يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(27 نوفمبر)
تدغدغ الرمال الصفراء الناعمة قدميّ العاريتين، وأنا أتمشّى قبل أن تشرق الشمس أمام الخيمة. الرمال التي كانت تمتدّ على مساحاتٍ شاسعةٍ حتى يضربها البحر ويصنع منها شاطئاً يستجمّ عليه الناس، قبل أن ينحني المتوسّط ليبدأ امتدادُه من الشرق إلى الغرب نحو المحيط. الرمال التي تزخر بذكريات الأقدام العارية الكثيرة التي سارت عليها في قرون عبرت، وبذكريات غزاةٍ كثر مرّوا بقربها في طريقهم من قارّة إلى أخرى، وبذكريات رعاةٍ هشّوا أغنامهم بالأغاني والمووايل، وهم يبحثون عن الكلأ، تلك الرمال التي تمتد أمام الخيمة بواجهتها الشفّافة تحمل آخر ما تبقى من برودة الليل قبل أن تُشرق الشمس عمّا قليل. أذرعُ المسافة بين الخيمة التي نمتُ فيها والسور الصغير الذي وضعه جمعة قريبي حول قطعة الأرض التي تضم خيامه الأربعة، وما يمكن تسميته منافعها (حمّام وزاوية للمطبخ وبرميل ماء). ما زال موقد النار نائماً، لم تشتعل فيه النيران بعد. كومة الحطب تنتظر من ينتشل منها أغصاناً أو جذوعاً ليوقد النار. سيدة وزوجها في خيمةٍ أراها عبر السور أوقدا ناراً وُضع عليها إبريق الشاي، بعد أن حُمّصا الخبز، وبدآ إفطاراً متقشّفاً شهياً. الزعتر وحبّات الزيتون والخبز المحمّص وكأس الشاي. بدأت رائحة النار تفوح في النواحي حولنا. والخيام الغافية في ملكوت الهدوء بدأت تنفض عباءته لتدبّ الحياة رويداً رويداً فيها. عدتُ إلى الخيمة أحاول أن أسرق المزيد من النوم. أتظاهر بأنّي نائم أو بأنّي أغمض عيني، فيما أخبئهما تحت ذراعي.
استيقظ جمعة، وبدأ مهمة إشعال النار في الموقد. يتصاعد الدخان الأبيض، يعلن ميلاد نار متوهّجة. أسند جذعي إلى جدار الخيمة، وأنظر إلى الرمل الأصفر الممتدّ أمامي. شجرات الزيتون الصغيرة التي غرسها صاحب الأرض قبل الحرب. الشجرات الخمس تتمايل وهي تستقبل ضوء الشمس الباهت. لم يقو مثلها عودُه بعد. حمامتان تحلقان بعيداً. لا عشّ لهما ربما مثلنا. نصحو الآن، لا شقشقة عصافير ولا زقزقة أي طير. هاجرت الطيور بعيداً، أرعبها القصف وصوت الصواريخ. لم يعد هناك شيء عادي حتى تظل الطيور تحلّق وتشدو، وتبحث عن طعامها. تتمايل الملابس المعلّقة فوق السور الصغير مرحّبة بالنهار الجديد. دخل جمعة وناولني كأس الشاي الساخن. ما زال ياسر نائماً. هل أوقظه من أجل كأس شاي. قرّرت أنّ الأفضل أن ينام، فكلّ يوم نمشي مسافات طويلة، وهو بات يشعر بالتعب أكثر، كلّما مرّ الوقت ونحن نعيش هذه الحياة غير المستقرّة.
تسحبني الرمال الصفراء، الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، بعيداً إلى ذكرياتٍ بعيدة، مثل ما أنا بعيد عن نفسي. خيالاتٌ وأحداثٌ مثل مشهد سينمائي، نسي المخرج أن يضعه في الفيلم. لم يكتب السيناريست، ولا أدّاه الممثلون، لكنه ظلّ حياً في عقل المخرج. هذا المؤقّت الذي قد يصبح دائماً هو ما يفزعني وأنا أتخيّل لو أنّ لي قدرة على عدّ حبّات الرمل، حتى أهرب من كلّ تلك الأفكار المؤلمة التي تغزوني الآن، فيما الشمس أخذت تركب صهوة السماء. ورغم البرد الذي يُمسك الطقس، إلا أنّ الشمس تبدو مصرّة على السطوع، وعلى رمينا ببعض حرارتها. ونحن في أمسّ الحاجة لهذه الحرارة، حتى لا يأتينا البرد. الرمال الصفراء ستسخن عمّا قليل، وستتحوّل مثل كل شيء حولنا إلى جزء من هذا الطقس المؤلم الذي نؤدّيه، من دون أن تكون لنا رغبة فيه. أعمدة الكهرباء لا تأتي بالكهرباء، والأسلاك الممدودة بينها لا يسري فيها أي تيار. بات كلّ شيء صورة عن شيء كانه في السابق ولم يعد عليه. كلّ شيء صورة ظلّ أفلاطونية غير قائمة في الحقيقة.
بات كلّ شيء صورة عن شيء كانه في السابق ولم يعد عليه. كلّ شيء صورة ظلّ أفلاطونية غير قائمة في الحقيقة
بعد ظهر أمس، في الطريق من خان يونس إلى المستشفى الأوروبي، كان طابور السيارات على جانبي محطّة البنزين أكثر من كيلومتر. الكل ينتظر لحظة وصول الشاحنات من معبر رفح حتى يتم ضخ البنزين في صهاريج المحطّة الأرضية، ومن ثم تعبئة سياراتهم. يقف السائقون خارج سياراتهم. يدخّن بعضهم ويتحدّث مع جاره، والآخرون أصابهم الملل، فجلسوا على الأرض وهم ينظرون يميناً ويساراً. لا توجد أي مسافة إلا بالقدر الذي لا يسمح بالاصطدام بين سيارةٍ وأخرى. يحاول الكل استغلال أي مسافة ممكنة، فأنت لو تركت مسافة متر فستجد من يأتي من المجهول، ويضع مقدّمة سيارته في هذا المتر، حتى يجد له مكاناً في الطابور الطويل. مرّ زمن طويل وطويل جداً لم نر مثل هذه المشاهد. ومرّ زمنٌ آخر ولم تكن ثمّة سيارة واحدة تقف أمام محطّة البنزين، فكلّ المحطّات توقفت تقريباً من شهر عن العمل، وأغلقت أبوابها، بعد أن نضب الوقود في صهاريجها. حين كنتُ في الشمال، كان شراء ليتر سولار يشبه شراء الممنوعات، تبحث عنه في كلّ مكان من دون أن تجده، وعليك إن وجدتَه أن تشتريه بأسعار مضاعفة. أتذكّر الشاب الذي حاول بيعي سولاراً "نقياً" كما قال، بعد أن أخذه من البرميل الصغير بجوار مسجد الحارة (جامع يافا) بعد أن تم قصفُه. سرت إشاعة في الحارة عن هذه السرقة. لم أجادله في أنّ هذا سولار مسروق أو أي شيء، قلتُ له: لا أريد... قال بإصرار إنه سيقدّم لي سعراً "طرياً"، يقصد أقلّ مما يبيعه البقية. والبقية تستغلّ وهو يريد أن يستغلّ بدرجة أقلّ. أيّ كرم يا الله. رفضتُ. كنتُ أتخيّل من يسرق بشكل عام كيف يكون شعوره، وكيف يبرّر لنفسه فعلته، فما بالك من يسرق من الله. سألني: "طب إنت من وين بتجيب سولار لسيارتك". قلت له: "ما بجيب، لمّن يخلص اللي في السيارة ما راح أشتري غيره".
على جانب المحطة الآخر، هناك آلاف من المواطنين يتزاحمون للوصول إلى منطقة تعبئة الأفراد، حيث يمكن لهم تعبئة غالونات يحملونها بالبنزين أو السولار. يمكن لك أن تظنّها تظاهرة ضخمة أو معركة طاحنة. يدفع الكلّ ويحاول أن يجد له مكاناً أقرب إلى منطقة التعبئة، والكل يريد أن يحظى ببعض الوقود. تشتري الناس الوقود، حتى تتمكّن من تشغيل مواتير توليد الكهرباء الصغيرة في بيوتها، من أجل أن تضخّ الماء للخزّانات في الطوابق العلوية. مهمة إصعاد الماء إلى الخزّانات من أكثر المهام البيتية إرهاقاً في الحرب، ففي ظل انعدام الكهرباء في اليوم أو اليومين اللذين تتوفر فيهما المياه عبر خطوط البلدية أو وكالة الغوث، ينقل السكان الماء عبر الدلاء والغالونات إلى السطوح. يحملون الدلاء المليئة بالماء، ويصعدون إلى الطابق الثالث أو الرابع أو الخامس. يستغرقهم الأمر طوال النهار حتى يتمكّنوا من ضمان وجود ماء لديهم لبضعة أيام. وسيكونون محظوظين إذا استطاعوا أن يملأوا كلّ خزاناتهم. كلّ الرجال في البيت، وهم كثر الآن، لكثرة من يسكن كلّ بيت من أفراد العائلة ومن الأقارب النازحين عندهم، ينهمكون في هذه المهمة الصعبة. لذلك، انتظار الحصول على وقود، ولو طال هذا الانتظار يوما أو اثنين، أفضل بكثير من تعب حمل الدلاء والغالونات على الأكتاف والصعود طوابق عدّة. قال سائق السيارة الذي نركب معه فجأةً: لن أصطف في طابور طويل كهذا حتى أعبئ خزّان سيارتي. ماله السيرج؟ (يقصد زيت القلي). سأظل استخدمه حتى تنتهي الطوابير، وأتمكن من الذهاب بسرعة وتعبئة السيارة... قال أحد الركاب: ستنتظر كثيراً. قال: "اللي عند أهله على مهله". ثم اشتكى من أنّ التجار رفعوا سعر زجاجة "السيرج" ثلاثة ليترات من 14 شيكلاً إلى 27 شيكلاً. وعقّب بحسرة: "بعد كم من يوم يمكن تصير 30".
ثمّة ترتيبات جديدة لنقل وسام إلى مصر لاستكمال علاجها هناك. طلبوا أمس أرقام الهويّات والأوراق الثبوتية. في المرّة الماضية، رغم استكمال جميع الإجراءات، لم يتمّ الأمر في اللحظة الأخيرة. قالوا إنّ الموافقات جاءت، وبات كلّ شيء جاهزاً من أجل التحرّك، وتحرّك بعضهم، ونُقل بعض المرضى، ولم تُنقل وسام. لعل الأمر يتم هذه المرّة بشكل تام. بدا المستشفى أقل جلبةً وحركة، إذ سمحت الهدنة لكثيرين ممن نزحوا من المناطق الحدودية بالعودة إلى بيوتهم ومزارعهم لتفقدها والراحة قليلاً فيها. ناس أقلّ في الممرّات وناس أقلّ في الحدائق وفي الساحات. كان يمكن بسهولة ملاحظة الأثر الذي تركه هذا الوقت المستقطع على الزحمة والاكتظاظ في المستشفى، ما وفّر بعض الهدوء المفقود في أروقته. حتى الباعة على باب المستشفى بدوا أقلّ انشغالاً بالزبائن غير الموجودين تقريباً.
ظلّ السؤال المقلق بالنسبة لنا، بعد أن تُنقل وسام للعلاج في مصر، وتذهب معها وداد، كيف سيكون مصير الحجة والحاج اللذين جئتُ بهما من الشمال إلى هنا ليقيما معهما في الغرفة التي وفرها لها المستشفى. وهي غرفة خاصة فيها حمّام، وهذا يعطي نوعاً من الخصوصية في وضع يفتقر إلى كلّ شيء. سأل حمي عن وضعهما. لم أملك إجابة. تحدثت بعد ذلك مع الدكتور فتحي في رام الله، وهو صديق مدير المستشفى، فقال إنّه سيتدبّر الأمر. حالنا الانتقالي مقلق، ووضعنا غير المستقر يثير الرعب في نفوسنا كلّ ساعة وكلّ يوم، ومع كلّ جديد نواجهه. يواصل ياسر تبرمه وزهقه وملله، وسؤاله عن موعد مغادرتنا أيّ مكان نصل إليه لا إنترنت فيه. والإنترنت في المستشفى ضعيف، ولا يمنحه فرصة التواصل مع إخوته وأصدقائه، ولا فرصة اللعب على الجوّال. لذلك لم نُطل المكوث وغادرنا، ونحن نعد كالعادة بالعودة غدا أو بعد غد. ولأنّنا لا نعرف أين سننام، ولا أين سنكون، لم يكن من الممكن قطع موعدٍ محدّد. كانت عبارة "بنرجع" وحدها تكفي في مثل هذه الظروف. لا يوجد ما يمكن شراؤه للأكل، رغم وجود محلين للشيّ على الطريق، فكلّ شيء يتم شيّه محجوزٌ لزبائن آخرين، وإذا أردتَ، كما قال الرجل خلف النار، الانتظار ساعتين يمكن أن نجهّز لك شيئاً. وهذا الشيء من دون خبز ومن دون أي شيء آخر. فقط أجنحة دجاج مشوية أو كباب أو لحم. وأجنحة الدجاج مثلجة منذ أشهر، فيما يمكن الحصول على لحم عجل مفروم وكباب، وبالتالي غير مثلج. نظرتُ إلى ياسر شاعراً بالذنب لأنني لا أستطيع توفير غذاء له، وقلت له: سنعمل في رفح "صاجيّة" على الحطب مع عمّك إبراهيم وعمّك محمد وأبناء عمومتنا هناك. هاتفتُ إبراهيم، وطلبت منه أن يشتري لحماً وبعض الخضار لتجهيزها حتى نعمل شيئا نأكله في المساء، حين نصل. خشي إبراهيم أن يكون الوقت متأخراً لشراء ذلك، خصوصا اللحم. بعد خمس دقائق، هاتفني ليقول إنه وجد محلاً في منطقة السلطان، يمكن له أن يشتري منه اللحم. صمت وقال: "بس لحمة حبش". رددتُ: "حبش حبش، أي شيء، المهم لحم حتى يأكل ياسر". أشار ياسر إلى حبّات البندورة، وقال: يمكن لنا أن نشتري الخضار من هنا. قلت: في رفح، سيتدبّر إبراهيم كلّ شيء لا تقلق.
لم تغيّر الهدنة من واقع حياتنا شيئاً، إلا أنّها أوقفت القتل. وهذا أيضاً يكفي في الوقت الحاضر بعد الأسابيع المريرة من القتل والتشريد والترحيل
كان الناس، في الطريق من المستشفى الأوروبي إلى رفح، يصطفّون أمام محطّة تعبئة الغاز بالألاف. يصل الطابور، كما قال السائق وهو ينظر إليه، إلى أبعد من كيلو متر ونصف. كلّ شخص يضع جرّة الغاز ويقف بجوارها. يبدو صفّ جرار الغاز مشهداً مثيراً في فيلم سينمائي منسي، لا يشاهده أحد. ربما يدخل طابور الجرار الطويل موسوعة غينيس لو تم الالتفات إليه. تبدو الجرار حزينة كئيبة، فهي لم تحتو على غاز منذ أكثر من شهر. وأمام المحطّة، وبعيداً عن الطابور الطويل، يتزاحم آلافٌ آخرون يحملون جراراً صغيرة، يمكن حملها بين اليدين، يحاولون أن يشقّوا طريقهم للوصول إلى أمام الباب المغلق، من أجل أن تكون لهم الحظوة فور وصول صهاريج الغاز التي لم تصل بعد من معبر رفح.
مشهد لم أره في غزّة طوال حياتي. في بعض الفترات، خصوصا بعد حرب 2014، كانت ثمّة طوابير وانتظار على الغاز وعلى البنزين. ولكن بالمطلق لم تكن مثل هذه الطوابير لتزيد عن بضعة عشرات الأمتار. يبدو كلّ شيء الآن مؤلماً، حتى مشهد جرار الغاز الكئيبة مثل وجوه أصحابها. قال السائق هذا، وأشار إلى رجلٍ يدخّن بقلق، سينتظر إلى يوم غد حتى يأتيه الدور. سكت ثم أضاف: هذا إن جاءه الدور... معقول: قلت. قال: "أنظر، يا أستاذ، إلى الناس بالآلاف. بدهم مئات الصهاريج مش أربعة وخمسة". علّق أحد الركاب قائلاً: "طبعاً الواحد، يا إخوان، (يقصد نحن)، يسمح له بتعبئة ربع جرّته وليس الجرّة كاملة. ربع الجرة يعني ثلاثة أو أربعة كيلوات من الغاز ليس أكثر". صمت، ثم أضاف، وعلى الهوية. يقصد بعد تفقّد هويته حتى لا يجعل الرجل كل ولد من أولاده يحمل جرّة أخرى وينتظر. فقط مرّة واحدة وربع جرّة لكل واحد يحالفه الحظ ويدخل باب المحطّة المغلق في وجوه الناس. أي شيء أفضل من لا شيء. وهذه العبارة تلّخص الكثير من وجع الناس، ومن مسايرتهم الحياة حتى تمر هذه الأيام الكئيبة. أي شيء، المهم أن تستمر الحياة حتى يأتي الأفضل. الأفضل الذي لا يعرف أحد عنه شيئاً، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه يعرفه أو يستطيع أن يتحدّث عنه.
هذه هي الهدنة. لم تغيّر من واقع حياتنا شيئاً، إلا أنّها أوقفت القتل. وهذا أيضاً يكفي في الوقت الحاضر بعد الأسابيع المريرة من القتل والتشريد والترحيل، وهي فرصة لالتقاط الأنفاس، ومحاولة العثور على من فُقدوا تحت الركام. لكنها لم تغيّر شيئاً من واقعنا المرير. حتى المساعدات، كما أبلغني جمعة، لم تتحسّن، فالأسرة النازحة ما زالت تحصل على الكميات القليلة نفسها من المساعدات، من علب تونا وعلب فول وبعض الطحين وزجاجات الماء. لا شيء آخر. الحياة تريد الكثير، ولكن القليل من الحياة يكفي في هذه الأوقات.
(28 نوفمبر)
وصلتُ إلى المخيّم في رفح مبكراً، وكانت هذه فرصة من أجل أن أقابل أصدقاء كثيرين لم تمكنّي ظروف الحرب قبل ذلك من رؤيتهم والاطمئنان عليهم. توجّهت جهة البركسات في عمق المخيم، لأقابل فرج، حيث سنرى سهيل. كان فرج يقف أمام فرن الطينة الذي صنعه من أجل أن يتمكن النازحون من تجهيز خبزهم فيه. عشرات النسوة والرجال يقفزون حول الفرن، فيما سيدة منهمّة بلقم فوهة الفرن السفلية بقطع الخشب والكرتون، حتى يظلّ مشتعلاً، وسيدة أخرى تجلس قبالة فوّهة الفرن الأمامية تضع الأرغفة المعجونة على بلاطة الفرن الداخلية، ثم تحرّكها بسيخ حديدي معقوف من طرفه. وبعد لحظاتٍ، تُخرج الأرغفة الساخنة المنفوخة من شدّة الحرارة. كان انتفاخ الرغيف يعني بداية نضوجه، وكان فرصة حتى تحرّكه من أسفل بطرف السيخ الحديدي المعقوف، إذ تحرّكه من جهة وتحرّكه من جهة أخرى، ما يطبع أسفله علامة تشبه علامة الصليب في تقليدٍ فلسطينيٍّ قديم جداً. ثمّة في أعلى الفرن فوّهة يخرج منها اللهب صاعداً من أسفل، تشيع حرارة عالية حولها. سطح الفرن أيضاً ساخن بشكل كبير، ما يتيح لبعضهم استغلاله من خلال وضع صواني طعام عليها أو طناجر فيها لحوم أو خضار، من أجل أن تنضج. تقترب المرأة الشابّة، بين فترة وأخرى، من الصينية، وترفع غطاءها وتحرّكها بغصن شجرة ناشف، ثم تعاود وضع الغطاء حتى تنضج قبل أن تحملها بقطعتي قماش وتعود إلى الخيمة مبتهجةً لتبهج الآخرين بالطعام الشهي. ثم ستضع سيدة أخرى صينيتها وتبدأ عملية الانتظار.
تنتهي السيدتان من خبز أرغفتهما، وتقومان، فتجلس مكانهما سيدتان أخريان، واحدة خلف فم الفرن، والأخرى قبالة فوّهة النار السفلية. أول شيء تعمله السيدة قبالة فم الفرن، تتناول قطعة قماش مبلّلة بالماء، تضعها على طرف سيخ الحديد المعقوف، وتبدأ مسح بلاطة الفرن في تقليد أنّ هذا خبز جديد لعائلة مختلفة عن سابقتها. وتقاليد الخبز متوارثة، وتعكس ثقافة وفهماً عابرين للزمن في الماضي، كما سيعبر في المستقبل. كان فرن أم غالية في الحارة أحد أهم ركائزها، وكان إشعال مجموعة من نسوة الحارة الفرن في كلّ صباح، يتناوبْن عليه أسبوعياً، طقساً أعرفه وعشته، وشاركت فيه، وما زال جزءاً من تيّار الذاكرة الذي لا يتوقّف عن السير.
يسكن في هذه الخيمة فلان، وهذه تسكن فيها عائلة فلان. حياة جديدة تتشكّل وعالم آخر يتكوّن
كان الجندي في مرّات كثيرة يدخل غرفة الفرن الصفيحية عنوة، ويسرق أرغفتنا ويوزّعها على الجنود. وكانت هناك المخابز الأكبر التي كان صاحب المخبز فيها يقف في هوّة عميقة أمام فوّهة الفرن الواسعة التي تضطرم فيها النيران، ويتناول الأرغفة على حامل خشبي، ويضعها في جوف الفرن. وكنا نصطفّ في طابور على يمينه، يحمل كل منا "فرش" العجين ننتظر دورنا. وذلك كله مقابل مبلغ زهيد. وبين فترة وأخرى، كان يلقم الفرن بحطب الحمضيات والزيتون، حتى يواصل اشتعاله.
كانت بنتا سهيل تنتظران دورهما في الحلقة حول الفرن. الصبيتان اللتان لم تستعملا الفرن قبل ذلك أو تخبزان فيه. ربّما رأتاه في التلفاز، أو مرتا بجواره في منطقة ريفية مجاورة، لكنهما لم تخبزا فيه. كانت تلك أول مرّة لهما. دائماً هناك أول مرّة، ودائماً تبدو صعبة، وربما مستحيلة. كانتا تتجهّزان لخوض التجربة. ابتسمتُ، وأنا أقول لهما "فرصة لتتعلما شيئاً جديداً". ... كانت ابنته المحامية تنظر إلى فوّهة اللهب الصاعدة من فوق الفرن، وتقول: "مش ضروري الجديد يكون الخبز". لا أحد يعرف ما هو الضروري وما هو غير الضروري. ابتسمتُ، وقلت: "كانت جدّتكما تخبز في فرن مشابه". كأن الزمن لا يتحرّك وكأننا في المكان نفسه، وفي اللحظة نفسها. مشهد شارع المخيم الجديد الذي تصطفّ البركسات شماله والخيام جنوبه مزدحم كالعادة، والناس تذهب وتجيء في تواصلٍ لا ينقطع، ويمكن ملاحظة مزيد من الباعة كل يوم. فالمرأة العجوز التي كانت تحضر العوّامة في الشارع جهزت لها شيئاً يشبه الدكان، وصارت تعمل داخله. بدأت محال الفلافل العشوائية تأخذ أشكالاً أكثر انتظاماً، والناس سرعان ما تضطرّ للتكيّف، لأنها لا تملك أي خيار آخر، ولأنها تريد أن تعيش، وتواصل البحث عن الأفضل، والأفضل الآن أن تمرّ تلك اللحظات العصيبة التي يعيشونها.
سرنا، أنا وسهيل، في الشارع نتمشّى. كان يسير بوهن، وهو يتكئ على عكازه الخشبي. زادت ذقنه البيضاء، التي طالت، وجهه الجميل وقاراً، خطواته الضعيفة التي تحمل سني عمره التي فاقت الستين. قلت له: من مخيّم إلى مخيّم... وكنت أقصد أنّنا انتقلنا من العيش في مخيم للاجئين إلى مخيم آخر للاجئين. قصتنا لا تنتهي. حالات مؤقتة مستمرّة من دون توقف. قال: "بس تظل على قد هيك". حدثني عن توقيفه لحظة عبوره من الشمال إلى الجنوب. حاول الضابط الشاب، الذي ربّما لم يكن ولدا حين اعتقال سهيل أول مرّة، استفزازه أكثر من مرّة ببعض الأسئلة من الماضي وعن الحاضر. إلى قرابة ست ساعات، ظلّ سهيل صامتاً لا يجيب بأكثر من نعم أو لا أو هزّة رأس. ابتسمتُ وأنا أقول: كأنّنا نعيش في الماضي. قال: الماضي لم يذهب. أشار إلى بعض الخيام، وأخذ يُخبرني من يسكن فيها. يسكن في هذه الخيمة فلان، وهذه تسكن فيها عائلة فلان. حياة جديدة تتشكّل وعالم آخر يتكوّن. متى سينتهى كل هذا الكابوس؟ لا أعرف، ولا هو يعرف، ولا أحد يعرف. حين بدأت حرب العام 2014 كنتُ أجلس، أنا وسهيل، رفقة آخرين من أصدقائنا، أمام محل الحلاقة في بيت صديقنا أبو أنس. وقتها دار بيننا حوار شبيه لما يدور بيننا الآن. عن المستقبل وعن الماضي الذي يواصل النزف في حاضرنا.
الناس لن تتحمّل المزيد من المطر، فالشوارع الطينية والوحول سيزيدان حياة الناس بؤساً ويحوّلانها إلى جحيم مستعر
حين أفاق ياسر، اقترح أن نهبّ لزيارة عمته عيشة. اشتاق لها وللأطفال. مرّ زمن لم نرهم، خصوصًا أننا عشنا معهم أياماً طويلة في هذه الحرب الفتّاكة. كانت عيشة قد هاتفتني ليلة أمس، واشتكت من أنّها لم يكن يجب أن تغادر. قلت لها إنّ جزءاً كبيراً من سبب موافقتي على القدوم إلى هنا خروجها في آخر ليلة مع أطفالها وزوجها، حين دخل الموت بيتهم، وفتكت القذائف ببعض محتوياته. هي من طلبت أن نغادر. صمتت، وقال إنّها تعرف ذلك، ولكنها الآن تندم، وأنها تريد أن تعود إلى الشمال. تعرف أن هذا مستحيل، لكنها تعبّر عن رغبة وأمنية. قالت إنها غير مرتاحة بالمطلق، وتمضي وقتاً طويلاً تبكي وتتندم. رغم أنّها تعيش في شقة مع سلفاتها وعائلة زوجها، إلا أنها تفتقد أساسيات الحياة. قلت: في الحرب، لا أساسيات، كلّ شيء ضروريات، والذي نبحث عنه هو الضروريات. ثم علقتُ: من منّا مرتاح في الحرب. كلنا نعاني. قالت: في بيتي أكون مرتاحة رغم كلّ شيء، أشعر بالراحة رغم كلّ الظروف. أريد أن أكون في بيتي. قلتُ: حين تنتهي الحرب. يقولون هناك هدنة غدا. ردّت مثل ما يردّ كل شخصٍ مثلنا اضطر للنزوح: أنا لا أريد هدنة، أريد أن تتوقف الحرب. والسؤال ليس ماذا نريد ولا ما هو الصواب أو الحكمة، بل السؤال من يريد ذلك كلّه. ثمّة جيش يريد لنا أن نفنى ونعاني حتى نزول.
لم نعرف أخبارًا كثيرة، فالإنترنت لم يكن متوّفراً الليلة الماضية، وشبكة الهاتف توقّفت أيضاً عند الثامنة. كانت الأخبار الأولية تتحدّث عن جهود لتمديد الهدنة يوميْن آخرين. وكان حديث عن نجاح هذه الجهود. لكننا نمنا ونحن لا نعرف إن تم ذلك أم لا. أول ما خطر على بالي حين أفقت أن أسال إذا ما كانت الهدنة تمّ تمديدها أم لا. الكل نائم وأنا أفكّر في الهدنة وأفكّر في الأيام المقبلة، وفي الوقت الذي يجب أن أقضيه، وأنا أتعاقد مع الحياة يوماً بعد آخر. عقْد يومي يتجدّد صباح كل يوم، لا يوجد عقد طويل الأمد. كم من الوقت يجب أن يمضي حتى يزول ذلك كله. يبدو الجو كئيباً، وأنا أغفو تحت اللحاف الأصفر المزيّن ببعض الورود. كل شيء نائم، إلا رغبتنا وأمنياتنا بأن يزول هذا الكابوس.
نزل المطر، وأنا أحاول أن أعود إلى النوم. كالعادة أن أقنع نفسي بأن أنام قليلاً. صوت ضرباته فوق سطح الخيمة التي نمتُ فيها ليلتي الثانية، ونقره على جدار الخيمة الأمامية والجدار الجانبي المصنوعين من النايلون، كلّها تثير في الذاكرة حنيناً لطفولة غائرة، حين كانت بيوت المخيم كلّها من الصفيح، وكنّا نسمع نقر المطر مثل لحن قديم لا يتذكّره كثيرون، لكنه محفور عميقاً في دهاليز وعيهم وماضيهم. كنتُ أنظر إلى الرمل الأصفر وهو يمتصّ قطرات الماء، وإلى الغيم الكثيف الذي يحمل مطرا كثيرًا ربّما، وأقول لعله يتراجع فجأة، فالناس لن تتحمّل المزيد منه، فالشوارع الطينية والوحول سيزيدان حياة الناس بؤساً ويحوّلانها إلى جحيم مستعر. تتمايل شجرات الزيتون الفتية وهي تقاوم الريح البارد. بعد نصف ساعة، سيصفو الجوّ قليلاً، ستظلّ الغيوم تمسك السماء بشكل كامل، وتلفها بكثير من الكآبة، ثم سينهض محمّد وجمعة ويبدآن مهمة إيقاد النار. حيث توجد الخيام توجد النيران. بدأ الدخان يتصاعد من أكثر من مكان في النواحي حولنا. ثم جيئ بكأس الشاي الساخن. كان الشاي مشبعاً برائحة النار. لم أستطع أن أقاوم الدعوة للجلوس مع الآخرين حول موقد النار طلباً للدفء. أخذتُ أضع يديّ في النار أطول فترة ممكنة ثم أسحبها حين أشعر بقرب احتراقها. حمّصنا الخبز، ثم تناولنا الخبز والزعتر والفلفل الأحمر كفطور لذيذ مع كأس الشاي الساخن. غزّة مغرمة بالفلفل الأحمر المخروط. كنّا في المدرسة نحشوه في الخبز، ويصير ساندويشاً. وأحد أبرز ما يُعرف عن غزّة في فلسطين حبّها الفلفل، فيقال "غزّاوي يا فلفل"، وهذا يعني أنه حارّ جدّاً جدّاً. كان حضور صحن الفلفل بجوار صحن الزعتر جزءاً من تقليد قديم، رغم أنه في لحظتنا هذه يعكس قلّة ما نملك، وقلّة ما يتوفر لنا لنأكله. ولا يهم ما لديك من فلوس، أو كم تملك، فما هو موجود في السوق قليل ولا يكفي، وليس ذا جودة على كلّ حال. حتى الزعتر بدا مخلوطاً بكثير من البهارات والأشياء المطحونة الأخرى التي ليست زعتراً. قلتُ: يبدو أنه مخلوط بملوخية ناشفة... لم يكن هذا مزحة فطعمُه يقول ذلك.
النظام نفسه الذي كان سائداً عند نشوء المخيم في مطلع خمسينيات القرن الماضي بعد النكبة. صور الماضي جزء من الفيلم الذي نعيشه في الحاضر. كأن الزمن لا يتغيّر
اليوم يوم هدنة آخر. نجحت جهود الوسطاء في تمديد الهدنة. هذا مفرح بحدّ ذاته، رغم أنه أيضاً يعني استمرار الوضع على ما هو عليه، يعني أننا سنظل حيث نحن، ولن نعود إلى الشمال. حتى المساعدات لم تزد على الناس، وظلت في مستواها نفسه. وفي الصباح، ينطلق الجميع إلى مراكز التوزيع ليحصلوا على حصتهم ومخصّصهم من علب التونا والفول وبعض البقوليات، أمّا الطحين فلتوزيعه نظام مختلف في مركز وكالة الغوث، وتحصل عليه وفق عدد "الأنفار" أو النفوس المسجّلة في كرت التموين أو الهوية. النظام نفسه الذي كان سائداً عند نشوء المخيّم في مطلع خمسينيات القرن الماضي بعد النكبة. صور الماضي جزء من الفيلم الذي نعيشه في الحاضر. كأن الزمن لا يتغيّر.
هاتفتني أختي أسماء، وكنت لم أرها ولم أسمع صوتها منذ تلك الليلة القاسية التي نمتها في بيتها في حارة الفالوجا في المخيّم، حين كانت القذائف تتطاير أمام النافذة وتتساقط حول المنزل. بدت فرحةً أنّ الهدنة تمّ تمديدها. قلت لها: لكن الحرب لم تنته... قالت: "هدنة ورا هدنة بتخلص الحرب"... كان تفاؤلها يشبه سطوع الشمس الآن وسط الغيوم، قادراً فعلاً على إشاعة الدفء والطمأنينة، رغم أنّ كلّ شيء حولنا لا يساعد على ذلك. أخبرتني أنّ سِلفها أصيب بشظيّة، وأنّ حالته حرجة جداً. كان متمدّداً على فراشه، حين سقطت عليه الشظية من مكان بعيد. "ربّنا يشفيه" قلت. سُعدت بسماع ضحكات بناتها الخمس وأصواتهن، وهن يستقبلن نهاراً آخر في حياتهن التي شهدن فيها حرباً كبيرة، حرباً عليهن أن يعشن حتى يروين ما شاهدن فيها. أسماء فرحة، ولا تفكر الآن بهذه الفرحة أنّها ما زالت حية، وأنها تتحدث معي، وأنها كما قالت ستتصل ببقية العائلة للسؤال عنهم.
سرتُ في المخيّم. كانت الشمس تقاوم حتى تسطع وتخترق الغيم الكثيف، وكان حضورها مبهجاً رغم البرد الخفيف الذي يلسع أطرافنا. الحياة تبدأ في النواحي، والناس يفيقون ويبدأون حياة النزوح الجديدة. النيران، رائحة الصباح المفضلة، والشاي الذي يفوح من الغلايات والأباريق فوقها يقول إن ما يجري عادي جداً، شيء من طقوس الصباح. الصبية يلعبون الكرة في شارع ترابي مجاور بين الخيام. صوت فرحهم وبهجتهم وهم يتقاذفون الكرة ويجرون خلفها يثير فرحة عارمة في النفس. سيّدة تحمل طفلة، وتسير بها وتدخل خيمة أخرى. أسمعها وهي تقول لامرأة أخرى "البنت ما نامت من صدرها". أبتسم، لا بد أن تكون هذه امرأة عجوز خبيرة ومجرّبة في الحياة. طبيبة برزت الحاجة لها في اللحظات القاسية تلك.