تتضارب الأرقام المتعلقة بعدد الجزائريين المقيمين في فرنسا، أما المؤكد فهو أنهم يشكلون أكبر الجاليات وأقدمها، إذ يرتبط وجودهم في فرنسا بوجودها في الجزائر (1830 ـ 1962). بعضهم قصدها بحثاً عن لقمة العيش، وآخرون كمنفى، فيما هرب البعض إليها على خلفية تعامله مع الاستعمار بعد انتخابات تقرير المصير. وهذه الفئة الأخيرة تسمى في فرنسا "قدماء المحاربين" ولها وزارة قائمة في الحكومات الفرنسية المتعاقبة، أما في الجزائر فتسمى "الحركى".
لم تتوقف هجرة الجزائريين نحو فرنسا على مدى عقود الاستقلال، ما بين شرعية وغير شرعية. الأولى في إطار البعثات العلمية وعلاقات الزواج والتعامل التجاري والهجرة السنوية التي تعتمدها السفارة الفرنسية، بما فيها تلك المتعلقة باللجوء السياسي، خصوصاً في زمن العنف في تسعينيات القرن الماضي. أما الثانية، غير الشرعية، ففي إطار ما عُرف في السنوات الأخيرة بهجرة "قوارب الموت".
هذا الامتداد التاريخي للجزائريين في بلاد "فافا" كما يسميها الشارع الجزائري، جعلهم يتشكلون في تجمعات شعبية في الضواحي، ولها طقوسها وقاموسها اللذان يختصران جملة التمزقات المتعلقة بالهوية والانتماء، التي عادة ما تطفو إلى السطح من خلال تظاهرات مثلاً. وهذا ما جعل أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا تصف هؤلاء الجزائريين بالقنبلة المؤقتة المؤجلة المزروعة في عقر الدار.
في السنوات الأخيرة، وفي ظل تنامي ظاهرة الإرهاب المحسوب على العالم الإسلامي، تنامت النظرة اليمينية المتوجسة من هذه الفئة التي تنسب إلى فرنسا في الحالات الإيجابية، مثل تلك المتعلقة بالمخترعين والرياضيين الذين يحصدون الألقاب للمنتخبات الفرنسية، وإلى الجزائر في الحالات الأخرى مثلما يحدث هذه الأيام لا سيّما بعد تفجيرات باريس الأخيرة.
اقرأ أيضاً: قلق في أحياء باريس العربيّة
عبدو بوكفة ممثل جزائري انتقل إلى فرنسا قبل ثلاث سنوات، ليكمل دراسته الجامعية. وسرعان ما اصطدم بنظرة عنصرية في الواقع الفرنسي الذي كان يراه مثالياً في احتواء الأعراق المختلفة. يقول لـ "العربي الجديد" إنه كان في 13 نوفمبر/تشرين الأول عند وقوع الهجمات الإرهابية على بعد خمس دقائق من مسرح لو باتاكلان، "وأول ما فكرت فيه حينها، هو سلسلة الاعتداءات التي سيتعرض لها العرب والمسلمون". وقد ساهم بوكفة في العناية بالجرحى، خصوصاً أن طلاباً عديدين سقطوا من جامعة سان دوني. كذلك دخل في نقاشات مع عدد كبير من الفرنسيين، وأكد على أن ثمة متطرفين لا يستطيعون تفويت فرصة ذهبية مثل هذه، لتمرير مشروع طرد المهاجرين. يقول: "الأعمال الإرهابية التي تقع بعيداً عنهم كانت ذريعة لذلك، فكيف وقد وقعت في ديارهم؟". وعن رد فعل المهاجرين يقول: "المسلمون خائفون هنا، لا سيما النساء المحجبات. أما الطبقة المتعلمة، فهي تحرص على نشر الوعي والتحذير من تلاعب السياسة بأبجديات العيش المشترك". ويشير بوكفة إلى أن "هذه الأحداث خلّفت قلقاً كبيراً لدى الأهل في الجزائر، ما جعل وتيرة التواصل عن طريق الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي تختلف عما كانت عليه في السابق. يقول: "كنت أتلقى اتصالات قليلة في الشهر من أهلي في الجزائر للاطمئنان على وضعي، أما اليوم فتكاد لا تنقطع على مدار الساعة. كذلك الأمر بالنسبة إلى أصدقائي في المدينة الجامعية".
اقرأ أيضاً: تسامح وحريّة.. فرنسا تسعى إلى "حوار مفيد" في المدارس
في القطار الذي يربط بين مدينة بومرداس والجزائر العاصمة، شهدنا ثلاث مكالمات هاتفية بين جزائريين وذويهم في فرنسا. وفهمنا من خلال ما دار بينهم من أحاديث، أن القلق متبادل بخصوص ما يمكن أن يتعرّض له المهاجرون في فرنسا من أذى. يُذكر أن تلك المكالمات كانت في أكثرها نصائح، من قبيل "لا تخرج إلا للضرورة" و"لا تترك الباب والنوافذ مفتوحة" و"لا تظهر لهجتك المغاربية في الطريق" و"تجنب كل ما يدل على جزائريتك".
يخبر واحد من هؤلاء أن شقيقه الأصغر في فرنسا منذ تسعة أشهر، بعدما تزوج من ابنة عمه المجنّسة. يقول إنه "انتقل للعيش معها في الضاحية الشمالية لباريس، لكنه ما زال عاطلاً من العمل ولم يسوّ أوضاعه بعد". يضيف ضاحكاً: "أخي مجنون. أبدى لي أسفه لعدم قدرة الجزائريين على الخروج إلى الشوارع، للاحتفال بفوز الفريق الوطني على فريق تانزانيا بسبعة أهداف لصفر، خوفاً على حياتهم".
في أحد مراكز الإنترنت في مدينة بودواو (شرق الجزائر)، يخبر القيّم عليه أنه لاحظ ارتفاعاً في إقبال المواطنين على المكان للتواصل مع ذويهم في فرنسا، بعد التفجيرات الأخيرة. كذلك لاحظ نفاداً سريعاً لبطاقات شحن الهواتف المحمولة. في تلك الأثناء، تابعنا حديثاً بين أم وابنتها عبر موقع "سكايب": "كيف حالك ماما؟/ أخبريني أنت عن حالك، أنت في فم المدفع/ أي مدفع ماما؟ ليس إلى هذه الدرجة. أنا أسكن في عمارة كلها فرنسيون، ولم ألحظ منهم إلا ما عوّدوني عليه من معاملة راقية". لكن الأم بقيت تصرّ على ابنتها للانتقال إلى بيت خالها في مارسيليا.
اقرأ أيضاً: نخاف من المستقبل