يوميّات الحرب في غزّة (22)

14 ديسمبر 2023
فلسطينية تبكي شهداء في قصف إسرائيلي في خانيونس جنوبي غزّة (10/12/2023/ Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(9 ديسمبر)

حين قالت لي هناء هذا الصباح إنّ وسام أخذت لأوّل مرة حمّاماً ساخناً في المستشفى في بورسعيد، كأنّني تذكّرت أنني لم أحظ بمثل هذا الحمّام منذ بداية الحرب، أي قبل أكثر من شهرين. لم أنعم بفكرة أن أحضّر نفسي لأخذ حمام لائق، ولم أقف تحت "الدوش" لينصبّ الماء عليّ منهمراً من فوق، وأفكر بجسدي، وأتأمّل نفسي ملياً وأنا أستعيد وهج الحياة. كأنّني لم أعد أعرف ذلك كلّه. فقط خلال شهر الحرب الأوّل، كنت آخذ حمّامات سريعة أغلبها لا تكفي لرشّ الماء بشكل كامل على جسدي، فقط مرّة واحدة عند عيشة أمضيت خمس دقائق وكانت تلك فترة طويلة، فأنت خلال الحرب تفكّر في قطرة الماء لأنّها عزيزة، ولأنّها قد لا تكون متوفرة غداً. يصير التفكير في كثيرٍ من التفاصيل الأساسية نوعاً من الترف في أوقات مثل هذه، وتختفي خلف الاحتياجات الأكثر إلحاحاً. صحيحٌ أنها مهمّة، وفي الأوقات العادية أساسية. ولكنها في أوقات أخرى تهرب من قائمة الأولويات، أو تختفي. فأيّهما أكثر إلحاحاً للإنسان أن يجد مكاناً ينام فيه أو أن يستحمّ مثلاً، أو أن يستخدم الماء من أجل الشرب أو أن يستحمّ فيه. في سلّم المفاضلات هناك تضحياتٌ مرهقة، لكنها أمرٌ لا مفرّ منه في نطاق السعي إلى النجاة والبقاء. بكت وسام أيضا، وهي تستحم لأوّل مرّة كما أخبرتني هناء، لأنّ هذا كان أوّل حمّام لها، فهي أيضاً كادت أن تنسى كيف ينزل الماء على الجسم، وكيف يكون شعور الإنسان وقتها.

أخيراً، اطمأننتُ على مأمون. لم أفلح هذا الفجر في الوصول إليه عبر الجوّال، حين قرّرتُ أن أستيقظ عند الرابعة والنصف، ومحاولة الاتصال به، فالشبكة لا تعمل معظم الوقت. نصحني كثيرون بأن أحاول قبل طلوع الشمس، فهذه طريقة مجرّبة، وهم يتواصلون مع أهلهم في الأماكن الأخرى في مثل هذه الأوقات. لذا، صحوتُ من النوم وبدأت محاولاتي الفاشلة في الاتصال به. ودائماً كانت تأتيني الرسالة نفسها المسجّلة من الشركة. أيضاً، فشلت محاولاتي للاتصال بأختي سماح، وكذلك محاولاتي للاتصال بأختي أسماء. لا أعرف أخبارهم جميعاً. فسماح لم أسمع منها أو عنها أيّ شيء منذ عشرة أيام تقريباً، وآخر ما أعرفه عن أسماء أنّها غادرت بيتها في منطقة الفالوجا في المخيّم إلى بلدة النزلة، ولا أعرف أين استقرّ بها الحال. مصادفةً، كنت أسير في الشارع الواصل بين طريق رفح العام وخربة العدس، حين شاهدتُ أحد أنسباء مأمون. كنت أتحدّث بالهاتف لبشير فاعتذرتُ منه، حتى أتمكّن من اللحاق بنسيب مأمون والحديث له. سألتُه عن العائلة، قال إنهم كلّهم بخير. سألتُ تحديداً عن مأمون ووالدته (حماة بشير) وإخوته، قال كلّهم بخير. ما زالوا في البيت؟ سألت. قال: نعم. ... وتحدّث مع زوجته التي تقيم معهم أمس، وقالت إنّ كلّ شيء على ما هو عليه. شعرتُ بالراحة قليلاً، فعلى الأقل عرفتُ أنهم جميعاً بخير.

سُعدتُ قبل قليل، حين هاتفني وافي البطران من الحارة، ليقول إنّه عاد إلى الحارة لجلب بعض الطعام من المنزل، بعد أن اضطر قبل يومين لمغادرته تحت قصف الدبّابات، ونزل للإقامة عند أقرباء لهم في منطقة الزرقا في جباليا البلد. قال إنّه شاهد والدي قبل قليل، وهو بخير وكذلك أخي موسى. سألتُه: كيف الحارة؟ قال: لم تعد حارة، لكنّها أفضل من غيرها من الحارات. تهدّمت بيوتٌ كثيرة، وأصيب كثير منها بشظايا، لكنها ما زالت حارتنا التي نحبّ كما قال. يرأس وافي جمعية أهالي يافا في المخيّم، وهو ناشطٌ مجتمعي بارز.

بدأ التركيز على الشمال وعلى غزّة، ثم ها هو ينتقل إلى خانيونس، ولا يوجد ضمان أنّ رفح مستبعَدة من خطط الهجوم

كان القلق ليلة أمس يزداد، ونحن نجلس حول النار. سأل أحدهم فجأة: هل سيجتاحون رفح؟ كان السؤال بصيغة أخرى: هل ستكون رفح المحطة التالية للاجتياح البرّي بعد أن ينتهي جيش الاحتلال من خانيونس. يبدو السؤال مشروعاً، إذ لا يمكن التفكير بما يمكن أن يحدُث أو توقع خطوات الجيش اللاحقة. ففي بداية الأمر، بدأ التركيز على الشمال وعلى غزّة، ثم ها هو ينتقل إلى خانيونس، ولا يوجد ضمان أنّ رفح مستبعَدة من خطط الهجوم. فعلى العكس، هناك قصف مستمرّ في مناطق مختلفة شرق رفح وغربها، وبعض هذا القصف في مرّات كثيرة يكون قريباً، حتى من المناطق التي يزعم الجيش أنّها أكثر أمناً، ويطلب من الناس النزوح إليها.

أثار السؤال ارتباك الجميع. ردّ أحدُنا: مش معقول. ستنتهي العملية قبل نهاية العام. طبعاً هذه ليست معلومة ولا هي تحليل، بل رغبة، والرغبات تحضر في لحظات الخطر أكثر من حضور المنطق والحقيقي. ولكن قد يقرّرون بعد الانتهاء من خانيونس أن يتوجّهوا إلى رفح، وفق ما قال من سأل السؤال. كان هيثم ابن جمعة يصبّ الشاي في الكؤوس، ونحن نواصل التحديق في النار التي شعرت لحظة أنها ستلتهمنا مثلما تلتهمنا الحرب. كنت أفكّر أنّ الحرب لا تدمي القلب فقط، بل تأكل المستقبل أيضًا. والناس عبر هذه الأسئلة تفكّر في المستقبل، تريد من يخبرها أنّ المستقبل ممكن، وأنّه شيء يمكن أن يتحقّق، فالعمليات العسكرية في خانيونس تستمر، ويستمر القتل ويستمر القصف العشوائي، وثمّة مجازر كثيرة، والجيش يتحدث عن أسابيع لانتهاء العمليات فيها، ونحن نجلس في شبه عراء في الخيام التي لا تقينا البرد ولا المطر لو اشتدّا. ننتظر مستقبلنا، ولا نعرف ما إذا سنكون عرضة لعملية اجتياح برّي تستهدف المنطقة.

الصورة
 (يبكون على أقاربهم الشهداء في قصف إسرائيلي في مستشفى ناصر في خانيونس جنوبي غزّة (10/12/2023/ الأناضول))  ​
يبكون على أقاربهم الشهداء في قصف إسرائيلي في مستشفى ناصر في خانيونس جنوبي غزّة (10/12/2023/ الأناضول) ​

أين سنذهب؟ لن نذهب إلى مكان آخر. قال أحدهم. لا يوجد بعد هذه الخيمة شيء، ولا يوجد شيء لنخسره، حتى حياتنا لم يعد لها قيمة. ردّ آخر: "شو افرقت من خيمة لخيمة.. فعلى الأقل هذه خيمة في بلادنا وليست خيمة في بلاد الآخرين". وهل تفرق. كأنّني تذكّرت وقتها أنّ عبارة غسّان "خيمة عن خيمة بتفرق" تصلح في هذا النقاش. نعم، هنا يمكن القول "خيمة عن خيمة بتفرق"، فخيمة في البلاد يعني أنك في البلاد أما خيمة خارج البلاد فهي لا تفرق كثيراً عن قصرٍ خارجها لأنك خارجها.

خيمة في البلاد يعني أنك في البلاد أما خيمة خارج البلاد فهي لا تفرق كثيراً عن قصرٍ خارجها لأنك خارجها

مرّت السيارة في الطريق إلى المخيّم بجوار بيت مهدوم. وضع صاحبه خيمة فوق الركام، وشدّ أطرافها بالأسلاك الحديدية والكتل الأسمنتية البارزة في الركام، ومهّد أرضيتها وفرش فرشاته، ووضع بعض الألحفة وصارت بيته. من المؤكّد أنّه يعاني كلّ مرّة ينظر فيها حوله إلى بيت العمر، كيف تحول إلى كومة من خراب، لكن خيمته هذه أيضاً تعني أنه ما زال في البيت، فخيمتنا التي نقيم فيها في سوافي رفح تعني أيضاً أننا في خيمةٍ في فلسطين ولسنا خارجها.

ظلّ قلقنا يطقطق في أرواحنا مثل الخشب والنار تلتهمه. لا أخبار من الشمال. لا نكاد نسمع شيئاً. تركت نشرات الأخبار الشمال وغزّة وصارت تركز في تلك المناطق التي يوجد للفضائيات فيها مراسلون. فقط بعض الأخبار القليلة ترد من فترة إلى أخرى فيما تظل عيوننا تبحث شمالاً دائماً. ولولا تلك المكالمات الهاتفية التي تحدُث "بطلوع" الروح مع بعض الأهل والأصدقاء، لبقينا نجهل بشكل تام ما يحدُث هنا. تكيّف معظم الناس هناك مع الخطر الذي يعيشونه، وصار عليهم أن يجدوا ويبدعوا كلّ يوم طريقةً من أجل البقاء أطول فترة ممكنة، علّ الحرب تنتهي إلى الأبد.

حتى اللحظة، لم أتمكّن من التيقن من الأخبار حول استشهاد صديقي الشاعر سليم النفار. أخبرني عائد أبو سمرة أنّ لديه إشاعات تبدو أقرب إلى الحقيقة أنّ سليم وعائلته استشهدوا في قصف الجيش الإسرائيلي عمارة سكنية كانوا يقيمون فيها. هو غير متأكّد، ولكن صديقًا مشتركًا لنا أخبره أنّه عرف بذلك من أخيه (أخو ذلك الصديق) الذي يسكن في بناية مجاورة لمكان القصف. قلت له: لكنني رأيت سليم قبل أقل من ثلاثة أسابيع، كان يسير في شارع النصر حين لوّحت له، وكنت قبل المغرب عائداً من مستشفى الشفاء. وربّما يكون قد ذهب إلى الجنوب عند أقرباء لهم في مدينة خانيونس. نفى عائد بشدة هذه الاحتمالية، وقال إنّه تحدث له قبل خمسة أيام، وكان في منزل مجاور لبيته عند أصدقاء، بل إنّ ابنه مصطفى أرسل له رسالة نصّية يوم الأربعاء أخبره أنهم بخير. قلت "هادا زمان". قال: "يا دكتور الأربعاء أول امبارح. اليوم الجمعة". سألت إذا كان متأكداً من الأمر. أخذ يقرأ لي الرسالة وتاريخها. أغلقت الهاتف في الليل، تحدثت إلى الدكتور أحمد مجدلاني، وهو أمين عام جبهة النضال الشعبي التي يعتبر سليم أحد كوادرها، وهو صديق مقرّب له. أدخل بعض الطمأنينة لنفسي، حين قال إنه يعرف أن سليم في المنطقة الوسطى، وأنه تحدّث إليه من النصيرات، حيث كان يقيم في منزل "رفيق" لهم من الجبهة. هل أنت متأكّد؟ قال أكيد. في الصباح، أكلني القلق أكثر. لا أخبار عن سليم ولا اتصال مع أي أحدٍ حتى يدلّنا عليه.

مللنا أننا نموت واحدًا بعد آخر، كأنّنا مجرّد قتلى "كومبارس" في فيلم أميركي دموي

تعرّفت على سليم في بواكير حياتي الأدبية، حين عدت من الضفة الغربية بعد أن أنهيت دراستي الجامعية. كنت وقتها في الثانية والعشرين. وكان سليم قد عاد لتوه من المنفى إلى غزّة مع القوات التي عادت بعد توقيع اتفاق أوسلو. ترافقنا كثيراً وعملنا سوية في أكثر من محفل ثقافي، ونظمنا نشاطات وفعاليات ثقافية معاً. ورأيت فرحته وهو يُمسك بكتابه المطبوع بين يديه، وعلو صوته وهو يقرأ الشعر ويتفاعل معه. كلانا ينحدر من عائلتين تهجّرتا من مدينة يافا، وكان ليافا نصيبٌ كبيرٌ في نصوصه، وكان يفرح وهو يجد يافا في أيّ مكان، حتى لو في خبر في الجريدة. له قصيدة جميلة تمّ تضمينها في المنهاج الفلسطيني، وهو يبدع بالحديث عن شعره وعن تجربته. كتب روايتين، واحدة عن تجربته وطفولته في مخيم الرمل في اللاذقية وعودته إلى البلد بعد وجوده في قاعدة "السارة" العسكرية في ليبيا ضمن قوات الثورة الفلسطينية. كان والده البحّار مصطفى النفار من مؤسّسي بحرية "فتح"، واستشهد في معركة شهيرة قرب شواطئ نهاريا. هل هذا رثاء يا الله. هلا انتهت كلّ هذه الفواجع. مللنا الموت ومللنا سماع أخبار من نحبّ كأننا نسمع خبراً من الفيليبين، ومللنا أننا نموت واحدًا بعد آخر، كأنّنا مجرّد قتلى "كومبارس" في فيلم أميركي دموي.

الصورة
يقفون فوق ركام مبانٍ مدمرة بسبب قصف إسرائيلي في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزّة في 10/ 12/ 2023 (Getty)
(يقفون فوق ركام مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزّة (10/12/2023/Getty)

يقول سليم في قصيدته التي يتم تدريسها في المنهاج: سنأتي ذات يومٍ يا أَحبّائي/ إلى أشيائنا الأولى/ فلا قتلٌ يُبَاعِدُنا/ ولا زمنٌ سيُنسينا/ هنا في غامضِ الأَوقات/ وضوحُ الحقّ يُعلينا.

كلّ ما أتمناه أن يكون كلّ هذا مجرّد رثاء لا حاجة له، وأن يكون سليم حيّاً لأننا بحاجة له، بحاجة لقصيدته التي تعيدنا عميقاً في زمن انغلق الشعر على نفسه. رأيته آخر مرّة قبل الحرب بأسبوعين في زيارتي قبل الأخيرة غزّة، حيث سهرنا عند عائد وتحدّثنا وضحكنا، وقرأ سليم كالعادة لنا قصيدته الجديدة، ثم غنّى لنا بصوته الجميل، بعد أن تناولنا بعض المشاوي في البيت الذي اعتلاه قنّاصة الاحتلال خلال الحرب. كل ما أتمنّاه أن يكون هذا كلّه كابوساً آخر.

(10 ديسمبر)

جلسنا في الليل داخل الخيمة واجمين، وقد أمسك بنا الحنين، ونحن ننظر إلى الصور التي تتداولها المواقع لمخيم جباليا في أثناء العمليات العسكرية التي تشنها قوات الاحتلال فيه. صور من الدمار والتخريب والهدم لأمكنة نعرفها وعشنا فيها، ولدى كلّ منّا ذكريات كثيرة حولها وعنها، ومئات القصص التي يمكن أن يرويها حولها. استبدّ بنا الحنين، وكادت الدموع تفرّ من المقل ونحن نتبادل الصور وتسجيلات الفيديو للحارة وللحارات المختلفة في المخيم. لم يعد المخيّم مخيّماً ولم يعد ما نعرف ما هو عليه الآن. هل هذا حنين اللاجئ؟ هذا الحنين الطافح كغيمةٍ يلفّ الخيمة في تلك الساعة في الهزيع الأول من الليل. تبادلنا المعلومات والأخبار بشأن ما حلّ بتلك الأماكن وبالناس الذين ظلوا هناك. ثم يتسرّب فجأة في الحديث خبر رحيل عائلة أو فرد أو صديق فيضرب الصمت كصاعقة. هكذا كان اللاجئون بعد النكبة يجلسون ويعيدون تذكير بعضهم بعضاً بالعالم الجميل الذي تركوه خلفهم. كان الحنين يدفع محرّك الذاكرة ويعصف به وسط ضوضاء الواقع المرير. هذا شارع الحارة. هذا النادي. هذا السوق. هذا المركز. هذا الترنس. هذا مستشفى اليمن السعيد. هذه البركة. هذا شارع المدارس. هذه منطقة الخلفاء. هذه مدارس أبو حسين. كانت الصور تحكي عن شيءٍ يمسك قلوبنا بكثير من الحسرة.

استهدفت الطائرات في الصباح منطقة النادي في المخيّم، ودمّرت بيوتًا عديدة في تلك الحارة الجنوبية منه التي نسميها أيضاً "بلوك 2". بيت لعائلة الأخرس تدمّر بشكل كامل، وكانت الفضائيات تعرض صوراً لعمليات إنقاذ من البيت، حيث يجري انتشال جثامين أطفال ورجال ونساء. تواصل الطائرة التهام الحياة. يقتل الحديد الأحياء. يرسل الجماد الأحياء إلى الموت. الصور مؤلمة كالعادة، والقلب يتوجّع أكثر كلما رأى مزيدًا من الصور. طلبت من الشاب الذي يعمل في الهلال الأحمر، حيث أجلس الآن، أن يطفئ التلفاز، فلا أريد المزيد من تلك القسوة التي تحملها نشرات الأخبار، ولا أريد أن أرى ما أحبّ يذهب مثل نسمة في قلب عاصفة هوجاء.

ليس سماع ما يجري مهمّاً ولا فائدة منه، لأنه لن يغيّر شيئاً مما وقع أو مما سيقع

لم تعد الأخبار مهمّة ولم يعد أيّ شيء مهما، لأنّ ما يجري يفوق مفهوم الأهمية، ولأنّ المرء لحظة وقوعه في شرك الموت ينتظر لحظة التفاف قبضته على رقبته، لا يعود يفكّر كثيراً في التفاصيل. في المشاريع الكبرى، ليست التفاصيل مهمة. كانت تلك مقولة تعلّمتها مبكّراً في عملي، لكنّها أيضاً في حالتنا تعني أن علينا أن ننسى كلّ شيء، وننتظر الشيء العظيم الذي سيحدُث لنا. هل يعرف أحدٌ ما سيحدُث لنا؟ وهل يعرف أحدٌ متى سيحدُث؟ بالطبع لا، لذلك ليس سماع ما يجري مهماً ولا فائدة منه، لأنه لن يغيّر شيئاً مما وقع أو مما سيقع.

الصورة
مبان طاولها القصف الإسرائيلي في مخيم جباليا شمال شرق مدينة غزّة في 11/ 10/ 2023 (فرانس برس)
(مبان طاولها قصف إسرائيلي في مخيم جباليا شمال شرق مدينة غزّة (11/10/2023/فرانس برس)

اشتدّ القصف في الليل، خصوصًا بعد منتصفه. سمعنا قصفًا كثيرًا في مناطق مختلفة. كان صوت الانفجارات يهزّ الأرض الرملية تحتنا. كان الليل حالك الظلمة، والقمر هلالاً صغيراً خافتا تخنقه الغيمات، ويخفينه خلف ظلالهن والطائرات تواصل ضرب مناطق متفرّقة. بدا بعضها بعيداً بشكل واضح جهة الشمال والشرق، وبدا بعض آخر قريباً في المنطقة المحيطة بمخيمنا الجديد. في الصباح، سنعرف أنّ القصف استهدف بعض المناطق المحيطة بنا فعلاً، ولكن القصف الأكثر شدّة استهدف الشارع الرابط بين خانيونس ورفح في منطقة المواصي، وهو الطريق الغربي، وبالتالي، سعى إلى قطع التواصل بين المدينتين. في الصباح، ونحن نشرب الشاي، كان السؤال المنطقي: هل يعني هذا فصل خانيونس عن رفح؟ لا توجد إجابة أخرى غير نعم، فقطع الطريق يعني وقف تحرّك المواطنين بين المدينتين، وقد يعني فتح ممرّات لدبابات الاحتلال، لأن تقف على طول الطريق الرابط بين أطرف المدينة الشرقية والغربية. يستهدف كثيرٌ من القصف مناطق حيوية في المدينة. وهناك "طنطنة" على مستشفى ناصر. حكاية مستشفى الشفاء في مدينة غزّة نفسها. القصة نفسها والمؤلف نفسه والقارئ نفسه، ونحن لسنا إلا ضحايا لقاتلٍ لا يعرف إلا كيف ينفذ عمليات القتل التي يريد.

يافا فردوس الفلسطينيين المفقود الذي يشير إلى الأندلس التي كانوا ينعمون بها قبل أن يسرقها الغُزاة

تقترب الدبابات أكثر من قلب المدينة، وهي ليست بعيدة عن قلعتها التاريخية (قلعة برقوق). والقصف يضرب وسط المدينة ووسط مخيّمها. كان سوّاح، أحد أبناء عمومتي الذي يعمل صحافياً، يقول لنا دائماً في كلّ صباح ومساء ونحن نتدفأ على النار: نتيجة المعركة في خانيونس ستحسم مستقبلنا في رفح. بأيّ معنى؟ سأل أحدُنا. والإجابة واضحة أن تدمير خانيونس سيعني أنّ القوات ستنتقل إلى رفح بعد ذلك. وأنها إن لم تحقّق أهدافها المزعومة، فإنها ستعيّن أهدافاً أخرى، كي تحققها في رفح. لعبة لا تنتهي. المقصود من كلّ هذه الحرب قتل المزيد منا وتدمير أكبر قدر، وربما تهجيرنا إلى سيناء أو توزيعنا على دول العالم. لذلك، لن تنتهي هذه الحرب عند حدّ معيّن، وما نعانيه سنظل نعاني منه فترة أطول. وربّما قد يطول ما نعيشه في المخيّم أكثر مما نتوقع. هل سنرجع إلى الشمال؟ السؤال المخبّأ بين اللسان والشفاه؟

حين ينتهي الجيش من عملياته في الشمال سنعود إلى بيوتنا هناك. هذا مربط الفرس، وهذا المربط الذي لا يعرف أحد كيف يربطه. لا أحد يجيب. أسمى أماني الناس أن يعودوا إلى بيوتهم، حتى لو كانت كومة من حجارة، وحتى لو لم يعن هذا نهاية الحرب وتوقفها بشكل كامل. ما يجري في خانيونس سيقرّر مصيرنا. أعيد التفكير في منطق المقاربة. كلّ ما يجري في أي مكان سيقرّر مصيرنا. إنّها عملية مركبة ومعقدة، وتتطلّب انتظارًا كثيرا. لا وقت مع هذا للانتظار ولا وقت للتفكير، فالموت الذي يتربص بنا لا يعطينا المساحة الكافية حتى نمارس حياتنا بشكل معقول.

هناك أزمة طحين طاحنة في كلّ مكان. تقول عيشة إنها لا تجد طحيناً لتشتريه، والأطفال بالكاد يأكلون الخبز. وأزمة الخبز منتشرة في كلّ قطاع غزّة، فالكميات التي تدخل عبر شاحنات المعونات غير كافية، وهناك من لا يجد الخبز أسبوعاً، وبعضهم لا يأكل أياما. يعاني الكل من نقص الطحين. حاول أخي إبراهيم أكثر من مرّة الحصول على الطحين ولم يتمكّن. بالخبز يحيا الإنسان، وبالخبز يستطيع أن يواجه قسوة الواقع الجديد. انتشرت الأفران التقليدية في نواحي المخيم الجديد في الشوارع والأزقة المحاطة بالخيام، وصار لكل منطقة فرنها الخاص الذي يجلس الجميع حوله، يعدّون أرغفتهم الساخنة. ولكن سؤال الطحين يظلّ حاضراً. حتى في السوق السوداء، بالكاد يمكن للمرء أن يحصل على كيس يزن 25 كيلوغراماً بخمسمائة شيكل، وهذا عشرون ضعف سعره الأصلي.

النظام العالمي برمّته بحاجة إلى تغيير، وطريقة إدارة العالم بحاجة لتغيير، ونظام الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بحاجة لتغيير

قصفوا مسجد يافا في الشارع الذي تقيم فيه أختي عيشة في دير البلح. ليلة من تلك الليالي التي عاشوها في جباليا. عاش الأطفال لحظات رعب لم يخبروها منذ انتقلوا من الشمال إلى النصيرات. أيضاً مسجد يافا في حارتنا في جباليا تمّ تدميره. كلّما رأت ابنتي يافا محلاً يحمل اسم يافا تقول "يافا يافا يافا الكل بحبّ اسمي". وربّما كان يافا أكثر الأسماء التي يستخدمها الفلسطينيون في تزيين محلاتهم من السوبرماركتات للمكتبات والقرطاسية، وحتى محلات ميكانيات السيارات، وبالطبع المساجد والمدارس. يافا فردوس الفلسطينيين المفقود الذي يشير إلى الأندلس التي كانوا ينعمون بها قبل أن يسرقها الغُزاة.

الصورة
دخان يتصاعد من مبان بعد قصف إسرائيلي في رفح جنوبي قطاع غزّة في 12/ 12/ 2023 (الأناضول)
دخان يتصاعد من مبان بعد قصف إسرائيلي في رفح جنوبي قطاع غزّة (12/12/2023/الأناضول)

قبل يومين، استخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) لإجهاض مشروع قرار لمجلس الأمن، يطالب بوقف إطلاق النار قدمته الإمارات نيابة عن المجموعة العربية. مرّة أخرى، تقول الولايات المتحدة إنها جزء من هذه الحرب على شعبنا، وإنها لا تؤيدها فقط، بل تقاتل إلى جانب دولة الاحتلال، في محاولاتها القضاء على شعبنا. فالفيتو الأميركي، رغم أنه ليس جديداً، ويجب ألا يكون مستغرباً، إلا أنه جاء في وقتٍ كان العالم فيه ينتظر التعامل مع المذابح التي يجري ارتكابها بحق شعبنا بقليلٍ من الاحترام. لا يفرض القرار عقوبات، ولا يدعو إلى إرسال الجيوش، بل يطلب وقف إطلاق النار. وعليه، موقف واشنطن هو مواصلة إطلاق النار ومواصلة المذابح بحق الأبرياء. هل هذا جديد على إدارةٍ نذرت نفسها لدعم الاحتلال واحتلالها دولاً، وعاثت فساداً بدول كثيرة؟!

أيّ صفاقةٍ تلك، وأيّ استخفافٍ بمشاعر الآخرين. من يهتم لمشاعرنا؟ لا أحد يكترث بما يجري معنا؟ لا أحد؟ من يستطيع أن يقول إنه يعرف حقيقة كيف نشعر؟ لا أحد. يشاهد الكل دماءنا تنزف، وفي أحسن الأحوال قد يقرأ الفاتحة على أمواتنا أو يتأوّه للمشاهد البشعة التي يراها، من دون أن يحرّك ساكناً، ومن دون أن يقول حتى لا مسموعة. لا أحد مسموعا في هذا العالم إلا من الأشرار.

الموت الذي يتربص بنا لا يعطينا المساحة الكافية حتى نمارس حياتنا بشكل معقول

النظام العالمي برمته بحاجة إلى تغيير، وطريقة إدارة العالم بحاجة لتغيير، ونظام الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بحاجة لتغيير. العالم اختلف، وصار لا بدّ من دخول بعض الدول الأخرى إلى ملعب النادي الحصري للفيتو أو إلغاء نظام الفيتو ذاته، فالعالم بسبب هذا الفيتو لم يستطع القول "لا" لقتل الأطفال، بسبب الفيتو، لم يتمكّن من الصراخ في غرفة مغلقة، مطالباً بوقف الدم، بسبب الفيتو ظل عاجزاً عن النظر لوجه امرأة عجوز في جباليا والاعتذار حتى لو لم يكن قادراً على فعل شيءٍ حقيقي.

نظام الفيتو عقيم، ويعيق العالم عن أن يكون عالماً من الإنسانية، ويعيدنا إلى زمن الوحوش المتحاربة. والحقيقة أن كل فكرة المنظمة الدولية، التي تقول واشنطن إنها تصرف عليها، لذا هي من يوجه سياساتها، بحاجة لإعادة نظر. العالم يستحقّ أفضل من أميركا لقيادته. فعلاً العالم يستحق ما هو أفضل من كلّ هذه الكراهية التي تبثّها أميركا فيه، وتعيق تقدّمه وانحيازه لحقيقته الأخلاقية.

تتواصل، في مخيمنا جباليا، العمليات ضد من بقي هناك ويتعرّضون للقتل والتنكيل، ويجري نقلهم من مكان إلى آخر وفق احتياجات العملية العسكرية. ولكثرة الشهداء في أزقّة المخيّم، جمع الشبّان الجثامين ودفنوها في قبر جماعي في سوق المخيم. لا يوجد خيار آخر، فالجثامين تنتشر في كلّ الأزقة والشوارع ولا حيلة لأحد أن يصل إلى مقبرة المخيم أو إلى مقبرة بيت لاهيا، فالدبابات تقتل أي شيء لا يروقها. وعليه، لم يوجد حل آخر إلا عمل مقبرة جماعية ودفن الجميع فيها. سوق المخيم الذي كانت أجزاؤه الشرقية ملعباً تجري فيه في طفولتي مباريات الفرق الرياضية المختلفة، وكنّا نقضي ساعات العصر وحتى المغرب نشاهد أبطالنا الذين كنّا نحبّهم، ونعتبرهم رموزاً في المخيّم في ذلك الوقت. كتب بعضهم على القبور الجماعية أسماء من فقدوا من الأحبّة على حجارة بناء أو على أوراق كرتون، تمّ غرسها في الرمل، كشواهد على حقيقة الحياة التي كانت. يحتضن الموت الحياة والحياة تحتضن الموت. استعدتُ تلك الصور التي كنّا نتبادلها ليلة أمس في الخيمة، ونحن نغسل ألمنا بالحنين.

قضايا وناس
التحديثات الحية
المساهمون