يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(1 ديسمبر)
هذه الليلة وقبل أن ننام، سنفكر بتمديد الهدنة، وسنجلس ساعات ننتظر أن يظهر الدخان الأبيض، وربما ننام يائسين لا نعرف مستقبلنا في الصباح. لا نعرف هل سنفيق على صوت قصف وهدم وصواريخ وقذائف، أم سيكون يوم هدنة جديدا مثل الأيام الستة التي سبقت. لا نعرف كيف سيكون إيقاع حياتنا يوم غد. سمة الحياة في فلسطين تأخذ بعيداً قارب اللايقين، وتبحر به إلى شواطئ لا يصل إليها نظر. الليلة سنعيش ما عشنا الليلة الماضية، وسيأكلنا القلق ذاته الذي نهش استقرارنا وتركنا ننام غير واثقين من غدنا.
عند ظهر أمس، اجتمعت برفقة زميليّ الوزيرين الموجودين في غزّة مع طواقم الهلال الأحمر في مقر الهلال في خربة العدس برفح. كنّا قد اتفقنا على اجتماع أسبوعي كل يوم خميس في المكان نفسه عند الثانية عشرة ظهراً. حضر رؤساء الفرق المختلفة العاملة على إدخال المساعدات، وقدّموا لنا شرحاً مطوّلاً عن العمل خلال الأسبوع الماضي الذي اتسم بتدفق واضح للمساعدات وفق شروط الهدنة. حذّروا من أن المنظمات الدولية لم تعد ترسل المساعدات إلى غزّة والشمال. وأخبروهم أن لديهم تعليمات من مكاتبهم في نيويورك بذلك. ويتناغم هذا مع سياسة الاحتلال بالضغط من أجل استكمال تهجير سكان غزّة وشمالها. حتى قبل الهدنة، لم تكن المنظمات الدولية توزّع معونات على أماكن الإيواء في المنطقتين، وكانت فقط تعمل في مناطق جنوب قطاع غزّة. اقترح أحد رؤساء اللجان أن نذهب إلى المعبر، ثم منطقة وصول الشاحنات وتفريغها وتحميلها، ومعاينة الأمر على أرض الواقع. وصلنا إلى بوابة معبر رفح، ثم استدرنا باتجاه المعبر التجاري.
كان ثمّة عشرات السيارات لنقل البضائع الكبيرة، وكان هناك حركة وجلبة، والكل مشغول ومنهمك في عمله. شابُّ يحمل ورقة ملوّنة ويعدّ الشاحنات، ثم ينظر إلى الورقة والكتاب عليها. آخر يتحقّق من محتويات كل شاحنة. الملفت كان وجود عشرات الشاحنات المحمّلة بمياه الشرب، وهو أمر لا داعي له بالمعنى الفني، لأن إدخال شاحنة وقود واحدة تكفي لتشغل إحدى الآبار الكبرى، وضخّ الماء للمواطنين، وتشغيل محطّة التحلية كذلك. ولكن سياسات الدعم الخارجي لا يمكن فهمها إلا في سياق السعي إلى استمرار الأزمة وليس حلها. الشابّ الذي كان يشرح له بعض القضايا والمشكلات الفنية التي تواجه فرق الهلال الأحمر، قال بغصّة: لا أعرف من يطلب منهم إحضار كل هذه الشاحنات من المياه. "تخيّل أن سعر نقلها يكلف أكثر من سعرها"! يمكن أن أتخيل، ويمكن أن أعرف الكثير عن سياسات التمويل والدعم والتدخّل الخارجي. ومع ذلك، أي مساعدة تخفّف من العبء على الناس، وتساعدهم على اجتياز أيامهم العصيبة، مطلوبة. كانت الشاحنات تحمل شعارات الدول التي تجهّزها.
عند وصولنا، وصلت ستّ سيارات إسعاف، قدّمتها السعودية، كانت تنتظر نقلها إلى داخل القطاع. التقينا بوزيرة التعاون الدولي القطرية الوزيرة الشابّة لولوة الخاطر التي تقيم في غزّة منذ أيام، تشرف على وصول المساعدات القطرية إلى القطاع. تعمل هي وطواقمها الذين جاؤوا معها من الدوحة في مبنى صغير موجود داخل المعبر، كان مخصصاً في الماضي للجنة الإعمار القطرية. تحدّثنا عن الأوضاع وعن العمل، وشكرتها على وجودها وعلى جهود قطر وبقية الدول في مساعدة شعبنا، وفي تعزيز صموده، من خلال توفير كل ما يلزم من أجل هذا الصمود. وبالطبع، أثرنا نقطة المساعدات نحو الشمال، وأكّدنا على التعاون مع الهلال الأحمر الفلسطيني، من خلال إرسال ما يصل من الدول العربية، خصوصا من قطر ومصر، إلى هناك، في ظروف رفض المؤسّسات الدولية تسيير شاحنات مساعداتها إلى شمال الوادي.
واضح أن هناك كمّيات كبيرة من الفستق والسمسم في خانيونس ورفح. ولذلك انتشرت ظاهرة صواني الفستقية والسمسمية، حيث تجد رجلاً يضع صواني من تلك الحلويات سريعة التحضير ويبيعها قطعاً للمواطنين، مثل باعة الكسترد أيضاً. ويمكن تخيّل أنه مع الوقت ستبدأ مثل كل تلك البضائع بالنفاد من المدينة، حيث بدأت السوبرماركتات تخلو من الشوكلاتات والحلويات المختلفة، كما من المشروبات الغازية. وشيئاً فشيئا، لن يبقى ما يمكن شراؤه. حاولنا، أنا وياسر، أن ندخل سوبرماركتات أكثر من مرّة، لعلنا نجد ما يمكن أن نشتريه لكن من دون فائدة. تجد الأرز والحمص والبقوليات والزيوت وغيرها، وهذه لن تطول كثيراً. تذكّرت بحثنا في غزّة عن السوبرماركتات من أجل شراء الشوكلاتة والحلويات ووضعها في السيارة، فهي في مرّات كثيرة، كانت كل ما نأكله طوال النهار. سوبرماركت الباندا وسوبرماركت شارع النفق والسوبرماركت الصغير مقابل معهد جوته قرب دوار حيدر الذي كان وحده يقدّم كوكاكولا وفانتا مثلّجتين. لا أعلم ما حلّ بكل هذه السوبرماركتات، وإذا ما طاولها القصف والتدمير أم لا، لكنني أعرف أنها باتت جزءاً من هذه الذكريات التي تتقافز لتظهر على سطح الألم الآن. السطح المثقل بما لا يُحتمل، فحتى الألم يتألم من شدّة الوجع.
عودة الناس إلى المسار الطبيعي ترجمة نهاية الحرب بالنسبة لهم
ينتشر أيضا باعة العوامة وباعة "كرابيج الحلب". والملفت أن الحصول على القليل من هذه الحلويات سيكلف انتظاراً قد يصل إلى ساعة. في أكثر من محاولة، لم ننجح، أنا وياسر، في الشراء، لكثرة الناس وللمزاحمة والمدافعة حول زاوية البيع، حيث الزاوية الأخرى من الطاولة الكبيرة فيها المقلاة، حيث اللهب يتم تغذيته بالحطب، حتى يشتعل أكثر وأكثر. كذلك باعة المشاوي الذين يقدّمون أجنحة الدجاج المشوية، وهي مجمّدة يتم تبهيرها ببهارات كثيرة مختلفة، حتى تصبح لذيذة، أو بالكباب الذي يكون عادةً أيضاً من اللحم المجمّد. يشتري بعضهم الكباب في صحونٍ يتم توزينها، ويشتري آخرون لفائف صغيرة، حيث يلفّ الرجل كل أصبع كباب برقاقة خبز رفيع، ويقدّمها بوصفها ساندويتشاً. بعض الوقت، ثم لن يظلّ شيء في قطاع غزّة لم يتم بيعه. كل ما في المخازن وكل ما في ثلاجات التجار تم إخراجه ووجد له من يشتريه. المثلجات والمجمّدات، وكذلك البقوليات والمعلبات. كل شيء سينفد إذا استمرّت الحرب وقتاً أطول.
لا يقدّم ما يدخل خلال الهدنة من مساعدات الكثير للناس، فهو ليس أكثر من طعام استهلاكي يومي، وليس للتخزين. والناس عادة تستهلك بعد يومين "كابونتها"، وتنتظر وصول المساعدة الجديدة. تفطر وتتغدى فولاً يتم طهيه على نار الحطب، أو علب تونا يتم عصر الليمون عليها ووضع الفلفل المطحون حتى تبدو لذيذة. كما أن أكثر من نصف ما يدخل ليس مساعدات غذائية بشكل كامل، فبعضه ملابس أو أغطية، وبعضه مساعدات طبّية للمستشفيات، وهناك وقود أيضا. ثمّة نقص متواصل في كل شيء لا يمكن التعويض عنه إلا بتدفّق الشاحنات كما في الوضع الطبيعي، من أجل أن تعود الحياة إلى طبيعتها، ومن أجل أن يعيش الناس كما كانوا يعيشون.
يقول الكل إنه اشتاق للملل، حتى الذي كانوا يعيشونه. قالت لي إيمان، ابنة أخي نعيم، التي تعيش وزوجها وطلفها في حي الشيخ رضوان، بالهاتف، إنها لن تشتكي بعد الحرب من وجود الملل. الملل الذي كنّا نعيشه "لذيذ ومنيح"، المهم أن نعود إليه. عودة الناس إلى المسار الطبيعي هي ترجمة نهاية الحرب بالنسبة لهم. وفيما قد تستمر الحرب كثيراً، وقد تأخذ أرواحا بريئة كثيرة، وقد تقضي على مزيد من البيوت والعمارات والبنية التحتية والبساتين والبيارات، إلا أن بحث الناس عمّا هو أفضل لن يتوقف، وسيواصلون الحلم بأن الغد لا بد أن يكون أجمل. خبر كثيرون منهم الحروب قبل ذلك، ويقرّ معظمهم بأن هذه الحرب هي الأكثر شراسة والأكثر فتكاً. ومع ذلك، يبدون أكثر تمسّكاً بالأمل الذي لا بد أن يحقق لهم الكثير مما يتطلعون له. الملل الذي كانوا يعيشونه بسبب الحصار ومنع الحركة، ومنه إدخال بضائع كثيرة إلى القطاع هو ذاته الملل من استمرار الحرب، ومن مواصلة الموت تجوله في البلاد. ومع ذلك، ثمّة ملل أفضل من ملل، وثمّة رغبة بالعودة إلى السياق الطبيعي من الحياة.
انهمرت القذائف في نواح مختلفة، ونحن نتناول طعام الفطور. انتهت الهدنة ولم يتم تمديدها. رجعت الحرب، لكنها ليست تلك الرجعة المأمولة أو المنتظرة. رجعت بالموت والقتل والتدمير. صوت الصاروخ يهوي في مكان قريب سنعرف بعد قليل أنه في محيط مستشفى ناصر، وصوت القصف المدفعي يتواصل في المناطق الشرقية لخانيونس. نسمع صوت القذيفة وصوت الانفجار بعد ذلك. قصف في كل مكان. سرحتُ قليلاً أفكّر في والدي وبقية العائلة الذين ظّلوا في الشمال وغزّة، وكأنني كنتُ ألوم نفسي أنني تركتهم وجئت إلى الجنوب. ومرّة وراء مرّة، أعيد تذكير نفسي بكل تلك الأسباب التي دفعتني إلى فعل ذلك. تشتكي عيشة من أنه كان عليها أن تبقى هناك، ويندمان أيضا، أبو أسيل وفرج. يقول الجميع إن مثل هذا الخروج مؤلم، لأن الحياة التي عاشوها بعد الخروج كانت قاسية. ليس سهلاً أن يعيش المرء في مدرسة نزوح، حيث لا تتوفر أدنى مقوّمات الحياة. يعيش أبو أسيل في النصيرات في بيت صديق له، فيما تعيش زوجته وابنته أسيل في منزل ابنة أخيه في المخيّم المقابل، البريج. كما أن العيش في خيمة أو في غرفة من القماش لا يجلب أي سعادة. حين أجلس وحيداً في الخيمة (في رفح) التي جهّزها قريبي جمعة، أفكر هل حقاً "خيمة عن خيمة تفرق". تبدو خمية جمعة أكثر إحكاماً ولا تقع في وسط مئات الخيام، بل في منطقة لها سور وأمامها مساحة شاسعة من الرمال الصفراء، وثمة حمّامٌ خاص تم تركيبه في الناحية المقابلة. هل "خيمة عن خيمة بتفرق" كما ذكّرني، بالهاتف، مازحاً معن البياري؟ وأفكر أن القيد قيد، حتى لو كان من ذهب أو ألماس لا فرق. القصف يستمر والحرب تعود والقلق يعود والانتظار يعود. بعد يومين من وصولي إلى الجنوب توقفت الحرب، ودخلت الهدنة حيز التنفيذ. لذا لم أخبر الحرب في الجنوب كثيراً، ولا أود أن أخبرها بالطبع. لكن يبدو أن كثرة الحديث عن تحويل مسار المعركة نحو الجنوب بدأ يأخذ مساراً جدّياً.
تذكّرت تلك الأيام التي كان الحديث فيها عن الاجتياح البرّي لغزة وشمالها جزءاً من نقاش عام ومن نشرات الأخبار. وتذكّرت كيف كان كثيرون يستبعدون أن يحدُث ذلك، لكنه حدث. كانت فكرة الاجتياح البرّي تهيمن على النقاش أياما قبل أن تصبح حقيقة. وها هي فكرة اجتياح خانيونس تحديداً تسيطر على نشرات الأخبار، وعلى أسئلة الصحافيين والمحللين، فيما يبدو أنه تمهيد من أجل جعلها قناعة وحقيقة لدى الناس. انتهت الهدنة، وعادت الحرب، وعاد النقاش عن مستقبل الحرب، وفي أيّ اتّجاه يجب أن تسير. هل فعلاً ستكون خانيونس وجهة الحرب القادمة. قلت لمأمون: أستبعد اجتياحاً برّياً لخانيونس المدينة والمخيم، ولكن ربما في المناطق الشرقية، من دون أن تتقدم الدبابات باتجاه شارع صلاح الدين. ... يصعب التكهن، ويظل التحليل مجرّد تحليل لا يقدّم حقائق ملموسة. ومع اشتداد عودة الحرب في ساعات الظهيرة توافدت أخبار عن استمرار العملية البرّية في مدينة غزّة، خصوصا في منطقة الشيخ رضوان حيث الاشتباكات العنيفة، فإن القلق من اجتياح خانيونس يتراجع قليلاً، لأن الإنسان بطبعه يحاول أن يجد حلولا مؤقتة يواسي فيها نفسه. ولكن هذا لا يمكن أن يستبعد أن تكون خانيونس المنطقة التالية بالاستهداف، والمقصودة من الهجوم البرّي. يوزّع الجيش منشوراتٍ يطلب فيها من سكان المناطق الشرقية في خانيونس التوجّه إلى رفح، لأن خانيونس لم تعد منطقة آمنة، بل هي منطقة قتال. التوجه إلى رفح يعني أن خانيونس هي المنطقة التالية في الاستهداف البرّي. تزامن هذا مع القصف المدفعي العنيف على مناطق عبسان وبني سهيلا وخزاعة، وهي البلدات الأساسية في شرق خانيونس.
ثمّة حاجةٌ للتكيف والتأقلم، فما يجري من قصف ومن تدمير بات جزءاً من روتين يومي نعيشه
لم تفلح جهود الوسطاء في تمديد الهدنة. قبل أن أنام، كنتُ متيقّناً من ذلك، فالساعة صارت التاسعة، ولا أخبار عن جهود من أجل تمديد الهدنة. عميقاً، لا يريد الواحد منا هدنة، يريد إنهاء الحرب، ولكن حتى الهدنة مرغوبة، لأنها تعني تعليق الموت قليلاً، وتأجيل التدمير قليلاً. يوم أمس، استشهد مواطن شرق بيت حانون، حيث أطلق عليه القنّاصة النيران. لا يتوقف القتل. هذا ما أقصده، ولكنك تشعر، على الأقل، بأن ثمّة استراحة واجبة من بعض القلق والانتظار. استراحة تمكّننا من أن نعود قليلاً إلى بعض أشيائنا. مكّنتني الهدنة من الحديث مع أبي، والاطمئنان عليه، والحديث مع أختي أسماء وبنات أخي نعيم. استراحة من أجل التفكير في الأحبّة وسماع أصواتهم.
قصفٌ يهزّ المخيم الآن. صوت الصاروخ يصفر ثم ترتجّ العمارة. المشاهد نفسها التي كنت أعيشها في جباليا، وصوت الصاروخ نفسه، والارتجاج نفسه. لا بد أن ثمّة أوقاتاً عصيبة تنتظرنا، ولا بد أن ثمة انتظارا وقلقا سينهشان كل لحظة من عمرنا، حتى تنتهي الحرب أو حتى يتوقّف الزمن عن مهزلته التي يسخر فيها من أعمارنا. يتصاعد الدخان من جهة الغرب في حارة مأمون، حيث القصف قبل قليل. قال مأمون: القصف عند "الظهرة"، وهو اسم المنطقة التي نزل عليها الصاروخ. هنا في خانيونس، لا أنزل إلى الشارع مثلما كنتُ أفعل في غزّة والشمال، من أجل أن أستكشف منطقة القصف، وأرى ما حلّ بالمكان المقصوف، فحدود معرفتي بالمنطقة ضعيفة ولا أعرف الشوارع جيدا. المعرفة عاطفة كما يمكن القول، ومعرفة المكان تنشئ عاطفة من أجل الاطمئنان عليه. وبشكل عام، مع تكرار القصف، ومع قرابة شهرين من الحرب الدائرة، تتحوّل الأشياء إلى روتين، ويتحوّل كل شيء إلى "عادي" جديد يجب التأقلم معه، ويجب التفكير في أنه الشيء الطبيعي. هل ما نعيش هو الطبيعي في حياتنا؟ هل باتت حياتنا التي نعرفها جزءاً من الماضي الذي لا يُستعاد إلا بالتذكّر، ولا نعيشه مرّة أخرى؟ ثمّة واقع جديد، وثمّة حياة جديدة، وثمّة حاجةٌ للتكيف والتأقلم، فما يجري من قصف ومن تدمير بات جزءاً من روتين يومي نعيشه.
في البداية، بدا غريباً وغير مألوف، وهو ربما ما كان يدفعنا إلى تبيّن مكان القصف والركض، من أجل تفقّد الآخرين، أما الآن فهو أمر يومي. قلق وأسئلة وتفكير هي جزءٌ من التوتّر الذي أحدثته الحرب، وجعلته سمة أساسية لحياتنا. أستمع لصوت القصف كأنني سأسمع صراخ الصبية في الشارع أو لجلبتهم وهم يذهبون إلى المدرسة. صفير الصاروخ وفحيح قذائف الدبابات صوت في خلفية المشهد. صوت مألوف ليس جديداً على الذاكرة، كما أن المتوقّع منه محفوظ في دهاليز الوعي، ولن يكون شيئاً جديداً. كأن لسان حالي يقول: أسوأ مما حدث ماذا سيحدُث. ... دائماً، هناك الأكثر سوءاً وهناك الأسوأ، ولكن الجسد تخدّر والوعي تخدّر، والذاكرة تيبّست، وصار الخلط بين ما يجري وما كان يجري طوال 56 يوماً أمراً عادياً، ويسير عاديا، ولم يعد يستدعي حتى دقيقة من أجل التوقف والتفكير.
اليوم يوم تعبئة الماء. فيما أنا نائم، أسمع صوت الجلبة على الدرج، وصوت الشبّان والأطفال ينادون ويصرُخون ويتجادلون، وهم يحملون الدلاء والغالونات الصفراء، ويصعدون فيها إلى السطح. حاول أحمد، شقيق مأمون، أن يحضر بعض لتراتٍ من البنزين حتى يوم تشغيل ماتور توليد الكهرباء، ليتم تشغيل ماتور ضخّ الماء إلى فوق، إلا أنه فشل، فبعد انتظار، وبعد اتصالات ومحاولات تدخّل ووساطات، عاد بخفّي حنين. ابتسم بمرارة، وقال إنه حصل على سولار، والسولار لا يصلح لتشغيل الماتور. لذلك، يظلّ حمل الدلاء والغالونات الخيار الوحيد المتاح. استمرّ حمل الماء إلى فوق من لحظات الصباح حتى ساعات بعد الظهيرة. عناء لا بد منه، وهو عناء يساعد على دفع الحياة إلى الأمام بضعة أيام، قبل أن يكون على الجميع أن ينخرط في المهمّة المرهقة مرّة أخرى في منتصف الأسبوع.
الحياة يوماً بيوم. مثل عقد يتم تجديده يومياً ولا يسري إلى أكثر من ذلك. الحياة في غزّة معلقة ومؤجلة، لا أحد يعيشها بشكل كامل، ولا أحد يعيشها بشكل متواصل، بل قطعة قطعة، وحين تعيش جزءاً منها، فهذا لا يعني أنك ستعيش الجزء التالي، بل عليك الانتظار، حتى تتبيّن نصيبك الآخر. فيما يتواصل القصف، ويتواصل القلق بشأن مستقبل الحرب والاجتياح البرّي لخانيونس، يوزّع الناطق باسم الجيش خريطة عليها أرقام للمناطق والبلوكات المختلفة، حيث على المواطن أن يعرف رقم بلوكه، لأن الجيش سيطلب من المواطنين إخلاء تلك الأماكن، حيث يدخل إليها ضمن استراتيجية الحرب في مرحلة ما بعد الهدنة. قال مأمون: رقمنا 108. علينا أن نحفظ هذا الرقم جيداً، لأنه سيقرّر مصير حياتنا في لحظة الحرب البرية إذا تمّت. أما اليوم فعلينا أن نعيشه، لأن العقد لن يتم تجديده مع الحياة إلا في الصباح.
(2 ديسمبر)
تضيق خانيونس وتصبح أصغر مع الوقت. نزح عشرات آلاف المواطنين من المناطق الشرقية ومن القرارة إلى المدينة والمخيّم. صحوْنا صباحاً على أصوات الناس وافدين من الشرق، يبحثون عن أماكن يقيمون فيها. قرابة ثمانين من أقرباء مأمون جاؤوا من القرارة للسكن في البيت عندهم في المخيّم. الطائرات والدبابات لم تتوقف عن قصف البلدة طوال الليل، موقعة إصابات عديدة في أوساط المواطنين. شارع "2" تم استهدافه بشكل مكثف من أجل إجبار الناس على ترك بيوتهم والنزوح. وصلوا مع الصباح مفزوعين هاربين من الموت، سينتظرون للنجاة لحظة بلحظة. على المدينة التي استوعبت مئات آلاف النازحين من مناطق غزّة وشمالها أن تستوعب المزيد من الوافدين من ضواحيها.
جل ما قد يطمح إليه النازح أن يجد خيمةً يعيش فيها هذا المؤقت
فجأة، صار الهجوم البرّي على خانيونس يتصدّر الأخبار. وصارت خانيونس الخبر الأكثر انتشاراً وتكراراً في نشرات الأخبار، بعد عودة الحرب بعد توقفٍ أكثر من أسبوع. القصف والقذائف وصوت الصواريخ والانفجارات في كل مكان. نمت على هذا الإيقاع غير المتقطع، حيث تم استهداف أماكن ومبان ونحن نائمون. صوت الطائرات الزنّانة يأكل صمت الليل ونشاط الصباح ومرحه المفترضين. الزنّانة من علامات وجود الحرب. استخدم الجيش الليلة الأحزمة النارية في استهداف مناطق عديدة. وكانت تلك الليلة أول مرّة أسمع فيها الأحزمة النارية منذ غادرنا الشمال. نحن الوافدين من الشمال نعرفها جيداً، ونستطيع أن نميّزها حين تنفيذها.
ذهبتُ مساء أمس إلى مستشفى ناصر بغية شحن جوالي وحاسوبي، وكانت فرصة لأرى الأصدقاء ولتبادل الأحاديث والنقاش معهم. وضعتُ جوالي وجوال ياسر في "إبريز" الكهرباء للشحن، كذلك الحاسوب. سرتُ لأول مرة في الجهة الخلفية للمستشفى. اكتشفت وجود مخيم كبير من النازحين الذين نصبوا خيامهم في تلك المساحة الشاسعة من الأرض. كان وجود ذلك كله صادماً، رغم أنه متوقّع. فوجود مخيّم ضخم خلف مباني المستشفى ينتصب في المساحة الشاسعة التي يمكن أن تكون حديقة أو منطقة استجمام للمرضى في السابق أمر طبيعي في أوضاع الحرب تلك.
الآن، حوّلت الخيام الحديقة أو منطقة النقاهة إلى مخيّم مكتظ. مخيّم فيه من تفاصيله ما يغنيه عن الوصف. تفاصيل كلها تشير إلى المؤقّت والطارئ الذي هبّ على حياة ساكنيه، فكان عليهم أن يكونوا ما هم عليه. حارات وشوارع وأزقّة وناس مشغولون بهمومهم اليومية وتفاصيل حياتهم الجديدة. سيّدة تعجن ورجلٌ يوقد النار تحت الطنجرة التي تتصاعد منها رائحة الطبيخ الشهي، وثلاثة شبّان يدخّنون النرجيلة، وفتاتان تتحدّثان همساً أمام خيمة، ورجل آخر منهمك بإيقاد النار فيما زوجته تواصل تجهيز أقراص العجين للخبز، حياة أخرى تولد من رحم اللحظة، حياة تتشكّل.
جلستُ ساعتين، في خيمة الصحافيين بجوار مبنى الإدارة في مستشفى ناصر، أتحدّث مع بعض أصدقائي من الصحافيين. كان أحدُهم يقفز فجأة عن كرسيّه ليقف خلف إحدى الكاميرات الواقفة أمام الخيمة، لينقل رسالته أو تقريره، ثم يعاود الجلوس معنا. كان المشهد يتحدّث كثيراً عن حالة الحرب التي نعيشها. وكنت، مثلاً، يمكن لي أن أستدلّ على الفرق بين تقرير المراسل نفسه للقناة بالإنكليزية عنه بالعربية. أخبرني مصطفى الذي يعمل لدى قناة روسيا اليوم، وكنت أراه في مستشفى الشفاء وكان آخر من غادره من الصحافيين، أنهم أقاموا منطقة خاصة لخيام عوائل الصحافيين قرب سور المستشفى، ووفّرت لهم إدارة المستشفى حمّامين مجهّزين بطريقة جيدة، وها هم يعيشون في مخيّمهم الخاص. وبين هذا الوقت الذي يعيشونه أمام الكاميرات أو في انتظار موعدهم في نشرة الأخبار يجتهدون لسرقة وقتٍ مستقطع، ليعيشوا حياتهم كآباء أو أمّهات.
صارت المدينة مخيّماً كبيراً، والخيام تنتشر في كل مكان، وجل ما قد يطمح إليه النازح أن يجد خيمة يعيش فيها هذا المؤقت، أو يجد أرضاً يضع عليها خيمته إن وجد الخيمة. محظوظ من يجد الاثنتين.
صحوتُ باكراً. لا تقول هذه العبارة شيئاً، لأننا نصحو باكراً دائماً. كانت الساعة السادسة. كان مأمون قد صحا أيضاً مثلما يفعل كل يوم، إذ يصلي الفجر حاضراً، ثم يظلّ يقظاً. أخذ مأمون يعدّد لي الأماكن والبيوت والشوارع والمناطق التي جرى استهدافها بالقصف الليلة الماضية فيما كنا نائمين. كلها في محيط منزله. كان القصف الأعنف في المناطق الشرقية، حيث بدأ الاجتياح البرّي هناك، حيث يتم تهجير المواطنين من هذه الأماكن. ظلّ السؤال قائماً: هل سيجتاح الجيش المدينة والمخيم؟ مما جرى في غزّة، يمكن فهم ما سيجري هنا، حيث يظل النقاش قائماً بشأن الاجتياح البرّي هل سيتم أم لا، حتى تصبح الفكرة جزءاً من الواقع، ويصحو الناس فجأة فيجدون أن الاجتياح تم وأنهم يعيشونه. قد يكون بطئياً وقد يتأخر، ولكنه يحدُث في نهاية المطاف. تخدع دولة الاحتلال العالم في إثارة النقاش، وكأن الأمر قابل للنقاش وقابل للاجتهاد وللتأثير، لكنها، في نهاية المطاف، تواصل مخططاتها من دون وازع ولا رادع. خلال تقدّم الجيش، يتم هدم كل شيء وحرق كل شيء. الحجر والبشر والشجر أعداء للقاتل. قال مأمون لي إنه لن يخرج إلى أي مكان آخر. خرج من شقته في الرمال أول أسبوع في الحرب، وعاد إلى بيت العائلة في المخيم، ولن يترك بيت العائلة إلى أيّ مكان آخر. فكرة اجتياح خانيونس تكبر.
واصل الجيش مذابحه وقتله المتواصل في الشمال، خصوصا في مناطق شمال مخيم جباليا وغربه. هاتفتُ أختي أسماء أسأل عن حالهم، فهي ما زالت في بيتها في منطقة الفالوجا التي تعرّضت للقصف الشديد طوال الليلة وصباح اليوم. كان صوتها يرتجف، وهي تروي تفاصيل الليلة الرهيبة التي عاشتها ليلة أمس، تظن أن القذيفة ستسقط عليهم في أي لحظة. تساقطت القذائف على حديقة البيت، وحرقت شجرة الزيتون وورودا جميلة كانت تزرعها حتى تجعل البيت يبدو أجمل. في الليل، اشتعلت النيران في كل المنطقة المقابلة لبيتهم، والتهمت منطقة سوق الفالوجا وصولاً إلى مدرسة شادية أبو غزالة. احترق كل شيء، واحترق الناس، واحترقت أخلاق العالم معهم. كل ليلة كابوس جديد، نوم في انتظار المجهول في انتظار ما لا نعرف. حتى حين يفيق المرء، لا يكون متيقّناً من أنه أفاق حقاً. حاولتُ الاتصال بوالدي، لكن الشبكة معطلة. أنت ونصيبك.
وصل في الصباح أكثر من 80 من أقرباء مأمون ممن يسكنون بلدة القرارة، بعد أن قصفت الدبابات منطقتهم، وحوّلت ليلتهم إلى جحيم. كانوا ينتظرون الصباح حتى يفرّوا منه. عند السابعة، بدأوا بالوصول وتنفّسوا الصعداء غير مصدّقين أنهم نجوا. مثل كل النازحين، حملوا معهم ما استطاعوا من أمتعة وفراش وملابس، حتى يخفّفوا عبء اللحظات المقبلة، وحتى يجدوا ما يمكّنهم من العيش قليلاً بأقل تعبٍ ممكن. طوال الليل، حوّل الجيش البلدة إلى ساحة حرب، إذ قصف البلدة من أكثر من اتجاه، ودمّر بيوتا ومباني كثيرة، وضرب البنية التحتية والشوارع الرئيسية، وقتل المدنيين وهم نائمون يحلمون بصباح أجمل، الصباح الذي لم يروْه. الآن، على البيت الذي استقبل في بداية الحرب 70 نازحاً من مدينة غزّة من الأقرباء والأنسباء أن يستوعب 80 آخرين من النازحين الجدد. مأساة لا تنتهي، وموت لا يتوقف عن مطاردة الحياة. تركز القصف في شارع "2" في البلدة. اشترى كثيرون من عائلة مأمون قطعاً من الأراضي في بلدة القرارة قبل عشرات السنوات، وبنوا بيوتهم هناك، حتى إن الشارع الذي يسكنون فيه بات يطلق عليه شارع الجيّة، نسبة للقرية التي تم تهجيرهم منها عام 1948 خلال النكبة، وهي قرية فلسطينية كنعانية تقع مباشرة على يمينك قبل أن تصل إلى المجدل في طريقك من غزة ويقابلها قرية نعليا جهة الغرب. حتى فكرة استحضار القرية المنكوبة عبر تكوين جديد لم تنجُ من آلة النكبة الجديدة.
تبدو خانيونس أكثر اكتظاظاً وأكثر قلقاً وأكثر انتظاراً. يسأل الكلّ عن مستقبل الحرب
دمّر الجيش الليلة ثلاثة مساجد في أماكن مختلفة من خانيونس. ... رجعت الحرب، ولم ترجع الشتوية. تهيمن تفاصيل الحرب على حياة الناس، والمستقبل المجهول يأكل كل محاولاتهم للتأقلم والتكيّف اللحظي. تستنشق المدينة روح الحرب، ويسري في عروقها، فيما تحاول أن تفيق من صدمة ما يجري أو أن تعيش معه، أو أن تتعود عليه. هذا التعوّد الاضطراري الذي يعني أن على الإنسان أن يتقبّل ما يكره، لأن الكُره لا يفيد كثيراً في لحظات الموت، وفي الوقت الذي يجب فيه أن يبحث عن النجاة والخلاص. رجعت الحرب أكثر قسوةً من قبل ربما، لأننا اعتدنا، أكثر من أسبوع، على الهدوء، أو أننا أردنا أن ننسى رعب ما عشنا وأهواله، وعطّلنا الذاكرة حتى لا نستعيد ذلك كله. كانت الهدنة فرصة من أجل التنفس، ومن أجل الراحة المتاحة، بيد أن الحرب حين تعود تجُبّ كل ما قبلها وتأخذ كل شيء في طريقها، وتكسر كل تلك الأقفال والأرتجة السمكية التي تختبئ خلفها الذاكرة، وتسير بقسوة وجهها القبيح.
تبدو خانيونس أكثر اكتظاظاً وأكثر قلقاً وأكثر انتظاراً. يسأل الكل عن مستقبل الحرب، السؤال الذي لم يغب عن بال أحد منذ يومها الأول، لكنه كل يوم يبدو أكثر إلحاحاً. تحرّكت الدبّابات منذ الليلة من الشريط الحدودي شرقاً باتجاه البلدات الحدودية، مثل خزاعة وعبسان والقرارة، وصارت وجهتها غرباً تعني التقدّم أكثر باتجاه خانيونس، من أجل إحكام الضغط على المدينة.
كان علينا، في الطريق في رفح، الانتظار ربع ساعة، حتى نتمكّن من المرور في الشارع، حيث كان الجيش، ليلة أمس، قد قصف مقطعاً فيه، أدّى إلى تدميره بشكل شبه كامل، نتجت عنه حفرة عميقة، ولم يتبقّ مسرب للسيارات حتى تسير فيه إلا شريط صغير بالكاد تعبُر منه سيارة عادية، وليس شاحنة أو سيارة نقل. كان على السيارات أن تنتظر حتى تمر الشاحنات من الجانب الآخر. بعض رجال الدفاع المدني منهمكون في إعادة ربط شبكة المياه التي تعطّلت بشكل كامل. الأسفلت مشقّق على بعد عشرات الأمتار من مكان القصف، والمياه تجمّعت في الحفرة العميقة التي تركها الصاروخ. اجتزنا بحذر الشريط الترابي على جانب الشارع الذي بدا أكثر اكتظاظاً من قبل، ومزيد من السيارات تعبرُه وتتّجه إلى جوف المدينة الحدودية التي صارت محطّ أنظار النازحين الباحثين عن النجاة.
يمكن ملاحظة الدمار في كل مكان، فالبيوت المهدّمة والبنايات المتهاوية سمة بارزة في كل شارع تعبر فيه، وإذا توقفت دقيقة يمكن لك أن تسمع حكاياتٍ عن أصحابها وعن لحظة نجاتهم أو قصص ما قبل رحيلهم تحت الأنقاض. أخبرنا شابٌّ عن العائلة التي تركت بيتها، وانتقلت للعيش في بيت أقاربها على الجهة الأخرى من شارع خربة العدس، ظناً منها أنها أكثر أمناً من منطقتهم المكتظة. يبعد البيت الجديد فقط مائة متر عن بيتهم الذي تركوه. لم يمرّ يوم حتى جاء الصاروخ على البيت الجديد، وقتل كل من فيه، فماتوا، فيما ظلّ بيتهم الذي تركوه قائماً ينتظر عودتهم التي لن تتم. تقول لك حكايات من هذا النوع إن القدر شيء لا يملكه أحد، وإننا نسعى ونجتهد من أجل أن نتجاوز إيقاع الموت الذي تفرضه الحرب، لكننا، في نهاية المطاف، لا نفعل إلا ما نستطيع عليه.
كل الأخبار تتحدّث الآن عن الجنوب، وعن الحرب القادمة على الجنوب، والجنوب الذي كان قبل أشهر، وفق ادّعاء الجيش، ملاذاً آمناً للناس، صار ساحة الحرب الجديدة، وصارت المساحة الآمنة فيه تضيق وتضيق، فالناس عليهم أن يتركوا القرارة، ويتركوا المنطقة الشرقية إلى خانيونس، ثم يتركوا خانيونس نفسها، وقد قصفت البوارج الحربية شواطئ دير البلح. كما أن مناطق مختلفة في رفح تتعرّض للقصف اليومي.
عند الظهيرة، كان عليّ أن أعمل مع بثينة على تقرير الأضرار في القطاع الثقافي، نتيجة الحرب المستعرة ضد شعبنا. تناقشت معها في تفاصيل كثيرة، وراجعت معها الأرقام والبيانات. لم يبق إلا المقدّمة التي يجب أن أكتبها. ... تتواصل الحرب على شعبنا في غزّة ويواصل شعبنا صموده، رغم كل جرائم الاحتلال، هذه الحرب تطاول الأخضر واليابس وتضرب خلالها دولة الاحتلال عرض الحائط بكل الأعراف والقيم والقوانين الدولية. إن جوهر هذه الحرب قائم على محاولة محو شعبنا وإزالته وتهجيره. لذلك هي تستهدف كل شيء في قطاع غزّة من البشر والحجر والشجر. خلال حرب الإبادة هذه، تم استهداف مناحي الحياة كافة، وكالعادة، استهداف الحياة الثقافية في البلاد جزء من هذه الحرب المستعرة على شعبنا في استكمال واضح لمخطّط النكبة، فحفيد جندي العصابات الذي قصف سينما الحمراء في يافا دمّر مركز رشاد الشوا في غزّة بعد 75 سنة، والعقل الذي استهدف المتحف الوطني في القدس أيام النكبة استهدف متحف القرارة ومتحف "المتحف" بعد ذلك. كانت الحرب على الثقافة دائماً في صلب الحرب التي شنّها الغزاة على شعبنا، لأن الحرب الحقيقية هي على الرواية من أجل سرقة البلاد، وما في هذه البلاد من جواهر، وآثار وما عليها وعنها من حكايات.
إن شعبنا الذي وهب العالم أول أبجدية في التاريخ، والذي من أرضه تواصل صعود الديانات والتوحيد، سيواصل مساهمته بالحضارة الإنسانية، وسيواصل الغناء والموسيقى والشعر والرواية، والحكايات التي لا تنتهي في بلاد الحكايات الأولى.