الورق الحرام

12 أكتوبر 2015
وحدها هي لم تكن بين هؤلاء الأطفال (Getty)
+ الخط -

ما زالت حتى اليوم تغضب وترفعُ الأقلام والأوراق بعناية كلما وقعت على الأرض. تفعل ذلك كأنها ترفع أحجاراً ثمينة. لم يغيّر سنّها العجوز هذا الإفراط في الانتباه. هذه عادةٌ اكتسبتها منذ زمن بعيد.

كانت تؤنّبُ أولادها كلما تعاطوا بخفّة مع الأقلام والأوراق. وهم، الشياطين الصغار، يرمون الأقلام عشوائياً. فتجمعها، تخربش بها على أوراق عتيقة، فإذا تبيّن لها أن حبرها لم يجفّ بعد، خبّأت الأقلام بغرض الإفادة منها لاحقاً.

أما الدفاتر، والتي يملّ الشياطين الصغار منها كلما انتهى العام الدراسي من دون أن تنتهي جميع أوراقها، فتبحث فيها جيداً، وإن وجدت ما هو غير مستعمل مزّقته من الدفتر واحتفظت به جانباً. فرمي هذه الأوراق حرامٌ وإهدارٌ في غير مكانه.

لم يكن حرصها على عدم ضياع الأوراق البيضاء مرتبطاً بخلفية بيئية. ربّما لم تكن تعلم بالعلاقة بين الأوراق والبيئة. أو ربما عرفت ذلك، لكنّ هذا الأمر لم يكن مهماً بالنسبة لها. اهتمامها هذا له سببٌ آخر. فقد كانت كلما شاهدت الأقلام والدفاتر مرميّةً على الأرض أخذتها الذاكرة إلى زمنٍ آخر. زمنٌ بالأبيض والأسود كان يذهب خلاله الأطفال إلى المدرسة حاملين الأقلام والدفاتر في حقائبهم الصغيرة.

وحدها هي لم تكن بين هؤلاء الأطفال، مع أنها ككل طفلة، كانت تستحق ذلك. ولعلّها كانت تستحق ذلك بشدّة. فقد خسرت هذا الحق لذنبٍ لم ترتكبه. ذنبٌ يرتبط بعادات اجتماعية بالية تدفع ثمنه البنت لمجرّد أنها جاءت إلى الحياة بنتاً. وكانت تستحقه بشدّة لأنها كانت بالفعل ذات ذكاءٍ وقّاد يشعُّ من عينيها الملوّنتين - وما زال- كلما حاول أحدهم استفزاز مواهبها.

صارت جدةً اليوم. مع ذلك لم تغيّر عادة المبالغة في الحرص على الأدوات المدرسية في العلاقة مع حفيدتها. فهذه أدواتٌ لم ولن تفقد قيمتها. وبالعادة، لا يعرف قيمة الشيء إلا من يفقده. وفي حالتها، هذا فقدٌ لن تتمكن يوماً من الفكاك منه.

في أيامٍ أخرى كانت تنزل إلى الشارع في عزّ المطر لتقف مع أولادها وتحرسهم ريثما يصل الباص. باص لم تركب فيه إلى مدرسةٍ لم تذهب إليها. ربما كانت تحلم بالصعود إلى باص المدرسة. ربما ما زالت تفعل ذلك سرّاً. لذلك ستنتظر الباص مع حفيدتها كلما سنحت لها الفرصة لذلك. ولا ضير إن هطل المطر. ستحمل الصغيرة بما تبقى لها من قوة كي لا تدوس القدمان الصغيرتان في مستنقعات المياه. فقد فعلت ذلك مع والدة الصغيرة وأخويها من قبل. ستفعل ذلك حتى لو لم تكن تنتعل في قدميها إلا مشايةً صيفية في عزّ الصقيع. فالشتاء والبرد لا يؤذيانها.

خسارتها في مكانٍ مختلفٍ تماماً..

اقرأ أيضاً: التلميذة الأجمل
دلالات
المساهمون