يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.
(23 ديسمبر)
فُجعت، أمس، باثنين من أعزّ أصدقاء طفولتي، أحمد خلّة وشقيقه محمّد. لا أتذكّر طفولتي من دون أن أستحضرهما، فهما بطلان حقيقيان لكثير من مراحل عمري، وللقصص التي يمكن أن أرويها لأحفادي عن سنوات حياتي الأولى، منذ رأيت النور في المخيم عام 1973. وهي علاقة تأسّست على الجيرة، وعلى علاقة أسرية متينة للاجئين، سكنوا الحارة نفسها بعد أن لجأت عائلاتهم من الحارة نفسها في يافا. حكايات الأبناء ممزوجة بحكايات الآباء والأجداد، فنحن، بطريقة أو بأخرى، نعيد ترتيب ماضي من سبقونا لنصنع عالمنا الجديد. ولم يكن ثمّة جديد في عالمنا سوى أننا نعيد تذكير أنفسنا بالألم أو ندرّبها على المزيد منه. لعبنا سوية ونحن أطفال، وحين كبرنا التحقت، أنا وأحمد سوية بحركة فتح، وعملنا في مجموعاتها في الانتفاضة الأولى. سجن أحمد فترة طويلة وخرج بعد ذلك، وسجنتُ فترة قصيرة، وواصلنا حياتنا في طرقٍ مختلفةٍ، لكن ذكريات الطفولة والشباب والحارة والجيرة ظلّت تأخذنا بالحنين، كلما تقابلنا في الحارة أو خلال مناسبة عائلية، ونحن نتحدّث عن الماضي، ونرمي بظلاله على حاضرنا القاهر. كتبت في السجن مجموعة من القصص القصيرة، وكانت تلك أولى محاولاتي الحقيقية للكتابة، وكنت أختار اسم "خليل" لمعظم أبطال القصص، تيمّناً بكنية أحمد "أبو خليل" التي كنا نطلقها عليه، والتي ستلازمه طوال حياته، إذ سيتزوج وسيرزق بأول أطفاله، ويسمّيه خليل.
لعلي لا أستطيع أن أذكُرهما من دون ذكر والدتهما، الحاجة أم شوقي، إحدى أيقونات المخيّم مع نسوةٍ أخرياتٍ، مثل عمتي رتيبة والحاجة سرّية والحاجة أم ماهر ووالدتي. كانت أسماؤهن جزءاً من ذاكرة الانتفاضة. كانت روايتي "الحاجة كريستينا" احتفاء بكل هذه القوة التي كنّ يمثلنها في الحارة، وكانت "شكراً" مستحقّة لسيرهن العطرة. كانت أم شوقي، في لحظة معينة في الانتفاضة، تزور في السجن أولادها الأربعة، شوقي وصبري ومحمّد وأحمد، وكانت تعارك السجّان بجسارة الحق. المرأة التي ولدت وعاشت أول شبابها في يافا رحلت قبل أن يفجعها الموت بكل هذا الألم، لكنها ظلّت جزءاً من سيرة الحارة. في "الحاجة كريستينا" هناك كثير من كل واحدة منهن ومن أخريات. كنّ جزءاً من الانتفاضة، وكانت البطولة الحقيقية لهن وهن يقارعن الجيش ويحمين الشباب، ويشاركن في كل أعمال المواجهة. كنّ نموذجا للمرأة التي تقدر على كل شيء، وللمواطن الذي يعرف دوره في المجتمع. أردتُ، في "الحاجة كريستينا" الاحتفال بهن، وبما تعلمت منهن وبما مثّلن بالنسبة لنا من نموذج ومن مركز قوة وسند. كانت شخصيات الرواية نماذج متنوعة لمجموعات متداخلة من قصص حياتهن، كما كانت كل شخصية منهن تعبُر في متْن البناء الدرامي إلى أكثر من شخصية، من دون أن تكون واحدة منهن هي ذاتها. كن مصدر إلهام ولم يكنّ مجرّد حكايات.
العبور إلى الجنوب ليس آمناً، خصوصا مع اشتداد العمليات بعد انتهاء التهدئة
كان أحمد عصامياً، ولأن السجن حرمه فرصة التعليم الجامعي في فترة الشباب، فقد علم كل أبنائه، وأرسل ابنه البكر خليل للالتحاق بالجامعة في ألمانيا، ثم أرسل ابنه الثاني، محمّد، للدراسة هناك. كان أحمد يريد لهما مستقبلاً يليق بالعمر الذي كان يبحث عنه وحرمته منه قسوة الحياة وسوط الجلاد في السجن. كذلك كان محمّد (أبو الرائد) الذي زُرته في بيته قبل أشهر، مهنئاً بعودة ابنه البكر من الدراسة في الجزائر، وقبل ذلك عودة ابنته الكبرى من دراسة الطبّ في مصر. آخر مرّة رأيت فيها أحمد يوم انتقلت من الشمال إلى الجنوب، حيث كانت أختي عيشة وماهر والأطفال وبقية إخوة ماهر ووالداه ووالدته كلهم قد انتقلوا، في آخر ليلة بعد اشتداد القصف في تل الزعتر، للمبيت في بيت أحمد في المخيّم. كان أحمد من ورث بيت العائلة الذي يبعد ثلاثة بيوت عن بيتنا، وظلّ فيه ولم يقم بتعميره، وأبقى عليه كما هو. باتوا كلهم، في تلك الليلة، هناك في البيت الذي ولدوا فيه. في الصباح، كان أحمد يساعد أخاه الأكبر شوقي، والد ماهر زوج عيشة، على صعود السيارة، ويلوح لهم وهم ينطلقون في رحلة لن يروْه بعدها. وفيما كنت أنتظر عودة السيارة حتى تقلني، سألتُه لماذا لا يغادر معنا، قال: المخيّم أمان. ... وهو يعرف أنه ليس آمناً، كما أعرف أنا أنه لا يوجد مكان آمن في غزّة حتى الجنوب الذي انتقلنا إليه. كذلك، ظل أخوه محمّد في المخيّم، ولم يغادر بعد أن ترك بيته في تل الزعتر. كان التواصل صعباً وظل صعباً، حتى بات اللقاء مستحيلاً.
مع اشتداد ضرب الجيش المخيّم، انتقلوا جميعاً إلى منزل أختهم هدى في بلدة النزلة قرب محطة البنزين التي تملكها عائلتهم. يوم أمس، هاجمت الطائرات والدبّابات المنطقة هناك، وهدمت البيت على من فيه. حتى اللحظة تم انتشال 30 شهيداً، منهم أحمد وعائلته ومحمّد وعائلته وهدى الأخت الكبرى وعائلتها، ولم يتمكّن المواطنون من انتشال المزيد، بسبب تواصل القصف والقتل والتدمير. أحمد مثلنا كلنا يبحث عن النجاة. لا أحد يحبّ الموت ولا أحد يريد أن يموت. كل ما في الأمر أنه عمل خياراته، واتخذ القرار الذي اعتقد أنه سيُنجيه من الموت وسيُبعده عنه، فبقي في المخيّم، حتى بات البقاء هناك خطراً. بضعة أيام من القصف المستمرّ، حتى وصلت الدبّابات إلى مشارف الحارة التي لم تعد حارة، وصارت القذائف تسقط فوق البيوت، فقرّر أن يذهب إلى منطقةٍ ظنّ أنها أكثر أمناً. كان ذلك الشارع الواقع في قلب بلدة النزلة وصولاً إلى أطراف بلدة جباليا، وهو شارع ضيق جداً لكنه مركز الحياة هناك، كان ملاذاً لكثيرين، وهم في طريقهم إلى الحياة هرباً من الموت. كان يفكّر بالتوجه جنوباً، بعد أن تهدأ الأمور، فالعبور إلى الجنوب ليس آمناً، خصوصا مع اشتداد العمليات بعد انتهاء التهدئة، لكن الموت باغته من حيث يدري ومن حيث لا يدري. كان يتوقّعه؟ ربما. كان يعرف أنه قد يأتيه في أي لحظة؟ ربما. ولكن المؤكّد أن أحمد رحل مبكّراً، وترك في قلوبنا وجعاً عميقاً لن يخفّف منه شيء سوى أننا سنواصل النظر لشاهد القبر، بعد أن نبني قبره، وأقرأ تلك السنوات بين ميلاده ووفاته، فأتذكر أنها نصف قرن من عمري، نصف قرن يمكن لي أن أسرد الكثير من تفاصيل حياته نيابة عنه، فقد عشتُها معه. من سيجرُؤ منّا بعد أن تنتهي الحرب على أن يذهب إلى المقبرة، ومن سيجرؤ على الوقوف لتأمل أسماء من رحلوا؟ ومن سيقدِر على تحمّل كل هذا الوجع من دون أن يتكئ على شاهد قبر، فتفجعه الأسماء وتجرفه الذكريات، قبل أن تودي به داخل حفرةٍ قرب الشاهد؟
لا شيء إلا التفكير في أن هذا الألم مستحقّ، وأن هذا الوجع باق، وأن ما جرى لا يمكن أن يسير في خط مستقيم
ثمّة صورة في ألبوم العائلة، لعلها ذهبت مع قصف بيتنا في المخيّم، لنا أحمد ومحمّد ونعيم أخي، حيث كان نعيم يحلق شعر محمّد فوق سطح بيتهم في المخيم. وكان الصعود فوق سطح البيت المتنفس الوحيد لنا خلال منع التجوّل، فالجيش يمنعنا من السير في الطرقات والأزقّة، نقفز بين أسطح البيوت للتنقل من بيت إلى آخر. كنّا نجلس ساعات فوق سطحهم أو سطحنا أو سطح أصدقاء آخرين نلعب ونلهو، وكانت أسطح المخيّم من السبست أو الزينكو أو القرميد، ولم يكن هناك مكانٌ نجلس عليه إلا فوق سطح المطبخ والحمّام الذي يكون عادة من الباطون أو الأسمنت المقوّى. كانت تلك الجلسات تشكل لنا ترفيهاً لا يضاهيه الجلوس الآن على شواطئ الريفيرا أو عطلة في الكاريبي. كان هذا أقصى ما يمكن لنا فعله. ولم يكن الجيش ليتركنا وحالنا بالطبع، لأننا لم نكن أيضًا نتركه في حاله، فنرمي الحجارة على الدوريات، وهي تسير بين الأزقّة ونهرب من سطح إلى سطح.
لم أنم طوال الليل من شدّة الألم والوجع والإحساس المرير بالخسارة. في الليل، كتب إلي خليل، ابن أحمد، على "فيسبوك": "صاحبك العتيق مرضيش يطلع وكان بدور ع شربة ميّة لأولاده.. يا ريت تنساش أي لحظة حلوة معه يا ريت، أبوي كان غلبان".
عند الرابعة فجراً، بدأتُ محاولات الاتصال بعيشة وماهر لتعزيتهما وللاطمئنان عليهما وعلى الأولاد وعلى بقية العائلة. عند السادسة، تمكّنت من الحديث معهما. كانا منهاريْن. تحدّثتُ مع والد ماهر، الأستاذ شوقي الذي خسر أخويه وأخته وعوائلهم. لا يمكن مقاومة الدموع ولا يمكن لأحد أن يكون أكبر من الوجع. لا كلمات يمكن لها أن تواسي، ولا عبارات يمكن أن تزيح قليلاً من الألم. لا شيء إلا التفكير في أن هذا الألم مستحقّ، وأن هذا الوجع باق، وأن ما جرى لا يمكن أن يسير في خط مستقيم، لأن طرقات الألم متعرّجة، ولأن طبوغرافيا النسيان غير آمنة.
تناولت، مساء أمس، الغداء، وهي الوجبة الوحيدة لي طوال النهار، عند صبحي شاقليه في خربة العدس. صبحي مسؤول التنسيق في الهلال الأحمر، نزح للعيش في بيت عديله في الخربة، هو وزوجته وابنته الوحيدة، بعد تهدّم منزله في النصيرات. وبيت عديله قريب جداً من مقرّ الهلال هنا. أعرف صبحي قديماً فهو صديق تجمعنا ذكريات ومواقف، وكنّا التقينا أكثر من مرّة في منزله في النصيرات، أو في مكتبي في رام الله.
نعم، كانت تلك المرّة الأولى منذ الحرب التي أجلس فيها على كرسي لأتناول طعاماً موضوعاً على طاولة سفرة. كأنني نسيتُ شكل طاولة السّفرة، ونسيت كيف يكون الإحساس حين تجلس حولها. نسيتُ كيف يكون ثمّة شوكة وسكينة وملعقة، وثمّة وعاء للطعام تسكب منه في صحنك. نسيتُ تقاليد الطعام التي هي جزء من حياتنا الطبيعية، لأن حياتنا لم تعد طبيعية. انتبه ياسر إلى الأمر، وقال بعد أن أكلنا إن هذه المرّة الأولى التي نأكل فيها على طاولة الطعام. تناولنا الحلوى بعد الطعام وشربنا القهوة، وهذا بحدّ ذاته أيضاً شيء جديد منذ أشعلت الحرب أيامنا بلهيبٍ لم ينطفئ بعد. بعد الطعام، جلسنا في الصالون نتحدّث في أمور شتى. كنّا أنا وياسر وصبحي وزوجته وابنته وعديله وزوجته، وكان طفل عديله الصغير يلهو حولنا. كان القلق والخوف من القادم كبيرا. كان الجيش قد نشر خريطة لقطاع غزّة وللبلوكات المختلفة فيه يطالب سكّان غرب مخيم البريج والأحياء شمال مخيم النصيرات أو ما يعرف بالمخيم الجديد بالنزوح نحو دير البلح، لأن هذه مناطق عمليات وقتال. بالنسبة لصبحي، هذا يعني أن البيت الذي انتقل إليه والده ووالدته بات في خطر، وأن عليه أن يفكّر بطريقة يُحضرهما للعيش معه في بيت عديله. قال لأن الطريق لم تعد آمنة، لكنه سيحاول يوم غد. انتقل بنا الحديث من قلق الحاضر إلى ألق الماضي والذكريات والصداقات المشتركة بيننا، بعد أن اكتشفنا العديد منها في الحديث الذي يبدو مستقطعاً عن زمن محدّد، ثم ما يلبث الزمن أن يبرخ على الطاولة، يجذبنا للمزيد منه وعنه. حلّ الليل وأعتم البيت وواصلنا شرب القهوة والحديث، حتى وجب الرحيل.
كل شيء ذهب وانتهى، حتى غزّة لم تعد موجودة كما نعرفها
اليوم عيد ميلاد يافا. أشتاق ليافا، ومن لا يشتاق ليافا! لم أتمكّن من الوفاء بوعدي والاحتفال بها في البيت. يوم ولدت يافا، كنت عائداً من إسطنبول إلى القاهرة. كانت هناء في مستشفى القدس التابع للهلال في تل الهوا، وقد وضعت طفلتنا الأولى بعد أربعة أولاد. اشتريتُ "الكنتاكي" وجبة العائلة من العريش وعبرت إلى غزّة. في المستشفى، كانت الطفلة الأجمل تبحلق بعينيها غير مصدّقة أنها جاءت لهذا العالم. كان وصولها فرحة عارمة لنا كلنا. في آخر مساء لي في رام الله، قبل سفري إلى غزّة، كنّا نحضر فيلماً، حين مددتُ يديّ ليافا لتداعبها كما تفعل دائماً، فحرّكت أصابعها من بعيد كأنها تداعب كفّ يد. لم أكن أعرف أن هذه الحركة ستُلازمنا أكثر من شهرين ونصف الشهر، حيث ستداعب يافا عبر الهاتف، وحين نتحدّث، صورة وصوتا، كفّ يدي عن بعد. هل كانت تلك الحركة العفوية من طفلةٍ نذر شؤم عن فراق قادم سيطول أكثر من مجرّد رحلة عمل قصيرة؟
بعد أن تحدّثت لعيشة وعائلة زوجها، هاتفت هناء حتى أهنئ يافا بعيد ميلادها. كان صوتها ناعساً ورطباً وهي تفيق من النوم. كانت قد شاهدت ما كتبتُه على صفحتي على "فيسبوك" عن عيد ميلادها. اليوم آخر امتحان تتقدّم به قبل عطلة رأس السنة. كانت خطّتي، أنا وهناء، أن نزور غزة كلنا في مثل هذا اليوم، حيث يكون الجميع قد بدأ الإجازة. كانت الفكرة أن نمضي أسبوعاً في غزّة، حيث تجتمع هناء بعائلتها المكوّنة من والديها وبيت أختها هدى، ويمضي الأولاد أوقاتهم مع محمّد ابن هدى ويافا التي تحب بنات خالتها اللاتي يكبرنها بكثير، تجد الكثير من الوقت للعب معهم. لكن ذلك كله ذهب مع الريح، فلا هدى موجودة ولا الأولاد ولا البيت ولا بيت عائلة هناء ولا بيت عائلتي. لا شيء. كل شيء ذهب وانتهى، حتى غزّة لم تعد موجودة كما نعرفها.
في آخر لقاء قبل الحرب بشهر تقريباً، نزلنا كلنا إلى غزّة. كان ذلك قبل أن يبدأ العام الدراسي. لم يكن أحدٌ يعرف أنها اللمّة الأخيرة للعائلة. أعارني صديق الشاليه الخاص به قرب شاطئ البحر، وأمضت هناء ويافا والأولاد يوماً كاملاً برفقة بيت هدى، وسبحوا في البركة، وناموا حتى ظهر اليوم الثاني. كان ذلك آخر ما يمكن لهناء وليافا أن يتذكّروه عن هدى وعائلتها. اليوم كان اليوم الذي يجب أن نجهز فيه أنفسنا للنزول إلى غزّة يوم غدٍ، لنمكث أسبوعاً في نعيم العائلة التي لم تعد موجودة، وكان سيكون عيد ميلاد يافا سبباً آخر لتحقيق تلك اللمّة.
كبُرت يافا أيضاً عاماً آخر.
(24 ديسمبر)
عند الثانية بعد منتصف الليل بقليل، لمعت السماء ودوّى الانفجار. كان قريباً جدّاً، وكان الصوت عالياً ومرعباً وذهب النوم. تبدو مثل تلك الحالات مثل استفاقةٍ مؤقتةٍ من النوم، لكن النوم يهرُب وتهرُب معه الطمأنينة التي كنت تلتحفها خلال نومك المؤقّت. نومك المؤقت أم استفاقتك مؤقتة؟ أنت لا تعرف، لأنك لا تفهم ما يجري، ولا تعرف إذا كان هذا الانفجار قريباً جداً فعلاً، أم أن أحلامك تعيد إنتاج الصدى، فيتردّد في أذنك طوال الليل، أم أن صوت انفجاراتٍ أخرى تظلّ تدوّي تباعاً، كأن الصاروخ ينادي على صاروخ آخر فيردّ عليه، مثل الديكة في الليل، حين يبدأ ديك بالصياح، ترد عليه بقية الديكة بالتتابع. استهدف الصاروخ ذاته منزلاً لعائلة "أبو العوف" في تل السلطان، وقتل اثنيْن، وجرح آخرين. ثمّة صواريخ كثيرة قتلت آخرين في الليلة نفسها، وثمّة جرحى لم يجدوا من يُخرجهم من تحت الركام وغيرهم لم يجد سريراً في المستشفى، حتى يتمدّدوا عليه، ففرشوا لهم بطّانية رفيعة في الممرّ المبلط أمام المستشفى، حتى يجدوا بعض الراحة. لا دواء ولا مخدّر ولا عمليات جراحية، فقط انتظار معجزة أن يلتئم الجرح وحده. انتهى زمن المعجزات أم أن المعجزات معلّقة في جيب "بابا نويل" الذي لن يصل في أعياد الميلاد هذا العام. نمتُ وأنا أتوقع صوت الصاروخ القادم، وأسمع صدى صوته من بعيد من جهة الشرق، ومن الشمال جهة خانيونس.
جلست وحيداً في الخيمة. الخيمة التي صارت الآن بيتاً. البيت المؤقّت الذي يعطيني إحساساً أن لي مكاناً أخلد إليه في الليل، حيث فرشتي ومخدتي، وحيث أجلس أشعر ببعض الخصوصية، رغم أن أي عابر من أمام الخيمة سيراني. ومع ذلك، أتظاهر أن المكان لي، أن الخيمة خيمتي، بياء الملكية، وبأن ثمة شيئا لي، شيئا لم تتركه الحرب، بل أوجدتُه، أنا خلال بحثي عن العيش مع ظروف تلك الحرب. أجلس في خيمتي أعدّ الأيام التسعة والسبعين التي مرّت أمام عيني، ومررتُ بها والتي مررْنا سوية، أنا وهي، الحرب، فأجد أنني فقط في هذه الخيمة أجلس لأستعيد بعض التوازن، التوازن الذي مجرّد وجودي في الخيمة يعني أنه غير موجود.
لا طفل ينتظر الهدايا، ولا شجرة ميلاد تمسك الضوء المرسل من السماء
من البيت إلى الخيمة، مثل جدّتي عيشة من بيتها في يافا إلى الخيمة. حكايات تتكرّر وخيام تتكرّر. ليست الخيمة قدراً، كذلك النكبة ليست قدراً. في المخيّم، تنتشر الخيام في كل مكان متجاورة ومتباعدة، وحيث تتباعد ينصب أحدهم خيمة صغيرة، حتى لو كان بحجم خمّ الدجاج. بين الخيمة والخيمة خيمة، وبين الضيق والضيق ضيقٌ أشدّ وبين الزقاق والزقاق ممرّ صغير معبّأ بالخيام. محظوظٌ من لديه خيمة. ويشير مثل هذا القول إلى خيمة جاهزة، لأن بعضهم يصنع خيمته من أوتاد وألواح خشبية وقطع نايلون وشوادر بلاستيكية أو بطّانيات، مثلما فعلت حين جهّزت خيمة حماي وحماتي. وبالطبع، تعكس جودة الخيمة ما تجود أنت عليها به من خشب وأغطية. ينصبُ بعضهم، من قلة الحال، خيمة من ألواح خشبٍ بسيطة وقطع نايلون خفيفة، يشتري بعضهم نايلون سميكا وأخشابا متينة. لذلك، لا تتساوى الخيام، ويمكن لك أن تعرف بنفسك وأنت تسير بينها. أما الخيام الجاهزة، فكلها عليها شعارات الدول التي تبرّعت بها، وهي شعارات تكاد تكون أعلاما لتلك البلدان منصوبة فوق أرضنا، وبعض الأجزاء من المخيم الكبير تكون كلها من خيام من دولة واحدة، فيبدو هذا الجزء من المخيم كأنه منطقة عسكرية خاصة بتلك الدولة. ومع ذلك، فحصولك على خيمة جاهزة اكتفاءٌ تُحسَد عليه.
أجلس في خيمتي التي أشير إليها، وأنا أتحدّث مع أصدقائي في المخيّم في الليل، حين أريد أن أغادر، إنني "بدّي أروّح" وهي عبارة تشير إلى البيت، البيت الذي فقدناه كلنا، وصرنا نعيش بعده في الخيام. أنظر إلى بعض ملابس معلقة، وأنظر إلى مخدّة ابني ياسر وفرشته ولحافه، أنظر إلى كأس الشاي الفارغ الذي شربته للتو، ولبقايا قطعة البسكويت التي أكلتها، ولم أستسغها، فوضعتها جانباً، أنظر إلى ظلال شجر الزيتون الصغيرة المجاورة للخيمة، وأفكّر في تلك السنوات المقبلة، حين تكبُر وتمتلئ أغصانها بحبّات الزيتون الخضراء، وبذلك الزيت الذي سيتم استخراجه منها. أفكّر أنني لا بد لن أكون موجوداً فهذه خيمة مؤقّتة. ثم أفكّر كيف ظنّ جدّي إبراهيم مثلي، قبل 75 عاماً بعد أن ترك يافا وهو في مثل سنّي ليعيش في خيمة. حتى حين سنحت له الفرصة لزيارة يافا بعد النكسة رفض أن يراها. أفكر أنني إذ غادرت هنا قد أعود بعد زمنٍ للبحث عن شجرة الزيتون وزيتها. كأنني أسافر بالزمن أبحث عن المفقود منه في متن اللحظة، أو أستعيد القليل من توازني، وأنا أنظر في وجوه سكان الخيام، وقد بدأ نهارهم القاسي مع الدخان المتصاعد من المواقد ورائحة الشاي، ثم الصبية يحملون أرغفة الخبز في صينية كبيرة في الطريق إلى فرن الطينة. ... لا شقشقة عصافير في هذا الصباح، ولا مرح التلاميذ الذاهبين إلى المدارس، ولا فراشات تحطّ على النوافذ، فقط قلق البحث عن الحياة ومحاولة تجنّب الطرقات التي يمرّ منها الموت. نهارهم ليس إلا ضياعا في متاهة مرسومة لهم بعناية.
ذهبتُ لزيارة خالتي نور في خيمتها. نظرتُ في وجه المرأة التي خرجت من يافا طفلةً لتعيش في خيمة، وها هي الآن بعد 75 عاماً تعيش في خيمة. كانت تتناول فطورها، قطعة الخبز مع قليل من الجبن. الفطور نفسه الذي تتناوله كل صباح منذ أسابيع، حتى تتمكّن من تناول الدواء. اشتكت أن الندى ما زال يبلّل الخيمة. رفعت يدها جهة سقف الخيمة، كأنها تريد أن تريني كيف ما زال الماء عالقاً. ليست الخيمة قدر الفلسطيني. خطر لي أن أسألها عن الفرق بين الخيمتيْن. كانت تواصل السؤال عن أفراد العائلة الذين ظلوا هناك في مخيم جباليا. القلق الذي تعبّر عنه بالسؤال لا تخمده الإجابات.
لا بابا نويل في غزّة، فالكنيسة تعرّضت للقصف، والمؤمنون يبتهلون للربّ تحت رحمة القذائف التي أخذت بعضَهم
ليلة أمس كان عيد ميلاد أحمد ابن خالتي نور. أيضاً عيد ميلاد يافا. قرّر الشباب أن يحتفلوا بميلاد أحمد. حضّروا فشارا على النار. جلسنا في خيمتي، وجاء الفشار كأنه كعكة عيد ميلاد. كان طعم النار غالباً على طعم الفشار، فلم نأكل منه إلا القليل. لكن الفكرة، بحدّ ذاتها، جلبت بعض الفرح، ونحن نسمع صوت الطائرة الزنّانة تحوم حولنا في انتظار قنصها الجديد. كانت السهرة مثل كل السهرات السابقة مليئةً بالقلق والحيرة والسؤال عن المستقبل. هل يعرف أحدُنا أين يسكن المستقبل؟ هل من عنوان بريدي يمكن أن نخاطبه عبرَه؟ يواصل الجيش ترحيل المواطنين من الأماكن الشرقية في رفح. سيكون شارع صلاح الدين فاصلاً تتقدّم نحوه الدبابات من أجل حشر جميع السكان في المنطقة الغربية. قليلو الحظ هؤلاء الذين يصلون الآن لأن معظم الأماكن نُصبت خيام فيها، وسيكون عليهم أن يبحثوا عن أي مكان فارغ، لينصبوا فيه خيامهم. ثم قفز السؤال الأهم: هل سنرجع إلى الشمال؟ لا حديث الآن عن العودة، ولا عن انتهاء العمليات هناك. بل المزيد من القتل والمزيد من العمليات البشعة والجثث متحلّلة في الطرقات، والناس تموت كل دقيقة.
هاتَفت أختي نعيمة أخي إبراهيم هذا الصباح، لتخبره أن والدي لم يعد يقدر على المشي، من سوء التغذية فلا يوجد طعام ولا يوجد ماء، وحتى الخبز لم يتناوله منذ أكثر من أسبوع. حتى إنه لا يستطيع المشي نحو الحمّام. الحياة في جباليا صعبة وقاسية. نعيمة التي نزحت إلى مدرسة لوكالة الغوث سرقت بعض الوقت قبل المغيب لزيارته مساء أمس، وصعقت لحالته. الوضع الصحي في شمال غزّة يرثى له، فالمساعدات لا تدخل إلى الشمال منذ نهاية التهدئة، والمنظمات الدولية لا تسأل عن الوضع هناك، والناس متروكون للغيب. لم نعرف ماذا نفعل. وقفتُ، أنا ومحمّد وإبراهيم، حائرين. لا شيء يمكن فعله إلا انتظار ذلك الغيب.
دخلت امرأة بدوية تشتكي أنها لم تحصل على أي مساعداتٍ منذ نزحت من بيتها قرب الحدود. "شيخ العشيرة ما جاب لي، جاب لجماعته". اختصرت عبارتُها التي خرجت منها بمرارة كل شيء. كانت لهجتها البدوية الحادّة تشبه ثوبها وغطاء رأسها الذي تلف جزءاً منه حول ذقنها. كان صوتها متهدّجاً، وهي تبكي من قلّة الحال. "طلعنا ما معنا شي لا لحاف ولا فرشة ولا غنمة حتى". تريد لحافاً تلفّ به نفسها في الليل. تنتقل من مكان إلى آخر ومن بيت إلى بيت ومن ناس إلى ناس لم تجد خيمة بعد. لا خيمة لها ولا لحاف. كل ما تطلبه لحاف تتغطّى به في البرد. طلب منها أبو رياض أن تلحق به، حيث سيقتسم معها الأغطية الأربعة التي في حوزته. غصّة حادّة تصيبني، وأنا أتأمل كيف يمكن لسيدة في السبعين أن يصل بها الحال، ويتركها الزمن قشّة في مهبّ العواصف. خلال تلك الساعات التي أجلس فيها في "الهلال الأحمر" أستمع لعشرات القصص، وأشاهد عشرات النازحين الباحثين عن المعونة. لا شيء يكفي، ولا شيء يمكن أن يسد الحاجة. دخل شابٌّ يطلب حليباً لطفله الأول الذي ولدته زوجتُه في غزّة قبل أسابيع، ثم نزحوا بعدها حين أصابت القذائف منزلهم إلى الجنوب. لم نحمل شيئاً إلا الطفل. لم يتركوه، كان همّهم أن يلفّوه ويحملوه معهم. تركوا كل شيء، لأن لا وقت حتى يحملوا شيئاً إلا الطفل حتى ينجوا بجلودهم. يريد فقط حليباً وحفّاظات للطفل. في المدرسة التي نزحوا إليها لم يقدّموا لهم شيئاً. حتى صدر زوجته لا يدر حليباً كافياً للطفل من سوء التغذية. الكلّ يعاني من سوء التغذية، والكل لا يجد ما يكفيه.
جلستُ، أنا والكاتبة الروائية إيمان الناطور والفنان المسرحي الشاب كريم ستوم في "الهلال". تهدمت بيوتنا في غزّة والشمال، وثلاثتنا عبرنا طريق الآلام نحو الجنوب. جُبنا خلال الساعة مساحاتٍ من القلق والهموم المشتركة وعتمة المستقبل والغد. هل ثمّة غد؟ السؤال الذي يكشف ضيق المتاهة. ويزيد غياب الإجابة من متاهة السؤال. واجه كتّاب وفنانون محنة النزوح، وكبرت الأسئلة في أعمالٍ لم تولد بعد.
لن يصل بابا نويل إلى غزّة اليوم. لن يجد بيوتاً يزورها ولا أطفال يترك لهم هداياه. سيفتش عنهم في المقابر أو تحت الركام أو في الخيام. سيحضُر لهم مظلاتٍ تقيهم المطر أو خيمة أفضل تحميها من البرد أو سترة فرو تدفئهم. لا بابا نويل في غزّة، فالكنيسة تعرّضت للقصف، والمؤمنون يبتهلون للربّ تحت رحمة القذائف التي أخذت بعضَهم، وهم يسألون يسوع الرعاية والأمان. لا بابا نويل هذا العيد، ولا عيد، فالأجراس حزينة، والطفل يبكي في حضن أمه.
لا طفل ينتظر الهدايا، ولا شجرة ميلاد تمسك الضوء المرسل من السماء، ولا نجمة يهتدي بها المجوس، فقط قتلة يدقّون المسامير في الأجساد الطاهرة.