يوميّات الحرب في غزّة (15)

29 نوفمبر 2023
أفراد من عائلة فلسطينية تحت أنقاض منزلهم في خان يونس جنوبي قطاع غزّة (Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(25 نوفمبر)

ركبنا في سيارة شحنٍ صغيرة أخذتنا من الحيّ السعودي إلى وسط البلد. كنّا نتكدّس في العربة أكثر من 20 شخصاً. جلستُ على الدكّة الحديدية فوق إطار العجلة أضع حقيبتي الصغيرة بين ساقي. كنت أقعي مُحاطاً بسيقان الركّاب، فيما الشمس تذهب وتجيء من بين الأجساد المتمايلة يميناً وشمالاً كلّما تحرّكت السيارة بوهن في الطريق المزدحم بالمارّة. انشغلت بعدّ السيقان. وصلتُ إلى الرقم 42 ثمّ قفزت العربة عن مطبٍّ صغير، فتمايلنا بعنف، وكاد بعضُنا يقع. تذكّرت سائقنا في رحلة الخروج من الشمال إلى الجنوب (أبا خيزران)، وهو يستغلّ الركّاب، ويجبرهم على النزول في أماكن لم يطلبوها. كان سائقنا، بين فترة وأخرى، يقف ويُدخل المزيد من الركّاب. كان على شاب أصلع أن يصرُخ به، في نهاية المطاف، أنّه لم يعد هناك متّسع لأي راكب جديد. ... "خوذوا بعض"، قال بقليل من الرجاء. "وين نوخذ بعض، تعال أنت مكاني وأنا بسوق وخوذ بعضك معهم". ابتسم الشابّ ابتسامة صفراء، حين اقتنع السائق وعاد إلى كرسي القيادة، وانطلقنا مرّة أخرى. استغرقت الطريق قرابة العشرين دقيقة، حتى وصلنا إلى مشارف وسط البلد، وبدأ بعضنا يقفز. وفي كلّ مرّة ينزل راكبٌ نتوقف، حتى يأخذ السائق الأجرة منه. في النهاية، وصلنا إلى أقرب نقطة إلى ميدان العودة، حيث سنقفز، ياسر وأنا، ليبدأ نهارنا الجديد خارج رفح.

كانت المدينة شبه الصحراوية تمارس، في الطريق، يومها بكثير من التعب، فكلّ من فيها متعبٌ مرهقٌ من وطأة الحرب، ومن شدّة (وقسوة) الواقع الذي أحدثته وخلّفته. اليوم هو يوم الهدنة الأول، والدنيا تبدو بشكل مختلف، لكنّ أحداً لا يعرف كيف ستكون مختلفة، ولا كيف سيؤثّر هذا في إيقاع حياتهم. ومع ذلك، بسهولة يمكن التعرّف إلى مزاج الناس الذي بدا مختلفاً قليلاً. كانت أسماء المحالّ التجارية والسوبرماركتات ومآذن المساجد وما بقي من البنايات العالية تطلّ من بين رؤوس الواقفين في السيارة، تشير بضعفٍ إلى تلك العلامات الفارقة في شكل المدينة. وكنتُ أفكّر، وأنا أنظُر إلى الحقيبة بين ساقيّ، في كلّ معالم غزّة التي ذهبت مع الحرب، وتحوّلت إلى شيءٍ من الذكريات التي تُستعاد، والتفاصيل التي تعصف بالألم.

تحدّثتُ في حرب 2014 بمرارة عن المجمّع الإيطالي وعن برج الباشا وعن الغاليري وعن أشياء كثيرة. الصور الوافدة الآن من غزّة تكشف حجم الدمار الذي أصاب نصب الجندي المجهول الذي تحوّل إلى ساحة من التراب والحجارة. قلبَ الجيش الأرض قلباً، ولم يُبق فيها على شيء. لم يعد هناك جندي ولم يعد شيء مجهولاً. كل شيء تدمّر. انهار كثير من معالم غزّة وذهب بين أكوام الدمار. كنتُ أتخيّل كيف للمرء أن يمشي في مدينةٍ يعرف أنه يعرفها ولم يعد يعرفها، ويعرف أنها أيضاً في أي حرب مقبلة قد تتبدّل وتتحوّل وتتغير. الحرب عدوّة المدن. كلّ شيء لا يعود هو ذاته، حتى الناس. كل حربٍ ترهق الذاكرة بمزيدٍ من المشاهد وبكثير من الفقد وبوجع الحنين. أتذكّر كيف كنت أمرُّ من المدينة في يوم، وفي التالي تختفي تلك المعالم التي كنت أنظر إليها في السابق. المدينة في تحوّل دائم، وتجري فوق جسدها عملياتُ تبشيعٍ تقوم بها ماكينة الحرب القاسية. يستمرّ هذا الألم ويتواصل هذا الوجع، وعمليات التشويه في جسد المكان لا تنقطع. ثمّة الآن وقت للتنفس أربعة أيام بعد دخول التهدئة حيّز التنفيذ.

الصورة
فلسطينيون يعبرون من شمال غزّة إلى جنوبها خوفاً من تجدّد القتال بعد الهدنة في 27/ 11/ 2023 (الأناضول)
فلسطينيون يعبرون من شمال غزّة إلى جنوبها خوفاً من تجدّد القتال بعد الهدنة (الأناضول)

أوّل ما عمله كثيرون هو التفكير في العودة إلى غزّة والشمال، بيد أنّ الجيش أطلق النار على كلّ من حاول الوصول إلى المنطقة الفاصلة بينهما. رأيتُ عشراتٍ يحزمون حقائبهم في الصباح ويتّجهون شمالاً، علهم يتمكّنون من رؤية منازلهم وممتلكاتهم، ويطمئنون عليها، ويعرفون ما أصابها أو حجم الضرر الذي وقع عليها. لكن بلا فائدة، فالجيش يطلق النار عليهم، ورأيتهم يعودون قرابة الساعة العاشرة خائبين، مفزوعين من ردّة فعل الجيش وعنفه بحقّهم. تحدّثت أنباء عن استشهاد اثنين من العائدين. تسمح شروط الهدنة بالخروج من الشمال، وليس بالعودة إليه، وهذا إجحافٌ وخللٌ لا يمكن التفكير فيهما. ظلّ الناس يفكّرون في بيوتهم ويحاولون الاتصال بمن بقي هناك من أجل الاطمئنان عليهم. لكن مع انقطاع الاتصالات بشكل كامل في غزّة وشمالها تعذّر عليهم ذلك. حاولتُ عشرات المرّات أن أتواصل مع من يحمل إليّ خبراً عن والدي وعن أختي أسماء، لكن بلا فائدة. لا يوجد تليفون واحد يعمل هناك. حاولت هناء والأولاد، من رام الله، الاتصال أيضاً من دون فائدة. أردتُ أن أعرف ماذا حصل في شقّتي في منطقة الصفطاوي. لم نتمكّن من التواصل مع أي شخص ما زال هناك. بعد الظهر، شاهد مصطفى فيديو لشارع البحر في منطقتنا، تظهر في لقطة سريعة منه البناية التي نسكُن فيها. كان يمكن بسهولة التعرّف إليها من لونها البرتقالي. كان هذا كافياً حتى يقول إنّ البناية لم تسقُط وما زالت قائمة. وهذا كافٍ حتى اللحظة. بدا الشارع الواسع الواصل بين المخيّم والبحر أوسع بكثير بعد أن هدمت الجرافات كلّ الفلل والبنايات على الجهة الشمالية للشارع. وكانت صور الكثبان الرملية وأكوام الدمار تنشئ مشهداً مختلفاً غير الذي كنّا نعيشه.

معالم غزّة ذهبت مع الحرب، وتحوّلت إلى شيءٍ من الذكريات التي تُستعاد، والتفاصيل التي تعصف بالألم

كانت تلك المنطقة برمتها، في السابق، غابة حرجية صغيرة، كنت أشير إليها في رواياتي بـ"حقل الشوك"، لشدّة ما كان يخزني الشوك، وأنا أسير فيها في طريقي إلى البحر. وكنتُ أتخيّل أنّ كلّ تلك المنطقة الحرجية حقلٌ ممتدٌّ من الشوك. بعد قدوم السلطة، تحوّلت إلى مناطق سكنية، لتستوعب الزيادة المضطردة في عدد السكان، وفي الحرب تحوّلت إلى سوافي من الرمال وأكوام من الدمار. هذه التحوّلات هي ما يؤذي الذاكرة. حتى شجرة الجمّيز الذي كنتُ أشعر حين أمرّ بجوارها بالأمان، وأنا أقطع الطريق يومياً من بيتي إلى المخيّم خلال عدوان 2014، لم تعد موجودة. كلّ شيء أكلته الحرب، وكلّ شيء التهمته الزنّانة التي لم تكتف بأن تأكل معنا بل أكلتنا. قلت لهناء: أهم شيء أن يكون لنا بيوتٌ بعد الحرب. مئات الآلاف لن يجدوا بيوتهم، ولن يجدوا مكاناً يقيهم البرد ولا الحر بعد ذلك. يتغيّر كلّ شيء، ونظلّ ننزف، وتظل ذاكرتنا وحدها تنزف وتتوجّع مثلنا.

روائح زيت القلي (السيرج) الذي تستخدمه السيارات يملأ المكان، ويحيل المدينة كلّها إلى مقلاة كبيرة، فأنت تسيرُ في قلب المقلاة، وهي تغلى وتغطّيك بروائحها المرهقة. سرتُ في وسط البلد (رفح) قليلاً أنا وياسر. جلستُ أنتظر أخي إبراهيم. جلسنا على الرصيف في كراج المدينة، حيث كانت السيارات تنقل الناس من أقصى الجنوب إلى كلّ مكانٍ شماله. على بعد أمتار، مقرّ جمعية المتحدين الثقافية، حيث كنت قبل شهرين تقريباً أحضر حفل تخريج فوج من الكتّاب والكاتبات الشابّات ضمن تدخلات الوزارة في دعم المبادرة الثقافية. أغمضتُ عينيّ لا أريد أن أستعيد كلّ تلك الذكريات. الذكرياتُ مؤلمةٌ في مثل هذه اللحظات. سمعتُ صوت مدير المؤسّسة حاتم، وهو يلقي كلمته، وسمعت صوت سماح، الكاتبة الشابة ومدرّبة الكتابة أيضاً. شاهدتُ كلّ شيء، وسمعت كلّ شيء، وأخذت ذاكرتي تنزف بصخبٍ، تجري فيها الأحداث وتوجعني مثل كُرات اللهب. قمتُ. هربتُ. سِرت مع ياسر حتى جاء إبراهيم.

الصورة
فلسطينيون يتسوّقون في اليوم الرابع من الهدنة في مدينة غزّة في 27/ 11/ 2023 (فرانس برس)
فلسطينيون يتسوّقون في اليوم الرابع من الهدنة في غزّة (فرانس برس)

أخذنا السيارة إلى المستشفى الأوروبي لزيارة وسام والبقية. بدت الطريق طويلة وطويلة جدّاً. يتذمّر السائق من أنّ البائعين رفعوا سعر زيت القلي، بعد أن بات السائقون يستخدمونه بدل البنزين لتشغيل سياراتهم. في الطرق، كانت محطّة بنزين تصطفّ أمامها مئات السيارات في انتظار وصول الوقود من مصر وفق اتفاق الهدنة. وفي مكان آخر، كان المئات يحملون جرار الغاز، ويصطفّون في انتظار وصول غاز الطهو. وكان السائق يقول لنا إن ما سيدخُل غير كافٍ، ولن يغيّر من الأمر شيئا، فغزّة بحاجةٍ إلى سنواتٍ لعودة الحياة إلى طبيعتها الأولى.

تسمح شروط الهدنة بالخروج من الشمال، وليس بالعودة إليه، وهذا إجحافٌ وخللٌ لا يمكن التفكير فيهما

بدأ المستشفى يكتظّ بصورة كبيرة. أسرّة في الممرّ الذي تقع فيه غرفة وسام، ما لم يكن سابقاً. أسرّة كثيرة جُلبَت من أجل وضع المصابين الجدد، وكلّ مصاب مع عائلته، وبالتالي، تقيم في الممرّات عائلات كاملة. أخذوا السرير الذي نجحتُ في تأمينه، حتى تنام الحاجّة عليه، بعد أن لاحظوا أنها تنام على فرشةٍ على الأرض، فيما يستخدم حماي السرير. تنام مريضةٌ عليه في الممرّ مقابل غرفة وسام. لم يملك حماي أن يعارض الممرّضة، وأعطاها السرير، بعد أن شاهد المريضة تتأوّه، بعد إجراء العملية لها. بالكاد، يستطيع المرء أن يضع قدمه في الممرّ. وضع مؤلم واستعادات مؤلمة لما كان يجري في مستشفى الشفاء.

وقفتُ قليلاً واضعاً رأسي على الجدار قرب باب الممرّ وأنا أفكّر في الأيام الكثيرة التي أمضيتُها أمشي بين ممرّات الشفاء، حتى أصل إلى الممرّ الذي تقع فيه غرفة وسام. تذكّرتُ كلّ تلك الوجوه التي كنتُ أراها كلّ صباح وكلّ مساء. تذكّرتُ السيدة التي كانت كلّ صباح تُجلس أطفالها حولها في مدخل الطابق الثاني جراحة، وتمسح الأرغفة الصغيرة لهم بالشوكولاتة، وتنتظر أن يغلي الشاي في الإبريق الذي تضعه على الغاز الكهربي الصغير. تذكّرتُ تلك الشابة التي تلفّ نفسها طوال الوقت بالبطّانية، وتواصل النظر إلى الأسفل، كأنه يعزّ عليها أن يراها أحدٌ في هذا الوضع. أطفالُها الثلاثة حولها مثل فراخٍ صغيرةٍ قلقة، والرجل السبعيني الذي لم أرَه أكثر من 30 يوماً إلا جالساً على الكرسي، وعكّازه بين ساقيه، يسند عليه ذقنه ويفكّر. فقط يجيب على تحيّتي "صباح الخير يا حج" أو "مساء الخير يا حج". تذكّرت الأطفال الذين رأيتهم يرسمون في الممرّ، وتذكّرت متعة مشاهدتهم ومشاهدة لوحاتهم، متعة أجمل من أن تشاهد كلّ فناني البشرية يرسمون. تذكّرتُ الفرح الذي عمّ الممرّ حين تمكّن جميع الشبّان من الحلاقة في الحمام الصغير الذي بات مخصّصاً للرجال وطوابير الوقوف في انتظار الحمّام. تذكرت كلّ ذلك الألم الذي كان يُصاحب صراخ الفتاة الصغيرة التي أصيبت، ثم اضطرّوا إلى عمل عملية استئصال "الزائدة"، والتهب الجرح، ولم يعد هناك مسكّن ولا مخدّر. تذكّرت صراخها الذي ظلّ يدوّي في ذاكرتي حتى اللحظة. الآن، وأنا أقف أريد أن أفصل بشكل كامل الماضي عن الحاضر، أن أسلخ نفسي عن كل ما مررتُ به، وأن أقتنع بأنّ ما يجري مجرّد أمر طارئ، وأن ما أراه أول مرّة أراه، وأن كل ما يحدُث يحدُث للمرّة الأولى. مسحتُ جبيني كمن يطرُد طيف الذاكرة، وواصلت السير في الممرّ. بدت وجوه الممرّضات أكثر إرهاقاً، بعد أن بات عليهنّ معالجة عددٍ مضاعفٍ من المرضى، وبعد أن صار المكان يضيق عليهنّ أكثر كلّ يوم. المزيد من المصابين يصلون كلّ صباح وكلّ مساء.

الصورة
 فلسطينية تتفقّد الدمار في قرية خزاعة شرق خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة في 27/ 11/ 2023 (فرانس برس
فلسطينية تتفقّد الدمار في قرية خزّاعة شرق خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة (فرانس برس)

جلستُ في ممرّ الإدارة أكتب على اللابتوب. بعد ساعةٍ، جاء شابّان واضح أنهما من الشرطة. قبل أن يسأل: قلتُ: "تعال شوف شو بكتب". ابتسم الشاب الآخر، وقال: "هذا تبع الثقافة". فردّ الأول: "وقت حرب مش وقت ثقافة". قلتُ: الثقافة دائماً مهمّة. هزّ رأسه، وواصل طريقه إلى نهاية الممرّ. كان يبدو في طريقه إلى أمر آخر فاستوقفه المشهد. في طريق عودته بعد عشر دقائق، هزّ رأسه لي، وابتسم نوعاً من التحيّة. تسمع، في ممر الإدارة، قصصاً كثيرة، وترى الكثير من معاناة الناس، وهم يحاولون أن يسترحموا الإدارة من أجل عنايةٍ أكثر بمرضاهم. ولكن الإدارة، بسبب الاكتظاظ وقلّة الموارد، تبذُل جهداً كبيراً من أجل الحفاظ على المستشفى وعلى تشغيله.

يظلّ القلق ينهشنا على من نحب، ونظلّ نفكّر أنهم لا بد أن يكونوا بخير، حتى نكون بخير، وأن سلامتنا منقوصة من دون سلامة الجميع

خلال اليومين الأخيرين، وصل أكثر من مائة مصاب ممن كانوا يتعالجون في المستشفى الإندونيسي في الشمال، وصاروا يتلقّون علاجهم هنا. أحدث هذا اكتظاظاً كبيراً، وضغطاً على موارد المستشفى الطبية والخدمية بشكل عام. في طريقي خارج المستشفى، كانت سيارات إسعاف تزعق من الطريق العام في طريقها إلى بوّابة المستشفى. عددتُ ثمانيةً منها. كان في داخلها، كما سمعت من الناس، مصابون تمّ إخلاؤهم من الشمال. صار المرء، الآن، إذا أصيب في جباليا يُنقَل إلى شرق خانيونس، ليتلقى العلاج بعد أن تم عملياً خروج كلّ مستشفيات غزّة وشمالها عن الخدمة. صار على الإسعاف قطع مسافة طويلة، من أجل إنقاذ الحالة.

وصلنا إلى شارع جلال في خانيونس. المواصلات الوحيدة المتوافرة باتجاه مستشفى ناصر، حيث سيقابل ياسر أحد أصدقائه، خالد، الذي يسكن في بنايتنا، عبر الحمار. نظرتُ إلى ياسر، ففهم السؤال، وقال سريعاً: "بنمشي". ومشينا قرابة 40 دقيقة. لم يصل خالد، انتظرنا قليلاً. قابلتُ فاتنة الغرّة وسائد السويركي في خيمة الصحافيين، وكانت تلك مناسبة للحديث والدردشة في قضايا عديدة. بعد فترةٍ، وصل خالد الذي نزح مع عائلته قبل شهر تقريباً. تمشّى هو وياسر قليلاً.

في الصباح أيضاً، جاء خالد وخرج هو وياسر وتمشّيا. جلست مع مأمون وأحمد نتحدّث ونشرب الشاي. بعد أن عاد ياسر، اقترحت أن نذهب لزيارة أختي سماح التي تقيم في مدرسة قرب مدينة حمد.

اليوم الخمسون للحرب. أيّ رقم هذا؟ قبل فترة، كان اليوم الخامس ثم الخامس عشر والآن الخمسون. حربٌ تستمرُّ وتستمر. فقط، أقول لنفسي: لعلها لا تكون حرباً أوكرانية جديدة تبدأ ولا أحد يعرف متى ستنتهي.

(26 نوفمبر)

هل ستُمدَّد الهدنة؟ الكلّ يريدون المزيد من الهدنة. يريدون أي شيء قد يقود، في نهاية المطاف، إلى انتهاء الحرب. "ريحة البرّ ولا عدمه". أيّ شيء أفضل من لا شيء. صحيحٌ أن لا أحد يتحدّث عن الناس، عن عذاباتهم، عمّا فقدوه وعن آلامهم وهم يستذكرون من ذهبوا ضحية الآلة المُفترسة، ولا أحد يقول لهم شيئاً، فالكل يتحدّث عن الحرب والهدنة، وعن الانتصار والهزيمة. أما من دفعوا ثمن ذلك كلّه، فهم منسيّون خلف ضجيج التصريحات ومقولات الساسة. هل حقّاً ستُمدَّد الهدنة؟ اليوم هو الثالث، ولم يبق إلا يومٌ آخر، والجهود الدبلوماسية تتحدث عن إمكانية التمديد يومًا أو يومين. وهذا خبرٌ مفرح للجميع، رغم كلّ الغصّة والألم الذي نشعر به من عجزنا عن العودة إلى الشمال وعن تفقد بيوتنا أو عن معرفة أي شيء عنها، لأنّ الدبّابات ما زالت تحجُب عنّا ما لنا، وتأكل الشوارع والمباني وتدوسها.

حتى اللحظة، لا يوجد هواتف في الشمال وغزّة، ولا هواتف محمولة، ولكن شبكة الإنترنت العادية رجعت إلى الخدمة بشكل ضعيف، وهو ما مكّن بعضهم من بثّ مزيد من الصور والفيديوهات عن حجم الدمار الذي حدث في الخمسين يوماً الماضية، ومكّن أيضاً من وجود بعض التواصل والسؤال عن الأهل. تمكّن أخي إبراهيم من التواصل مع عماد، أحد أقربائنا الذي يعمل صحافياً، والذي ظلّ في المخيّم، وسأله عن والدي، فطمأنه إلى أن والدي وزوجته وأختي أمينة بخير، وأنّهم يقيمون في شقة أمينة في العمارة على الشارع. لا أخبار عن أسماء، فلا أحد يمكن التواصل معها في منطقة الفالوجا. قلتُ لمحمّد، عبر الهاتف، أن يحاول التواصل عبر الإيميل أو الواتساب مع هاني، سلف أختي أسماء، لعله يتمكّن من الوصول إلى شيء. يظلّ القلق ينهشنا على من نحب، ونظلّ نفكّر أنهم لا بد أن يكونوا بخير، حتى نكون بخير، وأن سلامتنا منقوصة من دون سلامة الجميع. ثم يأتي السؤال الأعم عمن بقي من أهل الحارة، وعن الأصدقاء في المخيّم. في الصور والأخبار تقرأ أسماء جديدة تُضاف إلى قائمة الذين أخذتهم الحرب، وتتحسر على من تعرفهم، وتفكّر أنّ الحرب كلّما استمرّت أخذت منا المزيد. ... ننقص كل يوم، ويذهب أحدنا إلى غير رجعة كلّ يوم، والحرب تستمر يوماً بعد يوم.

ننقص كل يوم، ويذهب أحدنا إلى غير رجعة كلّ يوم، والحرب تستمر يوماً بعد يوم

المدينة شاحبة وحزينة، والحركة بدت خفيفة هذا الصباح في الشارع الواسع الذي يقع فيه مستشفى ناصر، فالناس في مراكز الإيواء ما زالت نائمة، تنعم بمزيد من ساعات الراحة، مع توقف الطائرات الزنّانة وعدم سماع دويّ الانفجارات. الاستفادة القصوى مما تُتيحه الهدنة الهشّة. لم يبدأ الباعة عملهم اليومي في شيّ اللحوم أو قلي الفستق أو عرض الكاسترد في الأطباق البلاستيكية أو تقطيع الحلويات. النار تضطرم تحت صاجات الفلافل، والأقراص تطشّ في الزيت الساخن، والصبية والفتيات يقفون في انتظار دورهم. الملابس معلّقة على نوافذ الفصول، والندى ما زال يرطّب الجوّ بالماء، ونسيم الصباح كسول، والشمس تجاهد حتى تخرج من خلف عباءة الغيمة. الطريق مليء بالقاذورات وبقايا الطعام وروائح الزحمة، وضجيجٌ راقدٌ في الصمت.

الصورة
رجل يجلس على أنقاض المباني المدمّرة بسبب القصف الإسرائيلي في خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة في 27/ 11/ 2023 (Getty)
رجل يجلس على أنقاض المباني المدمّرة بسبب قصف إسرائيلي في خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة (Getty)

كانت الليلة الماضية مختلفة، وكان الناس بالآلاف يتوافدون إلى الشارع يشترون ويأكلون ويتحدّثون، وبعضهم نصب أرجيلته في جزيرة الشارع. ثمّة حياة، رغم كلّ الواقع المرير، حياة تبحث عن تفتّحها وازدهارها. لم أتمكّن من شراء شيء لياسر ليأكله لشدّة الزحمة أمام محلات الطعام التي تمّ نصبها بطريقة عشوائية في نواحي الشارع المختلفة. قلت له: "سلك حالك بصحن كاسترد وشوية فستق" اشتريناها من مقلاةٍ على النار.

ذهبتُ، في آخر المساء، لزيارة أختي سماح التي نزحت إلى مدرسة عيد الآغا قرب مدينة حمد. مرّة أخرى، أفضّل المشي على انتظار مواصلات لا تأتي أو ركوب عربة يجرّها حمار. قلت لياسر: "فرصة نعمل شوية رياضة". ولسنا بحاجةٍ للرياضة، فكلّ أيام الحرب ونحن نمشي، وكلّ أيام الحرب ونحن نفقد وزناً، وكلّ أيام الحرب ونحن نركض ونلهث، ولكن ثمّة حاجة للتبرير في مرّات كثيرة من أجل خداع الذات مرّة أخرى. سرنا في الشارع العام. قال مأمون إنّ علينا أن نسير إلى آخر الشارع، حتى نجد مقرّ السجن الكبير، ثم ننعطف شمالاً حتى نجد الطريق الذي يوصلنا إلى مدينة حمد. كنت أظن أنّ الحديث يدور عن مشي ربع ساعة، كما قدّر مأمون الذي نسي أننا سنمشي مشياً، ولا سيارة لدينا، فبالتالي أخبرنا أنّ الأمر هيّن، مجرد 20 دقيقة في أقصى حد.

لسنا بحاجة للرياضة، فكلّ أيام الحرب ونحن نمشي، وكلّ أيام الحرب ونحن نفقد وزناً، وكلّ أيام الحرب ونحن نركض ونلهث، ولكن ثمّة حاجة للتبرير في مرّات كثيرة من أجل خداع الذات مرّة أخرى

سِرنا وسِرنا واستغرقنا الأمر ساعة وربع ربّما، حتى وصلنا إلى مشارف مدينة الشيخ حمد. صارت البنايات التي تمّ تجهيزها حديثاً وسط منطقة المواصي، والمحاطة بالمزارع والكثبان الرملية، ملاذاً للآلاف الذين وفدوا من الشمال ومن غزّة، وباتت المدينة مكتظّة بسكّانها الجدد المؤقتين. كلّ بناية مكوّنة من خمسة طوابق لا تجد شقّة واحدة فارغة فيها. مررتُ عند جامعة القدس المفتوحة، فتذكّرت صديقي محمّد الذي أخبرني أنه نزح، هو وعائلته، إلى مدينة حمد قبل أسابيع. ولمّا لم أكن أعرف أين تقع المدرسة التي نزحَت إليها أختي سماح، قلت لنفسي أن أتصل بمحمّد، وأجلس عنده قليلاً للراحة، ثم يصطحبني هو إلى المدرسة، وستكون فرصة لأراه، فأنا لم أره طوال فترة الحرب. قابلتُ محمّد في منتصف شارع النخيل، ولا أدري إذا كان اسمُه كذلك، أما أنّني ومحمد فاصطلحنا على تسميته بذلك، لكثرة النخيل فيه، وسِرنا باتجاه الشقّة الأرضية التي باتت ملجأ لكلّ أفراد أسرة محمد وأسر أعمامه. بجوار الشقة، غرفة للحارس، تحوّلت إلى صالون تجلس فيه العائلة وتسهر فيه وتوقد فيه النار. أعطاهم الجيران بعض قطع الكنب القديمة فوضعوها، وصار لديهم شيء يشبه البيت، البيت الذي يمكن لهم فيه أن يخزّنوا كلّ ذكرياتهم في كيس صغير وتعليقه فيه، حتى يعودوا إلى البيت الحقيقي.

محمّد باحث في العلوم السياسية، ويعمل مدرساً في جامعة القدس المفتوحة، ووالده مناضلٌ قديم وأسير محرّر. ساهم محمّد في أكثر من دراسة في مجلة سياسات التي رأست تحريرها سنوات، ويصدرها معهد السياسات العامة في رام الله. بدا مثلي عاجزاً، ونحن نشرب الشاي الثقيل الذي أعدّه على النار، عن فهم أيّ شيء مما يجري. وبدا غير قادر على تفسير أيّ شيء. ومثلي أيضاً ومثل الآخرين، سأل: "شكلها مطوّلة"؟. ... لا أحد يعرف. لم يعرف أحد من قبل ممن ذهبوا. استعدتُ قلق بلال، وهو يفكّر في الغد الذي لن يمهله حتى يراه، وعيون محمّد الجاجة القلقة، وهو يقفز عن الكرسي، حتى يذهب لإحضار الخبز والمعونات للنازحين في منطقة النصر والرمال، ووجه أحمد فطيمة، وهو يقدّم لنا الشاي ويسأل: "وقتيس بدنا نشربه زي زمان". وتعني "زي زمان" تلك الأيام في الماضي التي كانوا يشربون الشاي فيها بمتعة وراحة بال، وأنا كنت أشرب القهوة بدون سكّر أيضاً بمتعة وراحة بال. الآن، وفيما أكتب، أفكّر في طعم القهوة الذي لم أعُد أحسّ به. القهوة مزاج وراحة بال وكيف، وليست مجرّد مشروب، ورائحتها الفوّاحة تشبه فكرة الاستيقاظ من النوم. الآن فقط أشرب القهوة حين يُحضرها أحمد، شقيق مأمون، بالطريقة الغربية، لعدم وجود مسحوق القهوة العادي. ومرّة أخرى "ريحة البر ولا عدمه".

وصلنا إلى المدرسة التي تقيم فيها سماح. تقتسم سماح وزوجها وأطفالها الثلاثة غرفة أحد الفصول مع بقية عوائل أخوة زوجها، وتضع بعض قطع القماش حاجزاً يصنع لها حيّزاً خاصاً. قبل يومين من الحرب، جاء طفلها الثالث للدنيا، وأسمته كنان. وكان عليها أن تحمله بعد يومين من الحرب، وتفرّ بحثاً عن النجاة بعد سقوط القذائف حول بيتها قرب البحر في أقصى شمال قطاع غزّة. تدمّر البيت بشكل كامل مع الاجتياح البرّي، ولم يعد ثمّة بيت تعود إليه. نزحت، في البداية، لتسكن في بيت أبي، ثم قرّرت الانتقال إلى مدرسة في حيّ النصر. وبعد مهاجمة الجيش المدرسة، انتقلت إلى المدرسة التي تقيم فيها حالياً قرب مدينة حمد. جلسنا نصف ساعة تقريباً نتحدث ونحن نجلس على بطّانية سوداء رقيقة، باتت كلّ ما تملك سماح من عفش بعد أن عبرت الطريق من الشمال إلى الجنوب، تحمل أطفالها والقليل من الأشياء، وتحاول أن تنجو.

الحرب الأطول قبل ذلك حرب 2014 استمرّت 51 يوماً وانتهت. ها هو اليوم الـ51 يمرّ ولا تنتهي الحرب

عدتُ سيراً على الأقدام أيضاً. أعطتنا سماح بعض حبّات الكلمنيتنا والبرتقال والجريب فروت التي قشّرناها، ونحن نمشي في الطريق، عائدين إلى مخيم خانيونس. في منطقة في الطريق، صاح شابٌّ يقود سيارته بأن ننتبه، فهناك كلابٌ تنبح على الطريق. كلابٌ كثيرة ضالة هذه الأيام، وكلاب وقطط أليفة كثيرة فقدت بيوتها، بعد تدمير بيوت أصحابها وشققهم. تناولتُ، أنا وياسر، بعض الحجارة والعصا، وسرنا بحذر نتلفت يميناً وشمالاً خائفين من هجوم مفاجئ. بعض النباح الذي لم يقترب كثيراً. كانت الكلاب مشغولة تنبش في أكوام القمامة على جانبي الطريق. وصلنا منهكين إلى مدخل المخيم، وتوجّهنا إلى شارع مستشفى ناصر. حين عدنا، كان التعب قد هدّنا، ولم نكن نقدر على فعل شيء، إلا التمدّد على الفراش ومحاولة النوم. ومع الهدوء، جاء النوم سريعاً، وهذه المرّة لا أحلام ولا كوابيس ولا صحو ونوم متقطّعين. فقط، نمنا كما نشتهي وكما نريد. فقط آلام الظهر من النوم على الأرض، النوم الذي لن يعود إلى طبيعته الكاملة إلا بعد الانتهاء من الحرب.

الجو هذا الصباح بارد، والشمس لم تسطع كثيراً، والريح خفيفة لكنها تشلع الوجه. الشتاء قادم مرّة أخرى. لم يأت بشكل حقيقي من قبل، نزل خلال بضعة أيام بعض المطر ثم احتجب. واحتجابه نعمة من الرب، لأنه يقي هؤلاء النازحين في مراكز الإيواء من البلل والبرد. وحين لا تسطع الشمس، فهذا يعني أن البطّارية التي تستمد الكهرباء من الطاقة الشمسية لن تُشحَن، وبالتالي لن نشحن جوالاتنا، ولا "اللابتوب" ولا اللمبات المتنقلة. قليل من الشمس قد يكفي، لكن هذا القليل قد يكون عزيزاً إذا استمرّ حال الشمس كذلك.

اليوم الـ51 للحرب، وهذا يعني الكثير للناس، فالحرب الأطول قبل ذلك حرب عام 2014 استمرّت 51 يوماً وانتهت. ها هو اليوم الـ51 يمرّ ولا تنتهي الحرب. فقدنا بعض الأمل في أن تنتهي هذه الحرب قبل هذا الموعد، وكانت بعض النقاشات والرهانات بيننا، أنا وفرج ومحمّد والبقية، ونحن نتحدّث في مخيّم جباليا، أن تنتهي هذه الحرب قبل 51 يوماً. الكثير من الإحباط أن هذه الحرب لا تنتهي، وأن لا وجود لوقت محدّد لنهايتها. مع ذلك، ماذا يملك الإنسان إلا الأمل، وإلا التفكير في أنها إذا انتهت غداً لا بأس، وإن بعد غدٍ لا بأس، المهم أن تنتهي، وتعود إلينا الحياة التي نفتقدها.

المساهمون