(19 نوفمبر)
طلع الصبح
اشتدّ القصف قرب الفجر، وظل متواصلاً حتى لحظات الصباح الأولى الآن. كنّا نسمع الشظايا تتطاير في الأزقة، وسقوطها الخشن على أسطح البيوت يضفي تقاسيم إضافية للضوضاء التي تُحدثها الانفجارات. والشظايا تسافر مسافات طويلة قبل أن تستقرّ في مكان، فقد تصل شظايا من مكان جرى قصفُه على بعد كيلومترين. تغوص البراميل المتفجّرة، كما يسمّيها الناس، وهي التي تسقطها الطائرات على الأماكن السكنية، عميقاً في الأرض، ثم تنفجر أسفل البناية وتدمّرها وتدمّر كل ما حولها. ويقوم بعضُها بتفجير تفريغي، بحيث تسحب على المباني المحيطة بها نحو الحفرة الكبيرة التي تُحدثها، والتي تكون مركز الانفجار. ولا يمكن للمرء أن يكون محظوظاً بنوع القذيفة التي تسقُط عليه أو على بيته، ولكن نوع القذيفة يفرق فعلا، ويفرق نوع الدمار الذي يمكن أن تُحدِثه. ولسان حال الناس "في المال ولا في العيال"، بمعنى تذهب الدار وتبقى الروح. إلى رائحة المطر الذي ما زال عالقاً في الغيم، نشمّ روائح الدخان المنتشر في المخيّم جرّاء القصف المتكرر طوال الليل. لم يعد مهماً أين وليس مهماً تماماً إذا ما كان في الشارع المجاور، المهم أن لا يكون قد أصابك. ومع ذلك، لا تستطيع النوم أو إغماض عينيك وانت تنتظر القذيفة أن تصيبك. تنتظر الصاروخ أن يسقُط عليك. أن تفكّر أنك قد لا تكون فعلاً موجودا، وأن من يفكّر هو أنت في عالم آخر.
العالم الذي لم تعد موجودا فيه تحلُم به، فأنت ميّت. والعالم الذي تستعيده في كوابيسك هو ذلك الذي كنتَ فيه قبل أن تموت، العالم الذي نفاك خارج حدوده بصاروخ، ومزّق أشلاءك ونثرها فوق ركامٍ كبيرٍ تفوح منه الروائح، وتنبعثُ منه الغازات، وتظلّل سماءَه سحبٌ من الدخان. لم تعد موجوداً في هذا العالم الذي لم يعد موجوداً إلا في استعاداتٍ كابوسيةٍ تقوم بها مرغماً، لأنك لا تقوى على تجاوز كل ما مررتََ به من آلام ومن عذاباتٍ ومن انتظار. انتظار الموت أصعب شيء فيه، وانتظار أن تموت وتعد الدقائق التي سيأتي فيها الموت، وإصاخة السمع لوقع خطواته لتتأكّد أنه يخطو نحوك أمرٌ أكثر وجعاً من وقْع الموت ذاته.
حين يبدأ البياض يحلّ مكان السواد، ويبدأ الليل في سحب ذيوله، تقف تنظر من بعد عبر النافذة. لا تقترب من النافذة. انظر، فقط، بحيث يمكن لك أن ترى أي شيء يجلب لك خبراً من الشارع. لا شيءَ في الشارع وأنت لا تعرف شيئاً. تبدأ تفكّر في تلك الأماكن التي أحالها القصف دماراً، وفي البيوت التي لم يعُد فيها أصحابها، فهم لم يعودوا موجودين أصلاً، وهي لم تعد قائمة. لا تقترب من النافذة. لا رؤية ممكنة ولا طلّة يمكن أن تجلب لك خيراً. تنتظر حتى تبدأ الحركة تدبّ في الشارع، ويبدأ الناس في النزول، وتبدأ رائحة القهوة من الكؤوس التي يجلبونها معهم من بيوتهم تفوح، ويبدأ الدخان من السجائر التي يشعلونها يعطيها الصباح نكهة الاستيقاظ. تنتظر تلك التفاصيل التي كانت تُشعرك بأن هذا صباح عادي جداً في يوم حرب. تلك الصباحات التي بدأت تعتاد عليها، لأنها وحدها تقترح الاستمرارية، وتحمل ما بقي في الحياة من حياة. تنتظر حتى يبدأ الجميع بممارسة هذه التفاصيل غير العادية، بعد أن تركوا كل "عاديّتهم"، من أجل أن يتشبّثوا بآخر ما تبقّى في الحياة من "الممكن".
انتظار أن تموت وأنت تعدّ الدقائق التي سيأتي فيها الموت، وإصاخة السمع لوقع خطواته لتتأكّد أنّه يخطو نحوك، أمر أكثر وجعاً من وقع الموت ذاته
طلع الصبح وها أنت تنتظر حتى يبدأ النهار وتجلس تفكّر متى يأتي الليل حتى ينقضي النهار. مضت ساعتان منذ طلع الصبح. لم يخرُج الشباب كالمعتاد. لم تشمّ رائحة القهوة، ولا رائحة دخان سجائرهم، فكل شيء بات عزيزاً. القهوة صارت نادرة، ولم تعد تتوفر بشكل كبير في ما تبقى من محلات بقالة. لم تعد تشمّ رائحة القهوة في الصباح، ولا عادت تلك الرائحة التي تحمل لك وجود الآخرين مع ثرثرتهم الناعسة مثلهم تهمس في أذنك "صباح الخير". أيضاَ، لم يعودوا يشعلون سجائرهم، فالسجائر بدأت بالانقراض تقريباً، ومن لديه علبة سجائر ملك لا يطاول رأسَه أحد، لكنك لن تجده، فالسجائر صارت تُباع وتُشترى بالسيجارة وليس بالعلبة، وتضاعف سعر السيجارة مرّات ومرّات. لذلك، إشعال السيجارة بحاجة لطقس واحتفال خاصّيْن يليق بمتعة "الكيف" الذي يشعر به المرء، وهو يستنشق هواءً يفتقده منذ زمن. يوم أمس، تمكّن ياسر من شراء سيجارتين لمحمّد بعد ربع ساعة من الانتظار، حتى يوفرهما له صاحب الصندوق الخشبي المغطّى بصور علب السجائر. سيجارتان تكفيان للنهار والليل، فعلى محمّد الذي كان يدخّن علبتين في اليوم أن يتكيّف مع فكرة سيجارة أو اثنتين في اليوم. قلت له إنها "فرصة تبطّل تدخين". وهي فعلاً فرصة من أجل الإقلاع النهائي عن التدخين، حتى لو كان الأمر ليس قراراً، بل واقعاً فُرض عليه فرضاً.
هذا صباحٌ عاديٌّ ونهارٌ عاديٌّ أيضاً. هذا يومٌ آخر من زمن جديد. هذه تفاصيل قد لا تصلح للحنين، لكنها كل ما نملك الآن، وهي كل ما نستطيع التفكير فيه ونحن نعدّ نهاراتنا حتى نعيشها في قادم اللحظات.
قَصَف الجيش في الليل مسجد الخلفاء الراشدين خلف الحارة. استهدفته الطائرات بحزام ناريّ عنيف بعد صلاة الفجر. أكثر من عشر دقائق ظل القصف متواصلاً على المسجد، فأتى عليه وعلى البيوت المجاورة. صار صعباً معرفة عدد الشهداء والجرحى، لأن القصف بات في كل مكان وفي كل ناحية وفي كل ثانية. لذلك تحوّلت متابعة ما يجري إلى أمر مرهق ومتعب. حتى سيارات الإسعاف لم تعد تهرول في الليل، فحين يشتد القصف لا يمكن لشيءٍ أن يتحرّك، ولا يمكن لسيارة أن تسير في الشارع، فالطائرات لا تميّز بين إسعاف وغير إسعاف، ولعلها لا تريد أن تميّز. تريد فقط أن تقتل كل شيء يتحرّك، وكل شيء يتنفّس.
لم يعودوا يشعلون سجائرهم، فالسجائر بدأت بالانقراض تقريباً، ومن لديه علبة سجائر ملك
هاجت الدنيا وماجت، قبل أسبوعين، على تصريح لوزير إسرائيلي يقول فيه إن الحل في إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزّة وتدميره كله. والغريب أن يستغرب العالم كيف يقول وزير صهيوني ذلك، فيما الغريب الحقيقي هو استغرابهم، فمن الطبيعي أن يكون هذا هو جوهر التفكير لشخصٍ متطرّف سرق أرض غيره، ويسكن فيها، ويغيظه كل يوم أن صاحب الأرض ما زال يقول له هذه أرضي وأريدها. إنه حلم رابين أن يبتلع غزّة البحر، وهو رغبة بن غوريون بمواصلة قتل الفلسطينيين، وأن من يظل حياً منهم نستخدمه ليعمل لدينا، وحلم غولدا مائير بأن ينسى الصغار بعد أن يموت الكبار. وغزّة ظلت ولم تذهب إلى أي مكان آخر، والبحر ظل مكانه ولم يبتلع أحداً، كما أن كمية ما ألقته طائرات إسرائيل على غزّة أكبر من قنبلة نووية، وكمية التفجير الذي أحدثه قصفُها المستمرّ على القطاع أكبر بكثير مما أحدثته ويلات الحرب العالمية الثانية على أي مدينةٍ أخرى في أوروبا ربما، والتشرد والنزوح الذي نجم عن جرائم الحرب يوازي ما جرى في الحروب العالمية. ولكن قبل ذلك يوازيه أيضاً ما حدث في النكبة، فإسرائيل ليست بحاجة لقنبلة نووية، فهي تقوم كل يوم بأكثر من ذلك. كل ما في الأمر أن الرجل، وهو وزير تراث بالمناسبة، فكّر بصوت مرتفع، وعبّر بما يجول في وعي الحكومة الإسرائيلية، فكل شيء في وعيها قائمٌ على نفي الفلسطيني وقتله. والتراث الذي هو وزيره مسروقٌ يعود لنا. كل الحكايات هي حكايتنا، أما الخرافات التي يتم نسجها فهي أساطير لم تثبت الحفريات الأثرية صحة سطر واحدٍ من كل مؤلفات التاريخ المزوّرة، ولم تجد ذرّة تراب واحدة تؤكّد ما تذهب إليه، فالتاريخ والتراث مسروقان ومزوّران، فكيف يكون الواقع. الواقع المرغوب أن يختفي الفلسطيني ولا يعود موجوداً، أن يصبح ذكريات مؤلمة عن مذابح وقسوة قام بها الرجل الأبيض، قد يخلّدها في متحف حتى يعبّر عن إنسانيته المفرطة وإحساسه المرهف، مثل تلك المتاحف التي تقيمها الولايات المتحدة للهنود الحمر في تخليدٍ لشيء قتلته هي وليس غيرها.
مع تعرّض منطقة تل الزعتر لقصفٍ شديد طوال الليل، تعرّضت البناية التي تسكن فيها أختي عيشة لقذائف كثيرة، حيث عطّلت القذائف الطاقة الشمسية في البناية، كما سقطت على بيت الدرج وعلى مدخل البناية، وتساقط الزجاج وتهشّمت النوافذ في كثير من مرافق البناية. ذهبتُ لتفقد عيشة. كانت خائفةً حد الموت، والأطفال خائفين رغم محاولاتهم الانشغال باللهو واللعب من أجل نسيان آلام الليلة الرهيبة، ثم فجأة غطّوا ثلاثتهم في نوم عميق. كان كل من في البيت قد رحل إلى المخيم، فيما ظلت عيشة وزوجها وحماها الأستاذ شوقي في البناية. جلسنا كلّنا في الطابق الأرضي، وأخذ الأستاذ شوقي يروي قصّة تدمير مسجد حيفا، حين خرج منه بعد صلاة الصبح. لو تأخر دقيقة داخل المسجد لطاوله الموت. وقف قليلاً مع ثلاثة من أصدقائه بعيْد الصلاة، ثم حث الخطى، فيما ظلوا واقفين يتحدّثون، حين أغارت الطائرات على المسجد، وأسقطته بطوابقه الأربع. يشاطرني شوقي الرأي أن علينا أن نتريّث فلا ننفّذ ما يطلبه الجيش. بالنسبة لرجلٍ مثله، أمضى حياته في الحركة الوطنية، لم يكن مقبولاً أن يغادر لأنهم طلبوا منه ذلك. قال إنها يوم أو اثنان وتتّضح الرؤية.
كان الخوف ولا يزال يمسك بنا ونحن نحدّق في وجوه بعضنا بعضاً، غير مصدقين أننا سنصمُد أكثر، وأننا سنواصل البقاء أكثر، وأن علينا أن نمر أكثر بالتجربة المريرة. قرابة شهر ونصف الشهر ولم يتغير شيء، بل القصف يشتدّ والدمار يزيد والشهداء يحلقون أكثر نحو السماء. لم أملك ما أقوله إلا أن القادم أفضل. ولا أحد يعرف ما هو القادم، ولا ما هو شكل هذا الأفضل. علينا، فقط، أن ننتظر إذا كان ثمّة ما يمكن لنا أن ننتظره.
حين يشتد القصف لا يمكن لشيءٍ أن يتحرّك، ولا يمكن لسيارة أن تسير في الشارع، فالطائرات لا تميّز بين إسعاف وغير إسعاف، ولعلها لا تريد أن تميّز
أسقطت الطائرات، في الليلة نفسها، ثلاثة مساجد أخرى: القسّام في مشروع بيت لاهيا والخلفاء الراشدين والأمين محمد. خرج الناس بالآلاف من الجهة الشرقية هبوطاً نحو حارات المخيّم الداخلية، يسيرون غير مدركين إلى أين يذهبون، المهم أن يجدوا مكاناً يقيهم الموت الذي يلاحقهم. قال فرج مازحاً "والله حاتم علي كان ما عرف يصوّر هالمشهد في التغريبة". حتى "التغريبة الفلسطينية" تبدو ضعيفة مقارنة مع ما يحدُث. الواقع أقوى من الفن دائماً، لذلك الفن محاكاة أرسطية للواقع، وهي محاكاة فاشلة أمام قوّة الواقع. ذهبت إلى السوق أحاول أن أشتري لنفسي بلوزة تقيني برد الشتاء المقبل فلم أجد. عدتُ بحذاءٍ لياسر يسهل عليه المشي والتنقل، بعد أن اهترأ حذاؤه الذي جاء به من رام الله. تتقافز المشاهد أمام عينيّ، وفي مرّاتٍ لا أعود قادراً على التركيز وعلى التفكير وعلى البحث في الأفق عن أيّ ضوء. كأني لم أعُد بحاجة للضوء حتى أرى.
حتى محلّات البقالة اختفت، وبدأت تظهر البسطات الصغيرة التي يضع عليها أصحابُها كل ما يتوفّر لديهم من أشياء وبضائع، ما كان أحدٌ ينظر إليها ويشتريها في الأوقات العادية، ولكن "القلّة" والندرة يجعلان أيّ شيء مرغوباً. فالأمر ليس ما تريده وما تتمنّاه أو ما تحبّه وترضاه، بل ما هو متوفّر. أشياء كثيرة اختفت بشكل نهائي ولم تعد موجودة، والبحث عنها عملية مستحيلة. لذلك يقف كثيرون أمام هذه البساطات الصغيرة، يحاولون أن يشتروا بأسعارٍ باتت أغلى بكثير من الأسعار العادية، ما يساعدهم على قضاء اليوم وأكل أيّ شيء. الخضار شيء شبه معدوم تقريباً، واللحوم تكاد تختفي. ولكن الأهم أن غاز الطهي وما قد يساعد في تحضير الطعام لم يعد متوفراً. حتى الطهي على الحطب صار مهمّة عسيرة، فأنت بحاجة للبحث عن الحطب الذي صار يبحث عنه كل الناس. الكلّ يبحث عن الحطب. وبات مألوفاً أن تجد شبّاناً ورجالاً يفتشون بين أكوام الدمار، وينتشلون خشبة من تحت الحجارة المهدّمة. الخشب والحطب بات مادّةً أساسيةً من أجل الطهي. ومع انعدام الغاز بشكل كامل، واستخدام الجميع الحطب، صار الحطب وكل ما يوقَد به أيضاً شيئاً يصعُب الحصول عليه.
في الليل، أشعلت النيران من الحطب والخشب المتوفّر، ووضعت الترمس الذي نقعتُه منذ يومين حتى يغلي، ثم شطفته بالماء وملّحته، كما غليت النابت (الفول الكبير) أكثر من مرّة وشطفته وملّحته، وصار عندنا ما يمكن لنا أن نأكله لو لم يتوفّر طعام. صار بائعو الترمس والنابت يملأون شارع الحارة، إذ إن أكلهما يملأ المعدة، وقد يغني عن وجبة طعام. وكانت فكرتي أن يكون لدينا ما يقينا الجوع إن اضطُررنا. صار إشعال النار طقساً يومياً مع انعدام الغاز، وصرتُ، أنا وياسر، ماهريْن في ذلك. تذكّرت قول حكمت إن عطر البدوي رائحة النار. ولمّا لم أكن بدوياً، أخذت أشمّ ملابسي بعد أن فرغت من إعداد الترمس والنابت، لأشم عطري الفريزاتشي الجديد.
(20 نوفمبر)
استشهد بلال جاد الله أيضاً
يا الله، لمَ هذا الوجع؟ لمَ هذا الفقدُ المرهق للروح؟ لم نعُد نحتمل أن يرحل من نحبّهم مثل فراشاتٍ تغادر مخدّاتنا ونحن نيام. لم نعُد نقدر أن نصدّق أننا يمكن أن نصبح مثل غصنٍ أجرد من كل هذا الكم من الحبّ الذي كانوا يحيطوننا به. لم نعُد نقدر على السير في الدروب المُقفرة من صوتهم، والخالية من صورهم تتزاحم في نهاراتنا. لم نعُد نستطيع أن نعدّ صباحاتنا من دون أن نمسك بالقليل من الأمل أننا سنراهم في بحر النهار أو نتواعد معهم في أول الليل. لم نصمُد كثيراً في وجه هذا التداعي في قلوبنا، والحنين المفرط إلى كل ما كان.
يا الله، تعرف أننا نحبهم، وأننا نتمسّك بهم حتى آخر العمر، لكن ليس حتى منتصفه أو منقوصاً منه قليلاً، وإننا نريدهم معنا ما حيينا، وأن نظل معهم تلك الأيام التي سطّرها الغيم بماءٍ مشبع برائحة السنين. وتعرف أن رحيلهم أوجعنا وأننا تعبنا من الوجع، حتى صار الوجع يتوجّع من شدّة ما نتألم، فلمَ تذهب بنا إلى تلك الطرقات السوداء المُعتمة الغافية على مزيدٍ من المفاجآت! يا الله، وحدك تعرف أن تلك الابتسامات التي رسمناها على وجوهنا طوال كل العمر الذي مضى كنّا نسرقها من حلكة الليل، وأننا كنا نكابر، ونعضّ على جراحنا، حتى تظهر أسناننا بيضاء من لمعان البسمة الغافية على الشّفاه، فلمَ أخذتَ فرص الضحك والفرح، حتى التي غافلنا بها الزمن! لمَ جعلت كل أيامنا سوداء إلى هذا الحد، نصحو وننام، أو ننام ونصحو، لا فرق، فالحياة صارت جحيماً، وصار الواقع مأساوياً، وصارت أيامنا مجرّد عددٍ يمرّ حتى ينتهي الأجل. لمَ قبلت أن يقتلونا هكذا، ويأخذون أرواحنا هكذا، ويدوسون جثث شهدائنا هكذا، وينكأون جراحنا هكذا. لمَ كل هذا الـ"هكذا"، من دون أن يظهر غضبك عليهم أو تظلّلنا بغمامة تقينا حر الغضب الذي يتنزّل علينا من البرّ والبحر والجو. لم نطلُب مائدة ولا معجزة، قلنا فقط نريد أن نبقى ويبقى من نحبّ ويظلوا بجوارنا وتمضي الحرب، وينتصر بقاؤهم القاسي على كل المآسي. ذهبوا وبقيت الحرب تأكل وتنهش في أجسادنا من دون توقّف. كل يوم يرحل منهم فردٌ أو ترحل جماعةٌ حتى صار صعباً علينا أن نستذكر كلّ من رحلوا، وصار صعباً علينا أن نقف فوق نعوشهم، نودّعهم بما يليق بالسنوات الجميلة التي قضيناها معهم. حتى وداعٌ للذاكرة لم نتمكّن منه، حتى نظرةٌ أخيرةٌ غير قادرين على إلقائها. بتنا عاجزين عن أيّ شي. ماذا لو أفاقوا فوجدونا لم نحمل جثامينهم ونسير بها بجلال وبهاء وورع حتى مثواهم الأخير؟ ماذا لو أفاقوا فوجدوا أنفسهم مرميين على جانب الطريق، لم نحملهم على أكتافٍ من الحبّ والحزن؟ ماذا لو أفاقوا فوجدوا أننا عاجزون عن انتشالهم من تحت الركام، وبلّلهم المطر، وأكلَت أجسادَهم الشمس ورطوبة الباطون، ونحن فقط نتباكى على قسوة ما نعيش؟
صار صعباً معرفة عدد الشهداء والجرحي لأنّ القصف بات في كلّ مكان، وفي كلّ ناحية، وفي كلّ ثانية
لماذا تركْتنا وحيدين في البيت. لسنا حصاناً يؤنسه ولسنا أرواحاً تحميه ولا حجارة سجّيل. تركتْنا نقف وحيدين عراة لا نعرف ما ينتظرنا، وكان لزاماً علينا أن نواجهه. لماذا تركتنا للتنّين ينفخ النار فينا ويحرقنا، ولم ترم عليه بعاصفة ولا عصف مأكول. يا الله، وحدك تعرف كيف نعاني وكيف نتوجع وكيف ننتظر ما لا نعرف ونعرف ما لا ننتظر. وفي المحصلة، لسنا ندري مصيرنا، ولا كم سيدوم ما نحن فيه. يا الله، لمَ تركت الموت يأخذ بلال بهذه الفجاجة وبلا هوادة؟
ذهب بلال كما ذهب آخرون. كان يحاول أن يجد طريق النجاة حين اغتالته القذيفة. بدا في آخر مرّة جلسنا فيها في مكتبه في بيت الصحافة متشائماً، غير قادر على التقاط أيّ ضوء في آخر النفق. كان ثمّة لهبٌ كبير يلسع الوجوه. قلتُ من باب التخفيف من التوتر الذي كان ينتشر حولنا إننا يجب أن نخطّط لرحلة لأوروبا بعد انتهاء الحرب نمضي أسبوعاً أو عشرة أيام، لا نعمل شيئاً، نتسكّع ونجلس في المقاهي ونتحدّث فقط. نستحقّ إجازة مثل تلك بعد كل الذي عانيناه. ذكّرته بالرحلة الجميلة التي قمنا بها معاً إلى بروكسل عام 2018، حيث أمضينا النهارات والليل في المقاهي والمحلات وزُرنا المتاحف وغاليرهات الفن ودور السينما. كان وقتها كأس العالم وكنّا نذهب لحضور مباريات المنتخبات العربية في مقهى مغربي. قبل ذلك، نذهب إلى مطعم عربي في إحدى ضواحي بروكسل، ثم نعرّج على المقهى نشرب الشاي المغربي وندخن النرجيلة. كانت تلك من الأيام الجميلة التي نستذكرها بحنين. قلت له إننا يجب أن نعيد تلك الأيام. واقترحتُ أن تكون محطّتنا بروكسل أيضاً. ابتسم وقال: يبدو ما راح أصل إلى هذه النقطة. ... كأنني فهمت أو لم أفهم. قلت: كيف؟ يعني سهلة بعد الحرب نرتب الأمور. ... قال إنه لا يعتقد أن الحرب ستنتهي ويكون موجوداً. قلت إن هذا التشاؤم يقتل فلا حاجة له. قال: فعلاً، أحس أنني لن أكمل. ... قلت له: أيام وتنتهي الحرب، لا حرب تدوم إلى الأبد. علينا فقط أن نواصل الإصرار حتى ننجو، وتنتهي الحرب ونفوز بالحياة. ... هزّ رأسه، وقال: الحرب تأكلنا وتدمّرنا. ... قلتُ: ربما ما زال مزاجه قاتماً بسبب استشهاد محمد الجاجة، صديقنا الذي كان رفيقنا طوال أيام الحرب. .. قلت: ما حدث لمحمّد طبيعي. ... وقبل أن أستطرد بالشرح، قال: هل تظن أننا سنجلس هذه الجلسة مرّة أخرى. قلتُ: طبعاً.
كنّا المرّة الماضية ثلاثة، وها نحن اليوم اثنين. ... ثم أعاد تذكيري بصديقنا المشترك رجل الأعمال أبي سعد الوادية الذي تمكّن من الخروج من غزّة، بخروج حملة الجنسيات المزدوجة. الآن أنا وبلال فقط، وبلال يفكّر أن هذه لحظة لن تتكرّر. لن يكون هناك موعدٌ آخر بيننا رغم أننا تواعدنا ووضعنا ترتيباتٍ مشتركةً للقاء في بيت أبي الناجي الخضري في البلدة القديمة، وبعد ذلك في جباليا، حيث اقترحتُ عليه أن يأتي معي لننام في منزل فرج. هناك الوضع أكثر أمناً. صحيحٌ أنه لا مكان آمناً في غزّة، ولكن "خيمة عن خيمة بتفرِق"، و"خطرٌ عن خطر بيفرِق". كتبَ إليّ يوم الجمعة رسالة نصّية، قال فيها إنه عاد من البلد (يقصد البلدة القديمة) إلى منزل العائلة في الشيخ رضوان. وبذلك سيصبح من السهل أن نلتقي في جباليا. كتبتُ له: تمام. وحاولت أن أتصل به أكثر من مرّة ولم أفلح. صباح يوم الأحد، وهو صباحه الأخير في الدنيا، كتبتُ له "طمّني عنك". لم يكن صباحاً، حين وصلت إليه الرسالة، فهي بالعادة في ظل أزمة الشبكة تصل بعد ساعات. وصلت إليه قرابة الواحدة والأربعين دقيقة. لم يُجبني. ظلّ سؤالي معلقاً في انتظار إجابة، ستصل إلي من أخي محمد قرابة الثالثة ظهراً وهو يسأل إذا كنت أعرف أي خبر عن بلال. هززتُ رأسي، وقلت سأحاول أن أتصل به. مدّ جوّاله، وطلب مني أن أقرأ الرسالة الإخبارية التي وصلت إليه من وكالة "معاً".
لم نعد نحتمل أن يرحل من نحبّهم مثل فراشات تغادر مخداتنا ونحن نيام
رحل بلال. يرحل من نحبّ ويتركوننا مكويين بوجع فراقهم. يأخذُهم عمرُهم الذي انتهى إلى حيث لا نكون، وحيث يكونون بعيدين عنا. لم أصدّق أن الموت يمكن أن يكون بهذه الجرأة أو الوقاحة ليأخذ كل هذه الإنسانية والوداعة والأخلاق والجمال. لم أصدّق إلا ما أعرف عن الموت أن لا رادّ له إذا وقع، لكنّني كما في كل مرّة لا أريد أن أصدّق.
في المرّة الأخيرة، كان يتحدّث مع عائلته التي أمّنها في الجنوب في الأسبوع الثاني للحرب. سألتُه أن يسأل كرم ابنه إن كان مصرّاً على عدم حبّه الشعر، فقال إن كرم سيحبّ الشعر إذا كان الشعر سينهي الحرب. والشعر لا ينهي الحرب ولا شيء ينهيها كما يبدو. مرّة سالت كرم إذا كان يعرف محمود درويش. قال "طبعاً"، قلت لكنك لا تحب الشعر فكيف تعرفه. قال كل النسا بتقول "درويش درويش درويش ... مين ما بعرفوا". واختصرت مثل تلك الإجابة كل حضور درويش في الوعي الشعبي. قلتُ له: بس درويش شاعر. قال "حتى لو: فهو (كرم) لا يحبّ الشعر".
الآن ذهب بلال وقبل أيام ذهب أحمد وقبله محمد الجاجة وقبل ذلك حاتم وهدى وأولادهما وخلال ذلك مها وأولادها وبناتها. زمن يذهب فيه من نحبّ من دون استئذان، من دون وجع مسبق. فقط يأخذهم الموت ويذهب بهم ولا يعود. هذه الحرب التي تأخذ كل شيء منا فلا نقدر على ردّها. بشاعتها وجشعها وقسوتها تفترس كل شيء وكل طرف منّا، لا تترك لنا شيئاً.
الآن، يا بلال، اكتملت الرؤية واكتملت دائرة الزمن، وأغلقت عليك، وانت الآن تعرف، لكننا نحن الذين بقينا لا نعرف مصيرنا، لا نعرف ماذا سنفعل، ولا كيف سنفعل ذلك، ولا كيف سيكون وقعُه على تفاصيل مستقبلنا. لا نعرف إن كنّا سنبقى، وإن كنّا سنعيش، وإلى أيّ مدى أو أين. ما زال المجهول الذي كان يحوم فوق رأسك يحوم فوق البلاد كلها، وما زال الناس يخرجون من بيوتهم لا يعرفون أين سيذهبون. يا وحدنا، ويا وجعنا، فلا أحد معنا، ولا أحد يقف إلى جوارنا. علينا أن نواجه كل هذا القهر ونحن ننتظر مجهولاً غولاً مفترساً. التفكير في المستقبل ومحاولة رؤية الغد أكثر فتكاً بنا من وقوعِه. لعله لو وقع لارتحنا، ولصرنا نعرف، وحين نعرف وقتها نتوقّف عن المعرفة وعن الإدراك، فلا نفكّر ولا نحاول أن نفهم شيئاً. هذه الفوضى التي تخلق حولنا كل هذه الأسئلة، وتسحب منا كل الإجابات الممكنة، الفوضى التي تسير بنا مثل علبٍ فارغة في مجرى الوادي. نتحرّك ولا نتحرّك. ثمّة ما يدفعنا ولا نقدر على القفز من الماء. هذا ألمٌ لا يقدر عليه أحد، ولا أريد أن أقدر عليه ولا أستطيع. لن يكون هنا لقاء آخر، ولن يكون هناك وداع آخر، وستظل الأماكن تكوينا بالذكريات، وسنظلّ نستظلّ بها ونهرُب منها في آن، وسنعرف أن العمر كان رحلةً، وكانت فاصلة محطات تحملنا إلى الماضي بقسوة.
نصحو وننام، أو ننام ونصحو لا فرق، فالحياة صارت جحيماً، وصار الواقع مأساوياً وصارت أيامنا مجرّد عدد يمرّ حتى ينتهي الأجل
ذهب بلال، الصديق والأخ، ذهب مثل كثيرين، لكن مثله قليل. بلال الذي أعطاني من عمره ومن وقته كل شيء كان متاحاً منه، فكان الصديق الذي يبادلني الهموم والأسرار والخطط والماضي والألم والفرح القادم، وكان الأخ الذي أركن إليه في الشدائد، ويأخذ كل ما أقول على محمل القلق، فيقلق مثلي، ويحزن مثلي، ويسعى جاهداً إلى التخفيف بقدر المستطاع من كل ما قد يعيقني. كان بيت الصحافة المؤسّسة الأبرز للصحافة في قطاع غزّة. فكرة بسيطة حوّلها بلال إلى إحدى معجزات المدينة التي ترزح تحت الحصار والقهر. لم يكن بيت الصحافة مؤسّسة، كان حاملاً فكرة فلسطين، ومعبّراً عنها ومحرّضاً لنصرتها والوقوف معها.
في بيت الصحافة، يلتقي الصحافيون وينقلون الأخبار إلى العالم. يصعب أن تجد صحافياً قتله الاحتلال خلال الحرب لا يلبس درعاً وخوذة لم يوفّرها له بيت الصحافة، ويصعب أن تقابل صحافياً جديداً تخرّج ولم يتلقّ تدريباً في بيت الصحافة حول أساسيات المهنة في الميدان، وكيف يمارسها. قدّم بيت الصحافة للصحافة الفلسطينية الكثير من الأسماء الواعدة، وقدّم لفلسطين حكاياتٍ كثيرة في أمهات الصحف العالمية، وفي كبريات المؤسّسات الإعلامية في الخارج. كان بيت الصحافة يعني بلال، وكان اسم بلال يشير إلى بيت الصحافة. بلال الذي تحدّر من عائلةٍ كل أفرادها ربما امتهنوا الصحافة، فكل إخوته صحافيون في وكالات كبرى. وحده بلال اختار أن يعمل مؤسّسته الصحافية الخاصة، المؤسّسة التي كانت أكبر هدايا القدر لقطاع غزّة في مجال الصحافة. كان البيت مجمع الكل وملتقى الجميع. تحت شجرة الزيتون في الحديقة الخلفية، كان يفد كل الزوار من خارج غزّة ليجلسوا مع بلال، ويتحدثوا في شؤون غزّة وآثار الحصار عليها وما يعانيه أهلها.
ذهب بلال، وترك كل هذا الحلم معلقاً في رحم الغيب، ترك بيتاً عامراً، لكنه سيظلّ مليئاً بالدموع النازفة على رحيله المفجع. يا أيّتها الحرب، ألا تعرفين الناس، ألا تعرفين بشاعة ما يقع بين يديك. يا أيّتها الحرب، لم تتركي لنا شيئاً حتى نفكّر في المستقبل، إلا أن ننظر في صورتنا في المرآة، ونرى الغد في لمعان عيوننا.
زمن يذهب فيه من نحبّ دون استئذان، من دون وجع مسبق. فقط يأخذهم الموت ويذهب بهم ولا يعود
سيكون ثمّة وقتٌ للرثاء ووقتٌ للكلام وآخر للبكاء وكلهم معاً. تعجز الكلمات الآن، ويعجز اللسان عن قول شيء، يا بلال. أعجز عن وصف ما أشعر به، وأعجز عن التعبير عنّي أو عنك. عجز قهري أصاب لساني بالبكم، فأنا ما زلت لا أريد أن أصدّق. وأريد أن يقولوا فجأة إن الخبر غير صحيح، أو أن القذيفة أخطأتك، أو أن شيئاً لم يكن كما كان. فقط أريد أن تقول لي، عبر الهاتف، سنلتقي المرّة المقبلة. أن تعدني بأننا سنقوم بتلك الرحلة معاً بأن تكتفي بالسلام، وأنت تغادر وتقول "بتشاوف". وأريد لهذا الـ"بتشاوف" أن تحدُث، وأنا أدرك كلما مرّ الوقت، وكلما لم يأت خبر يكذّب ما جرى، فإنه يظلّ صحيحاً ومؤلماً ومفجعاً.
لا يُبقي هذا العجز شيئاً إلا النوم والحلم والوجع. نمتُ معظم مساء الأمس. صعدتُ إلى السطح أبكي قليلاً. أغمضتُ عيني، وأنا أسند جذعي على الحائط، وصوت القصف والرصاص يزيد ضوضاءً على الضوضاء والصخب الذي يعتمل بداخلي. نزلتُ أحمل دموعي معلقة على جفوني، وأنا أفكّر في بلال، وفي أنني المرّة المقبلة التي سآتي فيها إلى غزّة، إن تمكّنت من العودة إلى رام الله، لن أرى بلال، ولن أضرب معه موعداً على الإفطار يوم السبت، ولن يكون هناك أحمد ليجلب لنا الحمّص والفول والفلافل والمسبحة ولن يجهز لنا الطاولة. لن يكون هناك أحمد ولا بلال، سأكون وحيداً أمام الطاولة، أعيد تذكير نفسي بكل تلك المآسي التي خلفتها لنا الحرب التي لم تورّثنا إلا كل هذا الوجع.
قد أكتفي بالنظر من بعيد إلى تلك اليافطة الزرقاء التي تحمل اسم بيت الصحافة وشعاره، وأقول: ذهب من نحبّهم، فلم يعد ما يعطي للمكان أي معنى، إلا تلك الذكريات المفجعة والرحيل المؤلم. هذا كله، وأنا أقول: يا الله، لو أن هذا كابوس، أو خبر كاذب أو إشاعة. لو أن ما نعيش خيالات مؤلّفٍ لا تصلح حتى للقراءة، إلا في وقت التعب والزهق وطلوع الروح. لو أنه مجرّد كلمات لا تصنع جملاً مفيدة. لو أن هذا كله ليس صحيحاً. مجرّد أوهام أو نثار يذهب مع ضوء الشمس.