نزيف النخبة وسط النزيف العام

14 يناير 2015
هؤلاء قد لا يفكرون بالعودة إلى الديار (الأناضول)
+ الخط -

وسط حال الفوضى والتفكك والحروب الأهلية العربية، مهما كانت مسمياتها السياسية، يغيب عن بال الكثيرين ما هو أبعد من النتائج الكارثية التي يخلفها الاقتتال اليومي. وما نقصده، هنا، يتجاوز سقوط مئات الألوف من المواطنين العرب قتلى وجرحي ومعوقين، ودمار المدن والقرى، وتهجير الملايين إلى دول الجوار، وداخل بلادهم، هرباً من منجل الموت الذي يحصد الناس المسالمين دون هوادة. ومثل هذا ينطبق على سورية والعراق وليبيا وإلى حد ما اليمن، ناهيك عن الصومال الذي يخوض أبناؤه حرباً أهلية مزمنة.

فهنالك كارثة أدهى من كل ما ورد، وهي المتمثلة في النزيف الخارجي الذي تعانيه البلدان العربية في كفاءاتها وعقولها أو أدمغتها. لم تعد البلدان العربية بما فيها تلك التي تشهد "منوعات خفيفة" من الفوضى مكان عيش ملايين البشر الذين يقيمون فيها رغم إرادتهم. لكن هؤلاء بأعدادهم الكبرى لا يستطيعون الهجرة لأسباب وعوامل متعددة. مع ذلك، فالقسم الأكبر من الشباب العربي المؤهل علميّاً والذي يملك كفاءات نوعية، يجد له أمكنة هنا وهناك. يصح مثل هذا الوضع، أيضاً، على الدول التي تعاني من حال عدم الاستقرار السياسي نسبيّاً.

لم يكلف أحد نفسه عناء معرفة مقدار هذا النزيف من دول الفئة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة إذا قررنا وجودها وقدرتها على استيعاب الأعداد الكبرى التي يمكن أن تدق أبوابها بقصد العمل أو حتى لمجرد تمرير زمن العاصفة هذه، ريثما تستطيع العودة الى ديارها. وإذا ما وجدت مثل هذه الفئات مثل هذا الملاذ المؤقت، فمن المتعذر عليها الانخراط في مجالات العمل العاجزة عن الإفادة منها لأسباب بنيوية تتعلق بطبيعة مكونات اقتصاداتها ومؤسساتها، وقصورها عن استخدامها. إذا كان هذا يعني أمراً، فإنه يعني دفعها دفعاً للهجرة إلى الدول المتقدمة التي تستطيع بما تملكه بُناها من مرونة، الإفادة من هذه القدرات.

لم يطرأ جديد على موضوع قديم اسمه هجرة العقول العربية نحو مستقرات جديدة، قد تكون دائمة ونهائية. بمعنى أنّ هؤلاء الذين يحصلون على مثل هذا الامتياز قد لا يفكرون في العودة الى ديارهم. وهو خلاف الهجرة إلى العمل في دول الخليج العربي حيث يبقى التواصل قائماً مع مواطنهم، وبإمكانهم التردد عليها بتكاليف سفر مقبولة، كما يمكنهم المساهمة في تقدم وتطور دول عربية.

لكن، ما هو الفارق بين هجرة الأدمغة الراهنة والهجرة المماثلة القديمة؟ وما هي الكلفة التي تدفعها الأقطار العربية ثمناً لها؟ وكيف يمكن أن تعالج؟ هذه الأسئلة تستحق البحث عن أجوبة.
(أستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية)
المساهمون