ولا عزاء للحمير

26 فبراير 2022
لا يفهم البشر لغة الحمار (أشرف شاذلي/ فرانس برس)
+ الخط -

لفت نظري في زيارتي الأخيرة لقريتي في شمال السودان ظاهرة الانتشار الكبير للدراجات البخارية. ويستخدمها المزارعون المحليون بدلاً من الحمير التي لم يكن يصدر عنها تلوّث للهواء ولا الضوضاء التي تحدثها هذه الكائنات الحديدية المتوحّشة، بحسب ما عبّر أحد الذين آثروا الثبات على عدم نبذ الحمير. وعزا توجّه المزارعين الشباب هذا إلى عدم صبرهم ومقدرتهم على توفير العلف لتلك الحيوانات، في ظلّ التوجه الاقتصادي الجديد، فالمساحات الضيّقة على الشريط النيلي باتت تُزرع بـ"المحاصيل النقدية" (الذي يزرع من أجل الربح). ولا عزاء للحمير وتاريخها المرتبط ارتباطاً وثيقاً بنشاط الإنسان لعقود طويلة، خصوصاً في الأرياف السودانية.
تفيد الوثائق التاريخية بأنّ الحمار النوبي الصومالي (جدّ الحمير الكبير) وُجد في منطقة القرن الأفريقي قبل ما يقارب 12 ألف سنة، وبعد تدجينه انتشر في مناطق عديدة من العالم بصُحبة المسافرين والمستكشفين، حتى إنّ كولومبوس وصل إلى المكسيك والبيرو مصطحباً نصف دستة من الحمير، ثلثها من الإناث. ويذكر كلوتون بروك في كتابه "التاريخ الطبيعي للحيوانات الأليفة - 1999" أنّ الحمار كان أداة لحضارات الشرق الأوسط القديمة، وقد قدّسه الرومان، وقرنه اليونانيون بإله الخمر، وفُصّل له يوم عالمي للاحتفال به والتذكير بما قدّمه للعالم.
في عالم السياسة، وضع الديمقراطيون الأميركيون الحمار شعاراً لحزبهم، في إشارة إلى الصبر والتحمّل. وهذا ما يطابق المقولة السائدة لدينا حين نصف من ينهمك في عمله بلا توقّف بأنّه "حمار شغل"، وقد يكون القصد أحياناً العمل المضني من دون مردود لائق كما يقول الأوروبيون الغربيون.
يذكر أحد قدامى المحاربين السودانيين أنّ الحمير استُخدمت في الحربَين العالميتَين لتحميل الأمتعة والأسلحة وإجلاء المصابين في المناطق الوعرة. وفي معركة كرن الإريترية (1941) بين الإيطاليين والإنكليز وقوات الكومنولث، أُرسلت الحمير أمام الجيش ككشافات ألغام، مثلما استُخدمت في التمويه على العدو إذ عُلّقت الفوانيس ليلاً في رقاب الحمير التي أُبعدت عن المعسكرات، لتصير هدفاً للطيران الغازي فيما تتمكّن الدفاعات الأرضية من توجيه ضرباتها إلى الطائرات. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، بقيت عشرات من الحمير الناجية من الموت في البرية تتكاثر، وتكتسب صفات الوحشية.

موقف
التحديثات الحية

ومن الممكن الآن مشاهدة قطيع من هذه الحمير المتوحشة تجوب البرية شمال شرقي السودان قريباً من الحدود، بلونها البني الفاتح مع البطن الأبيض، تماماً كما هي الحمير المستأنسة.
وكان لا بدّ من أن يجد الحمار طريقه إلى الأدب الشفاهي والمكتوب. ففيما تصفه المقولات بالغباء، ينصفه توفيق الحكيم في روايته الشهيرة "حمار الحكيم" (1940) حين أسبغ عليه صفة الفيلسوف، زاعماً أنّه يستحقّ اللقب أكثر من الفلاسفة أنفسهم. أمّا جورج أوريل، فقد مضى في روايته "مزرعة الحيوانات" (1944) إلى أنّنا لا نفهم لغة الحمار، ولعلّه يضحك علينا لأنّه لا يستخدم عقله في سخافات مثلما يفعل البشر.
(متخصّص في شؤون البيئة)

المساهمون