العشرة الأولى للهجمة العسكرية الأخيرة لقوات النظام على الأحياء الشرقية، إلى 508 مدنيين، فيما تجاوز عدد المصابين 1871.

من جهته، يقول حيان، وهو ناشط إعلامي من حلب، إن سكان الأحياء المحاصرة يتوقعون أياماً أسوأ من التي مرّت عليهم، في ظل استمرار تقدم قوات النظام نحو الأحياء الشرقية. يضيف أن "الرعب والخوف من القادم هو سيد الموقف هنا، إذ إن كثيرين يعيشون وكأنها أيامهم الأخيرة. هناك حالة من انعدام الأمل". يضيف: "استغربت حين قرر أحد الأصدقاء عقد قرانه، رغم أن ما تعيشه المدينة يعد الأسوأ على الإطلاق. وحين سألته، أخبرني أن أحداً لا يضمن أن يعيش إلى الغد. لذلك، سأعيش وكأنه آخر يوم لي على الأرض".