أسّست منظمة الأمم للطفولة (يونيسف) وشركاؤها صندوق "التعليم لا يمكن أن ينتظر" عام 2016 من أجل المساهمة في تأمين التعليم لجميع الأطفال حول العالم، وصولاً إلى دعم 75 مليون طفل بحلول عام 2030. ومنذ تأسيسه، شهد العالم زيادة في الصراعات والتحديات، منها تفشي كورونا. في هذا الإطار، التقت "العربي الجديد" رئيسة الصندوق ياسمين شريف، للحديث عن التحديات التي تواجه الصندوق والمكاسب التي تم تحقيقها
- عدتِ أخيراً من أفغانستان حيثُ التقيت بمسؤولين في الأمم المتحدة على الأرض ومنظمات مجتمع مدني ومسؤولين في حركة "طالبان"، ما هي انطباعاتك بعد الزيارة؟ وما هي التحديات التي تواجهكم هناك؟
لم تكن هذه أول زيارة لي إلى أفغانستان، وأعرف البلد بمقدار لا بأس به بعدما توليت مهمات عدة ضمن عملي في مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة وعلى مدار العقود الأخيرة. أول زيارة لي مع الأمم المتحدة كانت عام 1990 وعملت هناك لسنتين، ثم عدت في مهمات مختلفة أكثر من مرة، من بينها عام 1999 عندما استولت "طالبان" على الحكم، وفي ظل الحكومة الأخيرة والآن مع استيلاء الحركة مجدداً على الحكم. ما لاحظته الآن أن البلاد على حافة كارثة إنسانية. ومنذ استيلاء "طالبان" على الحكم، جمدت مؤسسات مالية ومصرفية مهمة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات أموالها ومساعداتها. بعض المانحين بدأ بالتراجع عن تلك الخطوات، لكن وخلال السنوات العشرين الماضية، كانت 75 في المائة من ميزانية الدولة تأتي من المساعدات الدولية. عندما تتوقف فجأة، وهو ما حدث مع استيلاء "طالبان" على الحكم في شهر أغسطس/ آب، فإن أول المتضررين هم الناس العاديون والشبان والفتيات. وهذا ما رأيته نتيجة لتجميد المساعدات والأموال. الوضع على حافة الانهيار.
انطباعي الآخر هو أن هناك تغيراً طرأ على "طالبان". طبعاً، علينا أن نكون شديدي الحذر عندما نقول هذا. في زيارتي الأخيرة، لاحظت وجود نساء يتظاهرن في الشوارع، وذهبنا إلى مدرسة للفتيات. هناك عدد أكبر من النساء المتعلمات. وذهبنا إلى كل هذه الأماكن مع السلطات الفعلية لوزارة التربية، أي مسؤولين من "طالبان". عندما التقينا بمسؤولين من الحركة ووزارة التعليم هناك، لم يتحدثوا عن منع الفتيات من الحصول على تعليمهن بما فيه التعليم الثانوي. لاحظنا عودة الفتيات إلى المدارس الابتدائية. ووعدت الحركة بالعمل على خطة من أجل السماح بعودتهن إلى التعليم الثانوي والجامعات. ونحن ننتظر لنرى حيثياتها. هناك تفاوت داخل "طالبان" في النظرة إلى هذا الموضوع. على سبيل المثال، أعلنت "اللجنة السويدية من أجل أفغانستان" (إس.سي.إيه)، أخيراً، أنها توصلت لاتفاق لإعادة فتح المدارس الثانوية التي تدعمها للفتيات في 14 إقليماً من أصل 36. التعليم هو الأساس من أجل إعادة بناء أفغانستان. نحتاج إلى مليارات الدولارات في قطاع التعليم. لذلك، من الضروري تحرير الأموال المجمدة.
- في ما يتعلّق بتجميد الأموال الأفغانية أو أموال المساعدات، فإن حكومات الدول المانحة كما الأمم المتحدة لا تريد دفع أي أموال مباشرة لحركة "طالبان". وهناك حديث عن طرق بديلة، من بينها دفع جزء منها لمنظمات الأمم المتحدة على أن تتولى الأخيرة دفع رواتب المدرسين على سبيل المثال. إلى أي مدى هذا ممكن؟
نعم. دعيني أقول التالي، أولاً، شهد الوضع الأمني تحسّناً ملحوظاً، وهذا يعني أن منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية يمكنها الوصول والتحرّك بشكل أفضل داخل أفغانستان. وقالت "طالبان" إنها لا تريد أن يتم تحويل المال لها، لكن ما يهمها هو دفع تلك الرواتب. أعتقد أن كثيرين لا يعرفون كيف يعمل نظام الأمم المتحدة. هناك ما يعرف بـ"نظم تنفيذية مباشرة" في الأزمات الذي يختلف عن الميزانيات العادية. في الصراعات والأزمات، يجب ألا نعطي أي أموال مباشرة لأي طرف أو حكومات فاسدة أو تلك التي لا تعمل مؤسساتها. والقضية ليست إما أن نقوم بالتنمية أو لا شيء. هناك إمكانية لإعطاء هذه الأموال لمنظمات الأمم المتحدة من دون أن تمر عن طريق الحكومة أو السلطات الفعلية في حالة أفغانستان. وفي ما يخص رواتب المدرسين عموماً، لدى "يونيسف" آلية قوية مستخدمة ويمكن عن طريقها دفع رواتب المدرسين في أفغانستان إذا توفر التمويل. ومن الضروري أن نتعامل مع التعليم في الأزمات باعتباره من الحاجات الأساسية بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية. وإلا، فإنك تطعم وتكسي المحتاجين فقط. هذا أساسي ولكن التعليم أساسي كذلك. ونأمل أن تُعطى أولوية للتعليم.
- تُقدّمون خدمات في عدد من الدول العربية وخصوصاً تلك المتأثرة بالنزاعات، من بينها سورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن وفلسطين، ما هي التحديات التي تواجهكم في تلك الدول وما حجم الحاجة؟
يذهب ثلاثون في المائة من تمويلنا إلى الشرق الأوسط. ويجب زيادة هذه الاستثمارات لأن الحاجة تزداد. أشعر بالألم عندما أنظر إلى وضع الكثير من الدول في الشرق الأوسط، المنطقة التي كانت مهداً للحضارات. واليوم، تعيش نسبة كبيرة من السكان، وخصوصاً في مناطق الصراعات، تحت خط الفقر ومن دون تعليم. عندما نتحدث عن التعليم الآن، فإننا نتحدث كذلك عن مستقبل تلك الشعوب.
تختلف التحديات بحسب كل دولة. إذا نظرنا على سبيل المثال إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، نجد أن نظامها التعليمي ممتاز. ومن دون مبالغة، يمكنه منافسة الكثير من المدارس حول العالم. لكن العديد من هؤلاء التلاميذ يتخرجون من المدرسة ولا يمكنهم الالتحاق بالجامعات، طبعاً بحسب البلد، ناهيك عن تحديات الحصول على عمل أو السماح بالعمل للفلسطينيين في بعض تلك الدول.
أما سورية، فتشهد أكبر نسبة مهجرين في العالم (داخلياً وخارج سورية). بعد تسع سنوات من الصراع، فإن الحصول على الخدمات الأساسية تقلص بشكل ملحوظ، ناهيك عن الانتهاكات والعنف ضد الأطفال. كما أن نحو خمسين في المائة من الأطفال السوريين غير قادرين على الذهاب إلى المدارس لأسباب عدة، منها اقتصادية، عدا عن الصراع. ولا يمكن للعائلات توفير تكاليف التعليم الأساسية، إذ إن هناك فقراً مدقعاً. كما أن تسعين في المائة من السوريين داخل سورية يعيشون تحت خط الفقر. وتضطر عائلات إلى تزويج بناتها بعمر مبكر في وقت تلجأ أخرى إلى تشغيل الأطفال. وهذا محزن جداً. قبل الحرب، كانت سورية واحدة من الدول التي كان التعليم الحكومي فيها متاحاً للجميع. ونشهد وضعاً مشابهاً في العراق ومناطق أخرى من الشرق الأوسط. هذه دول تتمتع بحضارات عريقة وثقافات غنية جداً والآن: أين وصلنا؟ هذه تراجيديا إنسانية.
في ما يخصّ عملنا في سورية، تمكنّا من تقديم خدمات لنحو 250 ألف طالب مدرسي وتقديم تعليم ذي جودة. ومن خلال شراكتنا مع "يونيسف" منذ عام 2017، فإن 51 في المائة من الذين حصلوا على تلك الخدمات هم من الفتيات.
وفي ما يخص لبنان، فإنّ الوضع صعب جداً، إذ يستضيف لبنان أكبر نسبة لاجئين في المنطقة مقارنة بعدد السكان. وهناك وضع اقتصادي صعب، بالإضافة إلى انفجار مرفأ بيروت وتحديات أخرى. لا نستثمر بتعليم للاجئين والمهاجرين السوريين فحسب، بل كذلك ببرامج تشمل أطفال المجتمعات المضيفة والمهمشين. عملنا كثيراً مع اليونيسف، كما دعمنا الأونروا ومؤسساتها التعليمية في لبنان، وخصوصاً عندما تم وقف تمويلها (من قبل الإدارة الأميركية السابقة)، ودعمنا برامج تعليم الأشخاص ذوي الإعاقة.
ونشعر بقلق شديد بسبب الأوضاع في اليمن مع استمرار الصراع وتدمير آلاف المستشفيات ومنشآت المياه والصرف الصحي. جزء من استراتيجيتنا في اليمن هو دعم نحو 24 في المائة من الأطفال النازحين في المناطق الساحلية، ونقدم الدعم في عدد من المجالات الأخرى. كما قدمنا حتى الآن 19 مليون دولار لقطاع التعليم في اليمن.
- ذكرت في إجابتك أنكم تقدمون "خدمات تعليم الجودة". ما المقصود بهذا؟ ما الذي تقومون به الضبط؟
نعمل عن كثب ونقدم و/أو ندعم خدمات شاملة مستمرة من الصف الأول إلى الثاني عشر، ونؤيد تقديم دعم لفترة الحضانة وقبل الصف الأول، لأن هذه السنوات مهمة في تكوين الأطفال. تعليم الجودة يعني كذلك تدريب المدرسين للتعامل مع التعليم في مناطق الصراعات، وإتاحة أماكن تدريس ملائمة، ووجبات طعام، ناهيك عن الخدمات الاجتماعية والنفسية لهؤلاء الأطفال الذين عاشوا أو يعيشون حروباً. باختصار، العمل ضمن منظومة أوسع وتقديم خدمات شاملة.
- إلى أي مدى ترين أنه سيكون للتغير المناخي تأثير سلبي على التعليم؟
كثيراً ما يؤدي التغير المناخي إلى كوارث طبيعية، ويجبر الناس على النزوح. يمكن القول إن هذه هي العلاقة المباشرة بين التغير المناخي والتعليم. ففي حال اضطررت للهرب، غالباً ما ستترك الدراسة أو تنتقل للدراسة في مكان آخر، الأمر الذي سيؤدي إلى الانقطاع عن التعليم أو تعطيله لفترة ما أو بشكل كلي. وعندما لا يحصل أي طفل على التعليم، فهذا سينعكس على مستقبله ويشكل تحدياً لتطوره المهني ومستويات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، عندما تحدث كوارث طبيعية وتزداد نسبتها وحدتها نتيجة للتغير المناخي، كالعواصف والأعاصير والهزات الأرضية، فإن ذلك يؤثر على البنى التحتية عموماً ويؤدي إلى توقف المدارس عن تقديم خدماتها. لذلك، من الضروري القيام بجهود إعمار وإعادة تأهيل سريعة من أجل إعادة فتح المدارس.
هناك بعد آخر في ما يخص التعليم والبيئة، وهو أننا نرى اليوم اتساعاً لرقعة المناطق التي تشهد تصحراً. ويؤدي هذا إلى نشوب نزاعات أكثر على الموارد الطبيعية (كالمياه)، وهذا ما نشهده بالفعل اليوم. وعندما تنشب الصراعات، فإن أول المتضررين هم الشباب والأطفال، الأمر الذي ينعكس سلباً على التعليم ومستقبل أجيال كاملة. وعلينا أن نتذكر أن قضية المناخ هي كذلك قضية تعليم وتثقيف، وهناك ربط بين الاثنين. وإذا دعمت التعليم، فإنك تدعم المناخ كذلك. التعليم هو جزء من التنمية. وفي مناطق الصراع، يجب أن نعرف كيف نفعل هذا. والاستثمار في التعليم يعني كذلك الاستثمار ومعالجة قضايا أخرى، من بينها الفروقات الجندرية والمناخ والفقر.
- نسبة بسيطة من ميزانيات المساعدات الإنسانية، أي نحو 2 في المائة تذهب للتعليم، هل لأن المنظمات الإنسانية تحتاج أولاً إلى سداد الاحتياجات الأساسية كالكسوة والطعام والملاجئ أو لأسباب أخرى؟
دعيني أقول إن التعليم هو من الاحتياجات الأساسية. لا يرى الجميع ذلك وأرى أن هذه عنجهية، أي الافتراض أن تعليم أي طفل ليس أولوية أو ليس حاجة أساسية. وهذا أحد أسباب تأسيس مبادرة "التعليم لا يمكنه أن ينتظر". لم يعد ممكناً الادعاء أن التعليم، حتى في المناطق التي تعاني من أزمات ونزاعات، ليس أولوية أساسية. هناك توجه الآن للنظر إلى التعليم بشكل أكبر كجزء من الاستجابة الإنسانية، ونسبة ما يخصص الآن للتعليم من ضمن الاستجابة الإنسانية ارتفعت منذ تأسيس المبادرة. أعتقد أنها تصل إلى قرابة خمسة في المائة الآن.
- أحد أسباب تأسيس صندوق "التعليم لا يمكن أن ينتظر" كان العمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالتعليم. قبل تفشي جائحة كورونا كانت هناك مخاوف جدية من عدم القدرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة عموماً، بما فيها التعليم، بموعدها المحدد، أي عام 2030، هل تعتقدين أنه ما زال ممكناً تحقيق ذلك؟
الأمر ممكن في حال استثمرنا مليارات الدولارات. يجب أن تبدأ الدول المانحة بتقديم تلك الأموال الآن وإلا سنكون واهمين بتحقيق ذلك. بناء أي نظام تعليم هو أمر مكلف للغاية. في السويد على سبيل المثال، التي تتحدر والدتي منها، يستثمر سنوياً نحو عشرة آلاف دولار في التعليم لكل طفل في العام. أما ما نحاول توفيره من خلال برنامجنا هو ما بين 150 إلى 200 دولار. هذا فارق ضخم يعكس الفروقات في هذا العالم، الاقتصادية والاجتماعية، والرقمية وغيرها. هناك فروقات اقتصادية ضخمة. من الضروري أن نعمل على تقليص الفجوة ليس داخل المجتمع الواحد فحسب، بل بين المجتمعات المختلفة. من الضروري أن يكون هناك توازن في هذا العالم، وأن نعمل على تقليص الفروقات. لا يمكن أن يستمر الوضع على هذا النحو. وبصراحة الدول الغنية والقطاع الخاص هم الذين يمكنهم تقليص تلك الفجوة.