يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(27 ديسمبر)
لم يعد لدينا حطب، فلم نتمكّن من غلي الشاي هذا الصباح، لتناوله ونحن نقف وسط الخيام، نحاول أن نستمتع بالشمس إن أشرقت. وربما لحسن حظنا كان الجو غائماً، وبدا أن مطراً قريباً سيهطُل بعد قليل. ومع ذلك، كان علينا التفكير في جلب الحطب، حتى نتمكّن من مواصلة حياتنا بشكل معقول. الحد القليل المطلوب من الاستمرار. مع الضغط المتواصل والاستهلاك المستمرّ والمتزايد، ومع وصول مزيد من النازحين من مناطق المحافظة الوسطى وخانيونس، نفد الحطب تقريباً من السوق، وصار على الواحد منّا ليحصل على شيء عزيز عليه أن يبحث عنه، وقد يجده فقط بشقّ الأنفس. في الآونة الأخيرة، كان كل الحطب المتوفّر أخضر حديث القصّ لم ينشف بعد، وكان إشعاله صعباً، ويأخذ وقتاً، إذ يصدُر عنه الدّخان الكثيف الذي يعمي العيون. كان إيقاد النار في الأيام الخمسة الأخيرة أمراً عسيراً، لأنه سيؤلم العيون والصدور أيضاً، ومع ذلك، يمكن للمرء أن يتحمل أي شيء إذا كان فيه بعد ذلك راحته.
لا حطب لدينا اليوم، ولا نار نوقدها، ولا شاي نشربه، ولا فطور نتناوله، وربما لا غداء نطهوه، ولا عشاء يملأ بطوننا الخاوية. بالنسبة لي، لا أتناول إلا وجبة واحدة، هي فطوري وغذائي وعشائي، فيما يجب إعداد الطعام للحاجّة التي يجب أن تتناول ثلاث وجبات حتى تتمكّن من تناول دوائها. كانت روائح النار الصاعدة من مواقد الخيام المجاورة تثير الغيرة في نفوسنا، ونحن نترقّب نارَنا أن ينهض لهبها من الرّماد.
بدا أخي إبراهيم حائراً، وهو يفكر كيف يمكن لنا أن نؤمّن الحطب اللازم للأيام المقبلة. توقّف تفكيري في الوجبة اليتيمة التي سأتناولها هذا المساء، حين أعود آخر النهار متعباً مرهقاً، لأن عدم وجود حطب يجعل كل شيء مستحيلاً. هل كانت النار أهم اكتشافات البشرية عبر التاريخ. لا يمكن تخيّل حياة الإنسان بدون النار، ولا يمكن فهم كيف نجح الإنسان بترويض الطبيعة من دون المرور على صهر المعادن وتطويعها، وإيجاد الآلات الحادّة التي بدأ بها معارك البقاء في وجوه الحيوانات الأخرى ولمواجهة قسوة الحياة. قال إبراهيم إنه، في النهاية، سيذهب مع جمعة للتحطيب، أي للبحث عن بعض المناطق التي ما زال فيها بعض الأشجار البرّية، خصوصا في المناطق الغربية الجنوبية لرفح باتجاه مواصي خانيونس. قد تكون بعض الأشجار ما زالت قائمة، لم يصل إليها فأس، ولا قطعها حطّاب. قلت له لنحاول أن نشتري بعض الحطب، حتى لو كان أخضر. أيّ شيء نتدبّر به أمرنا هذه الأيام. قال إن خيار التحطيب يجب أن يظل قائماً. رغم الحديث عن إدخال الغاز في الفترة الماضية عبر شاحنات المساعدات، وعن السماح بدخول كمّياتٍ منه عبر المورّدين، إلا أن النازحين مثلاً لا يوجد لديهم أسطوانات ليعبئوها، فهم تركوا أسطواناتهم في بيوتهم ولم يحملوها معهم. أيضاً ما تم إدخاله من غاز لا يتم توزيعه على النازحين، حيث يقتصر توزيعه على سكّان رفح غير النازحين، ربما لأن لديهم أسطوانات في بيوتهم أخذوها معهم حين انتقلوا من منطقة إلى أخرى، داخل البلدة والمحافظة. ولكن المؤكّد أن حلولاً إبداعية يجب أن تشمل إدخال أسطوانات للنازحين، وتوزيعاً عادلاً وتدفقاً دائماً. ومن المؤكّد أن الأزمة تتفاقم في الشتاء مع هطول الأمطار، لأن الحطب لا يعود ملائماً لإيقاد النار بسبب الأمطار وبسبب البلل الذي سيصيب أي حطبٍ يتم جمعه. الحطب الناشف هو ما يسعى وراءه النازحون، لأنه الحطب الملائم لإشعال النار. اقترحتُ على إبراهيم أن ينزل معي إلى البلد لمحاولة شراء أي كومةٍ من الحطب، "نسلّك" حالنا فيها هذه الأيام، حتى يقضي ربّك أمراً كان مفعولاً. أتذكر أول مرّة اشتريت حطباً حين كنت في الشمال، وكنت أبيت عند فرج. كان كيلو الحطب ثماني أغورات، ثم صار بشيكل ونصف الشيكل بعد أيام، وحين وصلتُ إلى رفح كانت عربة الحمار المليئة بالحطب بخمسين شيكلاً، ثم بعد أسبوع صارت ب70 ثم بمائة ثم ب150، والآن بصعوبة يمكن الحصول ليس على عربةٍ مليئةٍ بالحطب، بل على بضعة كيلوات منه.
الإحباط زائر دائم، وحين يُمسك بك، تشعر بالملل، وبعدم الرغبة في فعل شيء
ويقود الحديث عن الغاز إلى الحديث عن المساعدات بشكل عام. هناك تجارة مساعدات بدت رائجة في الأيام الأخيرة، وانتعشت بشكل أكبر ولافت، بحيث يكاد يكون الشيء الوحيد الذي يمكن شراؤه في السوق من البضائع هي التي تدخل ضمن شاحنات المساعدات، ويمكن الافتراض من باب اليقين أيضاً أن هناك تجّاراً وسماسرة يتلاعبون بالأسعار ويتحكّمون في وفرة ما ينزل في السوق من تلك البضائع من جهة الأصناف ومن جهة الكميات لا للعرض والطلب، لعبتهم التي يتحكّمون من خلالها بكل شيء في البلد. مثلاً، في بداية النزوح إلى الجنوب كان سعر علبة الخميرة 50 شيكلاً، وكان الحصول على ملعقة صغيرة منها أمراً صعباً، رغم ارتفاع سعرها، ثم فجأة توفرت كميات كبيرة منها في السوق، وصار سعرها 15 شيكلاً ثم ثمانية شواكل. الأمر الآخر أن السلع لا تتوفّر كلها مرّة واحدة. هناك من يقرّر ماذا سينزل للسوق، وما الذي سيتم حرمان الناس منه، حتى لا تتوفر لهم خيارات فيما يشترون، فيضطرّون لشراء ما هو معروض عليهم، وبالسعر المطلوب منهم. ... أيّ بشاعة هذه.
عموماً، هذه قصة أخرى. هالني أن الحياة يمكن أن تقف أمام كومة حطب، وأن يومنا قد لا يتقدّم خطوة واحدة من دون أن نتمكّن من الحصول على حطباتٍ تساعدنا في تحضير طعامنا. فضّل ياسر البقاء في الخيمة، فيما سرت أنا وإبراهيم إلى تل السلطان، حتى نجد مواصلة تأخذنا إلى وسط البلد. الإحباط زائرٌ دائم، وحين يُمسك بك، تشعر بالملل، وبعدم الرغبة في فعل شيء، فقط تريد أن تمشي ولا تتحدّث مع أحد، ولا تريد أن تردّ على أي مكالمة جوّال، ولا تريد أن تهاتف أحداً.
تركت إبراهيم في وسط البلد، حيث كانت وجهته حي جنينة، وسرت في شارع البلدة الرئيسي، ثم توجّهت إلى خربة العدس. في مقر الهلال الأحمر، التقيت بالفنانين محمّد الحواجري ودينا مطر. جلسنا ساعة ونصف الساعة، نتحدّث عن شؤون حياتنا، وكان الفن يتسلّل خلسة إلى جلستنا المزدحمة بالهموم. محمّد ودينا فنّانان لهما مكانتهما في الحركة الفنية الفلسطينية في قطاع غزّة، نزحا من مخيّم البريج يوم أمس بعد اشتداد القصف عليه، وتحرّك الدبابات نحو بيوته. تركا خلفهما مرسمهما الجميل في الطابق العلوي لمنزلهما الواقع في أحد أزقة مخيّم البريج. يسكنان الآن مؤقّتاً في منزل لأحد أنسبائهما قرب مقر الهلال الاحمر في الخربة. يرسم محمّد في أعماله الأخيرة الحيوانات بشكل مكثّف، مستلهماً حياة ريفية فلسطينية أخذتها قسوة الواقع. قطعان الماشية والحركة تقترحان الاستمرار وتفاصيل الجسد والوجه الحيواني يأخذ أبعاداً شعورية وإنسانية عالية، وثمّة إنسان غير مرئي في اللوحة يتريّض، ويرى كل تلك التفاصيل. فيما اشتغلت دينا في الآونة الأخيرة على تفاصيل المرأة الفلسطينية مستلهمةً الثوب والأزياء الشعبية بطريقة مختلفة، بحيث تحضر الفكرة من دون الإغراق في التفاصيل. لاقت لوحاتها تلك رواجاً كبيراً بسبب عمق الفكرة. محمد ودينا ثنائي مبدع لهما حضور مميّز في المشهد الفني في قطاع غزّة. يشرف محمد على غاليري التقاء الذي دمّرته الدبابات الإسرائيلية في أثناء اجتياحها حيّ الرمال غرب مدينة غزّة في شارع عمر المختار، وهدمت أجزاءً منه، ودمرت بعض لوحات الفنانين المعروضة داخله. الهمّ الكبير والقلق غولان يلتهمان نظرات عيونِنا الزائغة غير المستقرّة، وذلك كله يقول الكثير عن مستقبلنا الذي لا نعرفه.
يُدمن الفلسطيني الحديث في السياسة، وفي تحليل الواقع الذي يعيشه ويعيشه الكوكب حتى، وليس غريباً أن تعجّ الفضائيات وقنوات التلفزة ونشرات الأخبار بأصوات هؤلاء المحلّلين الذين ليسوا أكثر من مواطنين فلسطينيين وجدوا طريقة للوصول إلى تلك الفضائيات والكاميرات، ليخبروها بما تريد أن تسمع. لا يمكن أن يجلس فلسطينيان من دون أن يكون نصف حديثهما عن السياسة والنصف الآخر عن مشكلات الحياة ومشكلات الحياة الفلسطينية مرتبطة بالسياسة بالضرورة. أخذتنا السياسة بعيداً، وأبحرنا في التشاؤم وعصرنا كل خرق الأمل التي وجدناها، فظلّ واقعنا قاتماً عصياً على الفهم.
هناك حيث تنتهي قارّة وتبدأ قارّة، كانت خيمة سماح وسط مجموعة كبيرة من الخيام
ذهبتُ مساء أمس لزيارة أختي سماح التي نصبت خميتها في آخر نقطة في رفح، حيث يلتفّ البحر الأبيض المتوسط ويصير مصرياً. آخر نقطة ماء في آسيا وآخر موجة في شاطئ المتوسط الشرقي وأول موجة في شاطئه الجنوبي. هناك حيث تنتهي قارّة وتبدأ قارّة، كانت خيمة سماح وسط مجموعة كبيرة من الخيام. المسافة بين مدخل الحي السعودي والدوّار الذي استدرنا منه يساراً حتى نمضي في طريقنا نحو مجموعة الخيام الجديدة استغرقتنا في السيارة 45 دقيقة بالتمام والكمال، وهي المسافة التي قطعتُها بعد ذلك في طريق عودتي سيراً على الأقدام فقط في سبع دقائق، لكثرة الزحمة وكثرة النازحين القادمين من خانيونس والنصيرات والبريج والمغازي. كان مشهداً يصلُح في فيلم عن يوم القيامة وحشر الناس في شارع واحد. لم أصدّق هذا الكمّ المهول من الناس والسيارات والشاحنات والعربات التي تجرّها الحيوانات. يحمل المواطنون أمتعتهم والعربات مليئة بالفراش وممتلكات النازحين، وبعضها يحمل خشباً وقماشاً وخياماً. لا توجد منطقة واحدة فارغة، الكل يبحث عن مكانٍ ينصب فيه خيمة، والكل يريد أن يجد مكاناً ينام فيه الليلة. أي بؤس هذا! ومع ذلك، هؤلاء الذين نزحوا من خانيونس والبريج والمغازي أكثر حظّاً منا نحن الذين نزحنا من الشمال، فهم تمكّنوا من إحضار أمتعتهم وفراشهم وبطّانياتهم وآنية طعامهم معهم، لعدم وجود حواجز تفصل مناطقهم عن مكان نزوحهم في رفح، فيما نحن نزحنا "بطولنا"، المحظوظ منا من حمل حقيبة يد وسار بها. أنا لحظّي حملتُ تلك الحقيبة التي وضعت فيها كل صور العائلة وأوراقنا الثبوتية وشهادات المدارس، وكان حظّي أكثر، إذ إن هذه الصور التي تضم ذكرياتنا في جنباتها وتلك الأوراق والشهادات والصور التي يعود بعضها إلى الأعوام الأولى للنكبة نجت من الموت الذي أصاب بيت حماي بعد قصفه بعد خروجنا. دائماً ثمّة حظّ ما في كل فعل نقوم به.
(28 ديسمبر)
تستمرّ الحرب، وتستمرّ الخيمة بيتاً يضمّنا في جنباته، ويستمرّ المخيم حارة جديدة تصنعنا معها كلما تقدّم العمر. مرّ زمنٌ، ومرّت حياتنا، وعما قليل سيكون قد مرّ علينا ثلاثة أشهر ونحن تحت وطأة الحرب وغضب الطائرات والبوارج. لا شيء يتغيّر. المزيد من الأخبار والمزيد من القصف والمزيد من الفقد والمزيد من الحزن. الحزن الذي لم يعد يرتسم على وجوهنا علاماتٍ بارزة، لشدة ما مرّ على تضاريس وجوهنا من عجلات الزمن القاسية. تستمرّ الحرب، وتستمرّ حياتنا في عثراتها وتأوهاتها التي لا تعرف التوقّف. ليس لنا إلا المزيد من الانتظار والمزيد من التوقف أمام العمر، نحاول فهم ما يجري حولنا، حتى نتيقن أننا موجودون، وأننا ما زلنا أحياء، ولم نذهب مثل من ذهبوا من الأحبّة والجيران. نتوقّف أمام أنفسنا تلفّنا رجفة الخوف ورجفة الموت الذي ينتظرنا أو نحن ننتظره. تستمرّ الحرب وتمضي في طريقها، فيما نحن الذين نتوقّف حيث نحن، كأننا نرجو أن يتوقّف الزمن وتتوقّف الحرب ويتوقّف الوجع ولا نتوقّف نحن. تمرّ الأيام كأنها موج بحرٍ يهرُب من الشاطئ ثم يعود. وحياتنا مثل شمسٍ تغرُب خلف غيمةٍ ثم تعود إذا غابت الغيمة، ونحن لا نعرف متى ستُشرق شمسنا ومتى ستختفي. لا بد أن يمرّ الوقت، لا بد أن تمرّ عربات الحرب وتمضي التروس وينقشع الغبار وتهدأ المعركة، ويعود الجنود إلى بيوتهم، ويعود الصحافي إلى كاميرته بعد أن يمسح عنها بقايا الدم، ولا بد أن أعود إلى بيتي.
الهرب من الموت ليس خياراً. في مرّاتٍ، يكون هذا الهرب جزءا من الموت
في الطريق إلى خربة العدس، كان وجه أبو رياض ما زال مخطوفاً، وهو يروي لي كيف نجا من الموت يوم أمس في خانيونس. انهمرت القذائف على مقرّ الهلال في حي الأمل هناك. كان يركب السيارة الطبّية يُحضر بعض المتطوّعين من هناك. سقطت القذائف حولهم، ثم أطلقت الدبّابات النيران بكثافة عليهم. كانت الدبّابات التي وصلت من جهة شارع جلال تقف على بعد مئات الأمتار عنهم. رأى الدبّابة ورأى الجندي ورأى الرصاص يتطاير حوله. كان الشباب يتمدّدون داخل العربة تجنّباً للرصاص الذي يتساقط حولهم. شعر أنهم سيموتون. لم يكن أمامه، كما قال، إلا أن ينطلق بالسيارة بأقصى سرعة ممكنة باتجاه الغرب. الهرب من الموت ليس خياراً. في مرّاتٍ، يكون هذا الهرب جزءا من الموت، وجزءا من حيلة الموت اللعينة لاصطياد أرواحنا. قال أبو رياض إنه لم يتصوّر أنه سينجو. حين انطلقوا في الطريق، حيث ابتعدت عنهم رصاصات الدبابّات، وصار صوت القذائف صدىً يتردّد في الأفق خلفهم تنفّس الصعداء. هل يمكن أن يكون الموت قريباً إلى هذا الحد؟ الموتُ جزءٌ من تفاصيل الحياة التي لا تغيب. وحتى حيث يغيب يكون مختبئا خلف جدار أو ستارة رقيقة، حتى ينقضّ على ضحاياه في اللحظة المناسبة. كانت عينا أبو رياض تشيان بكثير من الخوف وبكثير من الحزن المدفون خلف جفونه الناعسة.
ما زاد قلقه أن عليه اليوم أن يتوجّه إلى النصيرات لإحضار بعض النازحين من العاملين في مقرّ الهلال في المنطقة الوسطى. خطر لي أن أذهب معه إلى هناك، حيث يوصلني إلى دير البلح قبل وصوله إلى النصيرات، فأزور عيشة ساعة حتى يعود، ويقلني معه إلى رفح. كان قلقاً أن مثل هذا المشوار لن يكون آمناً، وأننا قد نتعرّض للقصف في الطريق، وبالتالي قال لي إنه سيفكر في الأمر وقد لا يذهب. توجّست مثله، وقلت: لا بأس بالنسبة لي سأنسى الموضوع. ابتسم وقال: خِفت. ... طبعاً خِفت، قلتً ضاحكاً. الخوف جزءٌ منا نحن البشر. هاتفتني أمس عيشة، وتحدّثنا نصف ساعة. ما زال حموها شوقي يُلملم حزنَه بعد فقده أخويه، أحمد ومحمّد، وأخته هدى، وعائلاتهم. الحزن الكثير بحاجة لزمن طويل، والألم الشديد يحتاج لبكاءٍ كثير حتى يشفى، ولن يشفى بشكل نهائي. قلت لها إن توفرت لي فرصة سآتي لأزورهم. ... أعرف أن هذا صعب وخطر، وليس من الحكمة ركوب الخطر بمثل هذه البساطة، خصوصا إذا كان المرءُ متيقناً أن الموت أمر قد يحدُث في أي لحظة. حين قلت لإبراهيم في الصباح إنني فعلاً أفكر أن أزور عيشة، فأنا اشتقتُ للأطفال، إن الأمر يمكن تأجيله إلى وقتٍ آخر، وقلت إن هناك من يذهب ويعود من هناك. فقال بتردّد: وماذا إذا كان نصيبك أنك لن تعود وحدثت الكارثة. ... يقصد أن الوضع قد يبدو آمناً لبعض الناس، وحين أذهب يكون حظي السيئ أن تسقط قذيفة على السيارة التي تقلّنا. أفهم ما يقول، وأعرف أن هذا وارد. عموماً، قلتُ لأبو رياض إنني سأنتظر قراره ثم أقرّر. قفزت من السيارة حين وصلنا، وأنا أدرك أنه لن يذهب، وأنه سيجد ألف عذر من أجل أن يتجنّب الشعور بالموت المحقق الذي عاشه يوم أمس، وهو يقل المتطوّعين من خانيونس. كانت بقايا الحكاية عالقة في عينيه المتعبة. أخذ القصف الذي نجا منه أبو رياض 20 نازحاً، ظنّوا أن شارة الهلال قد تحميهم من بربرية القاتل، لكنهم كانوا مخطئين، لأن القاتل لا أخلاق له.
المزيد من الخيام. بين كل خيمة وخيمة. الكلّ يبحث عن مكانٍ يضع فيه خيمته
ضرب الجيش أبراج الاتصال الخاصة بالهلال، فقطعت خدمة الاتصال اللاسلكي، ما أثر على إمكانية تواصل طواقم الهلال ببعضها بعضا، وعلى الخدمة الصحية التي تقدّمها الإسعافات والطواقم الطبية.
في الطريق مرت سيارة "كيا" بجوارنا. صاح سائقها نحونا "الوطن بدّه يا أبو رياض". الطريق مزدحمة والسيارات تسير ببطء والمارّة يزاحمون السيارة حرم الطريق والصباح غائم. هتف أبو رياض "الوطن راح يا حبيبي". ابتسم أبو رياض، وهو يشرح لنا أن هذا كان رفيقه في السجن الإسرائيلي قبل 30 سنة. كان الرجل يقصد أن الوطن بدّه (يريد) تضحيات. واصل أبو رياض الطريق، وظلّت عبارة الرجل صاحب سيارة "الكيا" حاضرة في نقاشنا عن الوضع. لم يكن أبو رياض قد قال لي إنه قد يذهب إلى النصيرات. تركته واقفاً على درجات مقرّ الهلال، وصعدتُ بتثاقل، وأنا أحاول أن أطرد فكرة الذهاب إلى دير البلح من رأسي.
تنتشر الخيام بشكل مجنون في كل مكان. تمشّيتُ، أنا وإبراهيم، عند السابعة صباحاً، قبل أن يصل أبو رياض جهة الغرب خلف البركسات على امتداد شارع الخيام التي نقيم فيها. المزيد من الخيام. بين كل خيمة وخيمة. الكل يبحث عن مكانٍ يضع فيه خيمته. وصلت ليل أمس أسيل وأمها من المغازي، بعد أن نجوا من المذبحة هناك قبل يومين. كنتُ أحضّر طعام العشاء لي ولياسر، وانا أجلس حول النار التي أوقدناها، والدخان يعمي عيوننا ويهلك صدرنا. قالت إنها لا تعرف أين ستنام الليلة، وكيف يمكن لها أن تعيش في المخيّم. لم يتمكّن والدها يوسف من الوصول من المغازي، سيحاول في اليومين المقبلين الوصول إليهما. وعدتُها أنني سأحاول أن أساعدها في الحصول على خيمة. كنت قد احتفظت بخيمةٍ لعيشة في حال وصلت من دير البلح. قلتُ لإبراهيم إنه ليس من الحكمة أن نظلّ نحتفظ بالخيمة فيما هناك من هم في حاجة لها في هذا الشتاء القارس. اقترحت أن نعطي الخيمة لأسيل ووالدتها، وإذا قرّرت عيشة القدوم إلى رفح لكلّ حادثة حديث. وقفتُ، خلال سيري في شوارع المخيم، للحديث مع جيران عديدين سابقين، صاروا جيراناً جدداً في المخيم الجديد. ثمّة ألم ووجع مدفون في العيون وقلق محشو في النفوس، ونحن نتنهّد نسأل: متي ينتهي هذا كله؟ لا أحد يعرف.
صارت الخيام تجارة رائجة، فبعض التجار يجهزون قطع أراض واسعة، ويعملون خياما عليها، وينصبون حمّامات، ويجهزون مرافق أخرى، ويؤجّرون النازحين الخيام مقابل مبلغ مالي شهري. خيمة للإيجار. يستأجر بعض النازحين قطعة أرض، وينصبون عليها خيمتهم. ثمّة أشكال كثيرة من الاستئجار التي تخفّف رغم قسوة الفكرة من الضغط على النازحين الذين لا يجدون مكاناً يبيتون فيه. لا بيت للإيجار، خيمة للإيجار. مشهد الأراضي الواسعة التي ينهمك مجموعة من العمّال بتحضير خيام فيها بات شائعاً بشكل كبير في مناطق مختلفة. وليست هذه الخيام أكثر من بعض الألواح الخشبية التي يتم شدّ قطع النايلون بينها، ثم تتم تغطية الجزء السفلي بقطعة جلد، لإضفاء بعض الخصوصيّة على شفافية الزجاج الفاضحة. بهذا، تتوسع المخيّمات، وتزحف الخيام باتجاه البحر وجهة الحدود وجهة المجهول الجديد الذي ينتظرنا.
مزيد من النازحين يصلون كل يوم. كل صباح يوم آخر من النزوح. المشاهد المؤلمة نفسها للنسوة والأطفال والشيوخ يحملون أمتعتهم منهكين من الطريق الطويل الذي يقطعونه. قالت أسيل لي ليلة أمس إن ناسا كثيرين لا يملكون المبلغ المطلوب حتى يدفعوا أجرة السيارة أو العربة التي تقلهم إلى رفح وهم في انتظار الموت، لأنهم لا يقدرون على المشي نحو الجنوب. يمشي بعض الناس على أقدامهم هرباً من سرعة الموت الخاطفة.