يوميّات الحرب في غزّة (23)

17 ديسمبر 2023
طفلة فلسطينية مصابة في مستشفى ناصر في خانيونس جنوبي قطاع غزّة (12/12/2023/الأناضول)
+ الخط -

 يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(11 ديسمبر)

تواردت معلوماتٌ قليلة عن مصير الصديق الشاعر سليم النّفار. تواصلتُ مع ابن ابن عمّه أبو كمال الذي نزح عند أقرباء لهم في خانيونس، فأخبرني أنّ كلّ ما يعرفه أنّ شخصاً من عائلة اللوح، وهو نسيبٌ لهم، أخبره أنّ سليم وزوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى وشقيقه سلامة وزوجته وأطفالهم جميعاً استُشهدوا خلال استهداف الجيش بناية لجأوا إليها في حيّ النصر بالقرب من بيتهم. لم يتأكّد أحد من الخبر. هاتفتُ عائد أبو سمرة، فقال لي إنّ شخصاً أخبره عبر الهاتف إنه ذهب لانتشال جثمان عمّته التي استشهدت في العمارة نفسها، وأكد له أنّ سليم وعائلته تحت الركام. صباح اليوم، أرسل إليه ابن ابن عمّ سليم رسالة نصية، قال فيها إنّ والده (هنا عرفت أنّ والده ما زال في حيّ النصر حيث الاستهداف) إنّ سليم وسلامة وعائلتيهما ما زالوا تحت الركام. هذا عنى بشكل شبه مؤكّد أنّ سليم عملياً في عداد الشهداء المفقودين، مثل حاتم وهدى. وضعتُ كلّ هذه المعلومات التي توافرت لديّ على صفحتي في "فيسبوك"، من أجل إطلاع الآخرين عليها. انهالت عليّ المكالمات من أصدقاء سليم، خصوصًا رفاقه في جبهة النضال في الضفة الغربية، يسألون ويستفسرون. وفي ختام كلّ مكالمةٍ، أقول لعلّ كلّ هذه مجرّد إشاعات وأخبار غير مؤكّدة، ولعلّه موجود في مكانٍ لا نعرفه، ولا توجد لديه وسيلة اتصال وتواصل مع أحد.

لعلّنا كلّنا نحلم ولعلّ كل هذا كابوس، وكلّ ما نعيشه وهم، ولعلنا نفيق على الحقيقة التي لا نرى كلّ ما حدث معنا. لعلّه مجرّد وهم لا صلة له بالواقع. أو لو أننّا نغادر واقعنا ونعيش في الوهم، لأنّ الوهم أكثر جمالاً من هذا الواقع، ولأنّ الخيال على قسوته لا يمكن أن يصل إلى مستوى واقعنا المرير. لعلّ سليم في مكانٍ آخر، ونحن الذين غادرنا المكان الأنسب، وجئنا إلى واقع من صُنع خيالنا. لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأنا أنظر إلى سليم يقرأ آخر قصائده في لقائنا الأخير في منزل عائد أبو سمرة. كان فرحاً، وكانت فكرة قراءة الشعر تُفرحه. لا أستطيع أن أفي سليم حقّه في أيّ شيء، فهو شاعر ملهم ومبدع انتشل الجرح الفلسطيني من مقل العيون إلى قصائد الشعر، ووصف الألم والحلم كما يصف حمامة جريحة تطير نحو السماء. ومع ذلك، لم يأخذ حقه كثيراً عربياً، وكالعادة، يشتهر من لديه علاقات عامة وأصدقاء ورغبات كثيرة في السفر، يشارك في كل "طالعة ونازلة" في المؤتمرات والملتقيات والتجمّعات ومعارض الكتاب. ومع ذلك، ظلّ شعر سليم حاضراً في المدوّنة الشعرية الفلسطينية بقوّة. قد يكون سليم الآن تحت الركام مثل قصيدة لم تنضُج بعد في انتظار أن يعود إلى التراب مرقدنا الأبدي. طوال اليوم، تبادلت الكثير من القلق، مع أصدقاء كثر، عن المستقبل الذي لا نعرف.

قد يكون الشاعر سليم النفّار الآن تحت الركام مثل قصيدة لم تنضُج بعد في انتظار أن يعود إلى التراب مرقدنا الأبدي

القلق رفيقُنا الدائم في كلّ مكان وفي كل لحظة، السمة البارزة على وجوهنا والدلالة الأكثر انتشارًا في تفاصيل حياتنا. عدم اليقين من شيء وعدم المقدرة على تبصّر شيء حتى أكبر عرافة لن تفلح في استكشاف طلاسم مستقبلنا وفكّها. كنتُ أفكر في سليم، وأسأل: كم سيمضي من الوقت قبل أن نتأكّد من خبر رحيله المؤكد تقريباً؟ وهل سيكون وقتها ثمّة جثمان نستدلّ عليه؟ الصور التي انتشرت من مخيم الشاطئ لجثامين شهداء متحلّلة تقول الكثير عن مستقبل كل الشهداء الذين ما زالوا تحت الأنقاض. اعتصرت هناء ألماً وتعتصر كلّ يوم، وهي تفكّر في لحظة انتشال حاتم وهدى ومحمد ابنهما هيكلاً عظمياً من تحت الركام. قلتُ لها: في النهاية، كلّ الأموات يتحولون إلى هياكل عظيمة. ... التراب يتحلّل ويصير تراباً. لكن هناك نظرة أخيرة. نعم، هناك نظرة أخيرة يتم حرماننا منها. نظرة وداع تليق بكلّ تلك الذكريات الجميلة التي تستحقّ الاحتفاء والثناء، نظرة تقول إنّ للعمر بقية، وإنّ على من يعيش أن يتعوّد ألم الفراق. تلك اللحظة التي سنواجه فيها حقيقة الفقد. طالما لم يتم دفن الجثمان، يظل الفقد مؤجّلاً، يظلّ الشعور بألم الرحيل معلقاً ونظلّ واقفين ننتظر أن يلتهم المزيد من الوجع. قلتُ لعبد السلام: ربما لن يتم اكتشاف جثمان سليم إلا بعد أسابيع، وربما وقتها يكون قد تحلّل ولا نتمكن من الاستدلال عليه. يا لقسوة ما يجري.

الصورة
فلسطينية تبكي أقارب لها استشهدوا في قصف إسرائيلي في خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة في 12/ 12/ 2023 (Getty)
فلسطينية تبكي أقارب لها استشهدوا في قصف إسرائيلي في خانيونس جنوبي قطاع غزّة (12/12/2023/Getty)

يسألني أصدقاء عن رأي الناس في ما يجري. تحدّثتُ أمس مطوّلاً مع الصديق الناقد عادل الأسطة عن الأمر، وجوهر ما أقول أنّ هناك آراء كثيرة، وغضبًا كثيراً، صراحة، خصوصًا عدم شعور الناس بالأمن، وشعورهم بأنّهم لا يعرفون ما يجري، ولا أحد يخبرهم بشيء، ولا يوجههم إلى شيء. ثمّة غضب مشحون، ربما بسبب ما نتج من الحرب من دمار ونزوح وتدمير لمنازلهم، بمعنى أن ردّات الفعل مرهونة بالواقع المرير. ولكن أيضاً ثمة غضب أنّ هذا الواقع المرير وجدوا أنفسهم فيه فجأة. ليس الاحتلال جديداً، وهو ليس بحاجة لسبب من أجل أن يقتل ويذبح ويهجّر شعبنا، فهذه سياسته منذ بداية المشروع الصهيوني، ولكن أيضاً هم متروكون وحدهم، وعليهم وحدهم أن يبحثوا عن مكان آمن، بعد تدمير منازلهم، ووحدهم يجب أن يبحثوا عن رغيف الخبز وكوبون المساعدة، وهم يرون عدم عدالة توزيع الكوبونات وسرقتها حتى، والسطو عليها تحت مسمع ومرأى من الجميع.

الناسُ مجروحة، وتحسّ بالفقد والضياع. ولا أودّ الخوض كثيراً في هذا النقاش. ولكن يكفي القول إنّ الناس حين تفكّر في بيوتها وفي الدمار الذي لحق بغزّة، تسأل عن الثمن المدفوع وقسوة ما يعنيه في حياتهم، وما يمكن أن يشكّله في مستقبل نضالهم. من أكثر ما استوقفني نقاشٌ دار بين شابّين، فيما كنت أقف في ممرّ الباص. كان أحدهما غاضباً وهو يسبّ ويلعن. وكانت لعناته تصيب جهاتٍ كثيرة، ثم انفجر صارخاً "لا يحقّ لأحد أن يأخذنا للمجهول"، فردّ عليه الشاب، وهو يحاول تهدئته "بس نصل المجهول بنحكي عن حقّه ومش حقّه". فهمت مما يقول إنه يقترح أنّ هذا ليس وقته. فردّ بغضب: "ولكننا في المجهول، ما نعيشه هو المجهول، ليس من حقّ أحد أن يرمي بنا من دون حتى أن ياخذ رأينا". قال الشاب الآخر بنبرته الهادئة نفسها: حين نخرج من المجهول سنتحدّث في الأمر. ... ظللتُ أفكر في هذا المجهول، حتى وصلت إلى محطتي النهائية. المجهول هو ما يخافه الناس، والخوف هو رأيهم الأكثر هجساً وإثارة للقلق.

القلق رفيقنا الدائم في كلّ مكان وفي كل لحظة، السمة البارزة على وجوهنا والدلالة الأكثر انتشارًا في تفاصيل حياتنا

تعداد الشهداء يقترب الآن من العشرين ألفاً. وهو ما نعرف، حيث إنّ آلافاً آخرين لا نعرف عنهم شيئاً. آلاف من المفقودين وآلاف سنكتشف وجود جثامينهم بعد انتهاء الحرب، استشهدوا خلال جوس الدبّابات في الشوارع والأزقة وقصف الطائرات العشوائي الأحياء والبيوت وتدمير البوارج كل شيء في البلاد. حتى الأموات لم يسلموا من عبث الاحتلال ولا إنسايته، حيث دخلت الدبابات قلب المخيّم من فوق القبور في مقبرة المخيّم في منطقة الفالوجا. تم تدمير المقبرة، وسار القاتل فوق المقتول ليقتل البقية. أي وحشية تلك! لم تُذكر في الكتب، ولم يأتِ على ذكرها الرّواة، ولا ردّدتها كوابيس المهجوسين بالموت.

هاتفتني أختى أسماء اليوم. أخبرتني أنها ما زالت في بلدة النزلة. "بنشوف الموت كل يوم" قالت، قبل أن تستطرد: "بس الحمد لله عايشين". القصف في كلّ مكان. سألتُ عن بقية أفراد العائلة، فهي لم تتمكّن من الحديث مع أغلبهم. سألتُها عن بناتها. ضحكت وقالت: "خايفات". قلت: "بكره بتخلص الحرب وبنشوفكوا على خير". قالت: "شكلها مطولة". تعليق يمكن أن تسمعه من أيّ شخص تتحدّث معه عن مستقبل الحرب. في الصباح، حين ذهبت لحلاقة شعري سألني الحلاق الشاب إذا كنت أرغب بحلاقة ذقني الطويلة فعلاً، قلتُ: "لن أحلقها إلا بعد أن تنتهي الحرب". ابتسم وقال: "يعني راح تصير لحد ركبك". فهمتُ ما يقصده، فرددتُ: "مش لهالدرجة". وضحك ومعه ماكنة الحلاقة، وقال: "أنت شايف غير هيك". قلت: "ولا واحد شايف شي". واصل الحلاقة، ثم أمسك المشط وأخذ يمشط ذقني، وهو يقول: "إن شاء الله لا تطول لركبك يا دكتور". آمين.

الصورة
طفلة فلسطينية نازحة تحاول حماية أختها من البلل في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزّة في 12/ 12/ 2023 (الأناضول)
طفلة تحاول حماية أختها من البلل في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزّة (12/12/2023/الأناضول)

أردتُ ليلة أمس اختبار معرفتي بمنطقة المخيّم التي أقيم فيها في رفح. نزلتُ من الباص في حيّ تل السلطان. وكنتُ محظوظاً أنني تمكّنت من ركوب أحد تلك الباصات القليلة التي تعمل في المدينة. وتل السلطان هو الحيّ الأقرب إلى منطقة بركسات الوكالة، حيث مخيمنا الجديد. أعرف أسماءً كثيرة في المنطقة من شوارع ومحطات تحلية مياه ومدارس وأحياء صغيرة، لكنني لم أختبر معرفتي بالسير فيها وحيداً والوصول إليها. أعرفُ أنّ أشهر شارع بعد شارع تل السلطان الرئيس الذي يصل إلى البحر هو شارع "النص". وأعرف محطّة التحلية الكندية ومدارس مكّة وجدة والحيّ السعودي والحيّ الإماراتي وميدان الطيارة وجامعة القدس المفتوحة وغير ذلك. مشيتُ قليلاً، وأظنّني فرحتُ، حين رأيت ما ظننتُ أنه جامعة القدس المفتوحة، فقلت لنفسي إنني في الطريق الصحيح، لأكتشف أنني مجرّد ضائع فقد الطريق، ويحاول أن يجد طريقه في غابة الضياع. كلّما سألتُ أحداً عن الطريق، قال لي إنه لا يعرف، فهو مثلي غريب عن المكان، وعرفت أكثر أنني سأضيع أكثر. استغرقني الأمر نصف ساعة، قبل أن أرى أضواء بركسات الوكالة تشير إلى جهة الطريق.

تم تدمير المقبرة، وسار القاتل فوق المقتول ليقتل البقية. أي وحشية تلك!

اكتشفتُ في رفح أكثر وجود تلك الأسماء الكثيرة للأحياء والأماكن على اسم الدولة المانحة التي تبرّعت ببنائها. من البرازيلي والكندي إلى الياباني والسعودي والإماراتي. ومردّ ذلك أنّ رفح أكثرة منطقة في غزّة تعرّضت للتدمير في الاجتياحات المختلفة للجيش، خصوصًا مناطقها الحدودية، وبالتالي بنى مانحون كثيرون بيوتاً مختلفة لسكانها، وأسمت تلك الأحياء على اسم بلدها، أو أنّ الناس تلقائياً أطلقت عليها أسماء من تبرّعوا بها نوعًا من الشكر والتقدير. ضعتُ في الشوارع والأزقة التي لا أعرف. قلتُ لياسر ممازحاً: إذا استمرّ وجودنا هنا أكثر ستحفظ كلّ هذه الشوارع والطرقات، ولن تتوه بعد الآن. ... كان ردّه بالسؤال الذي لا أعرف كيف أجيب عنه: "واحنا راح نظلّ كتير في رفح. ما راح نرجع على الضفة". قلت: إن شاء الله. ... وحين أقول ذلك فهذا يعني أنني لا أعرف.

(12 ديسمبر)

ذهبت للسمر مع صديقي محمد دياب، قرب المكان الذي تقيم فيه أخته خلف البركسات. كنتُ متعباً، وكنت أعود من المدينة، ناوياً أن أتمدّد، وربما أنام باكراً. كنت خائر القوى متعبًا ومشوّش التفكير. هاتفني محمّد، وأغراني بفنجان قهوة "مزاج" أصلي، كما قال. وأن يشرب المرء قهوة أصلية فهذه متعة لا تضاهى، فرغم ارتفاع سعر القهوة، إلا أن ما يُعرض في السوق مخلوط بعجوة (نواة) البلح مطحونة، وببعض البقوليات الأخرى وقليله قهوة. سرتُ باتجاه مدخل البركسات، حيث سأقابل محمّد ونذهب معاً للجلوس مع زوج أخته وعائلته قرب باب غرفة صفيحيّة في الخلف. أشعل النار وغلى القهوة وشربنا ونحن نستعيد حكاياتٍ من طفولتنا، فأحد أقرباء زوج أخته كان زميلاً لي في الدراسة في المرحلة الابتدائية. تذكّرت تلك الأيام من طفولتي، حين كنت ألهو قرب بيتهم في أحد الأزقة مقابل باب المدرسة.

كان يوسف أخو محمّد من ضمن الشبّان الذين عرض جيش الاحتلال صوراً لهم وهم عراة إلا من ملابسهم الداخلية السفلية في شمال غزّة. تمكّن من الخروج من الشمال، ويقيم الآن في منزل للأصدقاء في الشيخ رضوان في طريقه للوصول إلى الجنوب. كانوا يبيتون في المدرسة حين فجّر الجيش بوابة المدرسة، وطلب من الرجال بين سن الخامسة عشرة والخامسة والخمسين أن يقفوا جانباً. ثم طلب منهم أن ينزعوا كلّ ملابسهم باستثناء السروال الداخلي. وبعد ذلك، سار بينهم واعتقل عشرات منهم، فيما أمرَ الآخرين بالوقوف جانباً ساعات. بعد ذلك، وقرب المغرب، طلب منهم السير باتجاه دوّار نصّار شمال المخيّم عند المفترق الصاعد نحو تل الزعتر. وطلب منهم أن يجلسوا هناك طوال الليل، حتى يأتي إليهم الجنود في الصباح. دخل الجنود المدرسة، وكسروا كلّ شيء فيها، وحرقوا الكتب ومجلات الجدران، وكسروا الأبواب وحوّلوها إلى خراب. سار الرجال شبه عراة من دون أن يعرفوا ما الذي سيحدث معهم. سار يوسف وسط الجموع. شاهد أحدهم بوتيكاً مفتوح الأبواب، بفعل قصف البناية المقابلة، فدخل ولبس بنطالاً وقميصاً وسار كاسياً. جلسوا جميعاً في الشارع بانتظار الصباح حتى يأتيهم الجندي. وحين وصل، طلب منهم أن يتوجهوا إلى المدارس في الرمال أو إلى المدارس القريبة بجوار محل أبو زيتون للبوظة أو ما نطلق عليهم "مدارس السكّة"، نسبة إلى سكة الحديد.

دخل الجنود المدرسة، وكسروا كلّ شيء فيها، وحرقوا الكتب ومجلات الجدران، وكسروا الأبواب وحولوها إلى خراب

قرّر يوسف، واثنان من جيرانه، أن يتوجّهوا إلى حيّ الشيخ رضوان، للمبيت عند أقرباء لهم، ومن هناك ينطلق نحو الجنوب. سار طوال ساعة مسافة طويلة بالنسبة إليهم، يحاولون ستر أجسادهم حتى وصلوا وناموا هناك. كان محمّد سعيداً أنّ يوسف بخير، وأنه سيصل إلى الجنوب غداً أو بعد غد على أبعد تقدير. رحلة صعبة ومعقدة وخطرة. لم يعد هناك شمال كما قال يوسف، ولم يعد هناك مخيّم. لا شيء. الحياة قتلت، وكلّ شيء قتل، والجميع في انتظار أن يموتوا. من ينجُ ينجُ ومن يظلّ يمُت. شربنا القهوة، محاولين أن نغمض عيوننا قليلاً نفكّر في شيء جميل.

فكّرت لحظة بوالدي، وحمدتُ الله أنّ هذا لم يحدُث معه. لم يكن جسُده الهزيل الذي يتسلق بتعب سلم السبعينيات، ليتحمّل هذا كلّه. أخبرني أنه في المدرسة قرب محلّ أبو زيتون، وأنّ الجيش يحبسهم في المدرسة طوال الليل، ويسمح لهم فقط ساعات محدّدة في النهار بالخروج من المدرسة. يجمع بعضهم الجثامين المنتشرة في كلّ الشوارع، ويدفنونها بحفر قبور عشوائية قرب السوق أو قرب سور المدرسة أو في زقاق واسع. أي شيء يمكن أن يمنع الجسد من التحلل والذوبان في اللاشيء والضياع. ويذهب آخرون لإحضار بعض الطعام أو الملابس والفراش من بيته إذا بقي له بيت. أما أختي أمينة، فقد انتقلت، هي وزوجها وأطفالها، إلى مدارس حيّ الرمال. كانت فكرتها، كما فهمت، أن تكون أقرب للجنوب. ساروا مسافة طويلة من جباليا إلى هناك، حتى يصلوا إلى شارع الوحدة، ويجدوا المدرسة التي اختارها لهم الجيش. أنت لا تختار، الجيش يعطيك التعليمات ويهدّد بقتلك إن لم تنفّذها. الآن صارت العائلة مشتتة في أماكن كثيرة بين جباليا والرمال ودير البلح ورفح، فهي تتوزّع على أماكن قطاع غزّة المختلفة. شعرتُ بضيق، فقلت لمحمّد إنّ الأفضل أن نقوم ونتمشّى. كانت حكاية السير عارياً وأمام عراة مثلك، والجو بارد والريح تكوي الجلد تثير قشعريرة في جسدي. دخل الليل، ولفّ المخيم بظلامه، لا بهدوئه، وسرنا كأنّنا نعدّ خطانا.

الصورة
رجل فلسطيني يجلس داخل خيمة في مخيم للنازحين في رفح جنوب قطاع غزّة في 13/ 12/ 2023 (فرانس برس)
فلسطيني داخل خيمة في مخيم للنازحين في رفح جنوب قطاع غزّة (13/12/2023/ فرانس برس)

سرنا، أنا ومحمد دياب، في شارع المخيّم خارج البركسات مسافة طويلة، نتحدّث مثلما كنّا نفعل في المخيم. تتشابه المخيمات لكن هذا المخيّم لا يشبه مخيّماتنا، لا يشبه ذاكرتنا أو ما نعرف عن حياتنا السابقة في المخيّم. فكرة النزوح عن المكان واللجوء إلى مكان آخر متشابهة، لكن المكان يختلف، والسياق الذي تولّد فيه المكان يختلف. منظر الخيام يدمي القلب، ومشاهد الناس وهي تبحث عن الممكن من الحياة تجرح الذاكرة، لأنها ستترك فيها نُدباً تصعب إزالتها لاحقاً. كان الألم كائناً خرافياً يسير حولنا يتجوّل مثلنا في كلّ مكان، ويمسّنا جميعاً بسيخه الساخن. كنا نصمتُ دقائق في بعض الأحيان، ثم نقطع صمتنا بعبارة أو تعليق عام على شيء نشاهده.

كانت حكاية السير عارياً وأمام عراة مثلك، والجو بارد والريح تكوي الجلد تثير قشعريرة في جسدي

يجتمع فرج وشباب المخيم كلّ مساء في خيمة كبيرة، وضعها صديقنا عبد الله وإخوته في المتنزّه الخاص بموظفي وكالة الغوث. يتسامرون ويلعبون الشدّة، ويدخنون النرجيلة. قابلت فرج وأبو عائد وناهد عبد الجواد وهم في طريقهم إلى الخيمة الكبيرة، عرضوا عليّ أن ألحق بهم. كنتُ متعباً بعد أن تركت محمد دياب، وعدت في طريقي إلى خيمتي. قلت ربّما في يوم آخر أتمكّن من مشاركتهم سهرتهم. وسرت وحدي في الطرقات والأزقّة الصغيرة التي تركتها الخيام في المسافات بين حدودها. ما زلت أشعر ببعض الاكتئاب والضيق، وما زلتُ لا أصدّق أنّ الوقت يمر ونحن في هذه الخيام، وما زلت لا أعرف كيف أجيب نفسي، حين تسألني: إلى متى؟

الصورة
خبز في دير البلح
يخبززن في الشارع بين مبان دمّرها قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة (12/12/2023/الأناضول)

تكبر الحياة في المخيّم، وتكبر مثل المخيم ذاته. أقام الجيران أمام مدخل المنطقة التي نضع فيها خيامنا فرناً طينياً للخبز. صار لهم ثلاثة أيام يعملون على تجهيزه ووضعوا حوله سوراً صغيراً يحميه من العبث. ابتداءً من الغد، سيخبز الجيران في زقاقنا والأزقة المجاورة أرغفتهم في الفرن. قلت للرجل، وهو ينتهي من إعداده، فيما أنا خارجٌ في الصباح: نريد أن نعدّ المناقيش عليه في الصباح. قال: إنّ "تحماية" الفرن تستغرق ساعتين لذلك، فأفضل وقت للخبز بعد المغرب، وهو الوقت الذي يخبز النازحون في المخيم خبزهم فيه، ولن يكون فرننا استثناءً في ذلك. وحين رأى خيبتي ابتسم. وقال: بالطبع يمكن أن نرتب يوماً نحضر فيه المناقيش، بعد أن ينتهي الجميع من خبزهم. .. قلتُ: لا تؤكل المناقيش في الليل، هي بنت الصباح. ... قال: في المخيم كلّ شيء جائز. قال جمعة: "وسنعدّ الصواني في الفرن". وهذا يعني العودة قليلاً إلى القليل من الحياة التي فقدناها. فكّرت في المناقيش التي علينا أن نأكلها في المساء، وفي العادات الكثيرة التي علينا أن نتركها خلف ظهورنا، وفي تلك العادات التي علينا اكتسابها. كان الفرن الطيني يقف شامخاً يعلن وجوده في الزقاق الصغير أمام البوّابة التي تجعل من خيام أبناء عمومتي منطقة خاصة بالعائلة في عالمٍ لا يعترف بالخصوصية. في المخيّم، لا خصوصية حتى داخل خيمتك، فكل الخيام تسمعك، وكلهم يمكن أن يراك لو أضأتَ نوراً ضعيفاً لشفافية الخيام.

في المخيّم، لا خصوصية حتى داخل خيمتك، فكل الخيام تسمعك، وكلهم يمكن أن يراك لو أضأتَ نوراً ضعيفاً لشفافية الخيام

أصعب الأسئلة سؤال المصير. والمُحَقّق أنّ الناس فقدت مقدرتها على تبصّر مصيرها. وأشدّ ما يؤلمهم شعورهم بالضياع والعجز عن التفكير في المستقبل. حتى إنّ مفردة مستقبل مرعبة بالنسبة إليهم لأنها تعني "المجهول". قبل الحرب، كان الشبّان يرمون أنفسهم في البحر من أجل الهجرة. عشرات آلاف الشبان خرجوا وركبوا البحر على خطورة المغامرة من أجل البحث عن مستقبل خارج غزّة. يقول الراوي في روايتي "حصرم الجنّة" إنّ أصحابي يحلمون باللحظة التي تخفق فيها أجنحتهم فوق بحر غزّة. ... كان هذا سنوات قبل انتشار ظاهرة المراكب التي تعبر إلى أوروبا وغرق العشرات من أبناء قطاع غزّة وهم في طريقهم إلى المجهول في السنوات الأخيرة. حاول أخي إبراهيم مرّة وأخفق، إذ أمسكهم خفر السواحل اليوناني، ورموا به في المياه التركية، هو وآخرين وعاد إلى غزّة. يموت العشرات لأنهم يبحثون عن الحياة. وهم يذهبون إلى المجهول، لأن ما يعيشونه في غزّة أعمق من المجهول وأكثر إظلاماً منه. قال لي، مرّة على الأقل: حين أحاول، هناك فرصة لو واحداً بالمائة أن أصل إلى شواطئ أوروبا وأعيش حياة أفضل. ... قلتُ: واحد بالمائة. ... قال نعم؟ ولكن هذا تقريباً لا شيء؟ هزّ رأسه وقال: حياتنا هنا في غزّة هي اللاشيء. هل ترى أي مستقبل لأحد هنا؟ سألني. سأعرف من أبيه، بعد ذلك بثلاثة أشهر، أنّه وصل إلى إيطاليا وها هو يعارك الحياة من أجل الفوز بها في عالم جديد.

الآن، يقسم كثيرون إنّهم بعد انتهاء الحرب سيبحثون عن حياة أفضل. البلاد غير مستقرّة، ولا يوجد ما يدفع إلى التفكير في بناء مستقبل أفضل. لا مستقبل فيها. بسهولةٍ، يمكن سماع عبارات مثل هذه، ولكن أيضاً يمكن أن يعرف المرء أنّ شدّة الحرب تعكّر صفو التفكير. أحبّ غزّة ولا أحبّ أن أكون في مكان آخر غيرها. يبتسم الشاب الذي يقف معنا عند مدخل الهلال الأحمر في خربة العدس، ويقول: "إنت بتقول هيك، يا دكتور، لأنك لفّيت وشفت العالم".

أراجع نفسي، لعله مصيب، ولعلّه يعرف أنّ الحياة مثل الإسفنجة يجب أن تتشبّع بالماء حتى تعصرها. قلت له: "برضُه غزّة حلوة". قال: "خليها إلك"... ومشى. وبقيت واجماً أنظر إلى الشمس وقت الشفق، وحمرة السماء الباهتة. الجوّ بارد، ورائحته مشبعة بالمطر. رشرشت قليلاً عند الظهر، ويبدو أنّ ثمّة أمطاراً كثيرة قادمة في الليل. كنتُ وحدي أقف على الباب الكبير، أحاول أن أشعر بالدفء فيما في داخلي برودة شديدة وخوف شديد وقلق شديد وألم أشدّ. ... سرتُ في الطريق أعدّ خطاي كما كنت أفعل ليلة أمس.

قضايا وناس
التحديثات الحية

 

المساهمون