مع مرور الزمن وتبدّل أحوال المرأة، شهدت الوشوم في الجزائر تغيّرات ولم تعد ثقافة متوارثة. ولأنّها تُلاحَظ اليوم على جلد نساء تقدّمنَ في السنّ خصوصاً، فإنّها ذاهبة إلى زوال.
لا تخطئ العين الوشوم المرسومة على وجوه وأيدي جدّات ونساء مسنّات كثيرات في الجزائر، بأشكال مختلفة تحمل معاني اجتماعية ودلالات ثقافية مختلفة يجد لها الباحثون تفسيرات من ضمن سياق تاريخي، في حين يُسجّل عزوف عن الوشوم لدى شابات جيل اليوم. نانّة العطرة سبعينيّة من هؤلاء النساء، وهي من جبال ثنية العابد في منطقة الأوراس الواقعة إلى شرق العاصمة الجزائرية. ما زالت هذه المرأة جميلة على الرغم ممّا فعلته التجاعيد بها، علماً أنّ وجهها مزيّن بوشم يعود إلى أكثر من نصف قرن من الزمن. بالنسبة إليها هو العلامة الفاصلة بين مرحلة عمرية وأخرى، وبين وضع اجتماعي وآخر، وبين أسلوب عيش وآخر، مضيفة أنّ الوشوم على وجنتَيها وجبينها ويدَيها تعني الكثير لها ولبنات جيلها، إذ هي "البقيّة الباقية من الذكريات في محطات العمر". وتؤكد نانّة العطرة لـ"العربي الجديد" أنّ "الوشم مثله مثل الإرث... غالٍ لا يمكن التفريط فيه". وتشرح أنّه "موروث اجتماعي للنساء في ظروف معيّنة، بالإضافة إلى كونه نوعاً من زينة تضفي على نساء الأوراس والقبائل في الجزائر الوقار ونضج التجارب والوفاء للعشيرة والأسرة والعائلة".
ولكلّ وشم تفسير مرتبط بطبيعة البيئة والثقافة المحلية والعادات المناطقية. بالنسبة إلى لالة يمّونة التي تقترب من تسعينها، وهي من منطقة عين البيضاء شرقي الجزائر، فإنّ وشمها الذي يأتي على شكل مثلّث مع نقاط تعني أوتاد خيمة يمثّل المسكن، "يعبّر عن الوفاء لبيت الزوجية والألم المرافق لغياب الزوج الذي حمل نفسه وهاجر إلى خارج البلد طمعاً في تحسين وضعه الاجتماعي قبل أكثر من ستين سنة".
ويرمز الوشم على الجسد عموماً والوجه خصوصاً إلى الأنوثة، ويبقى على جبين المرأة في الغالب أو خدّها أو يدها حتى الموت. وهو قد يعني الوفاء للزوج الذي غادر مضطراً بيته لينضمّ إلى صفوف الثورة التحريرية في زمن الاستعمار الفرنسي، فيؤدي بالتالي إلى تنفير الرجال من المرأة حتى عودة زوجها حياً أو شهيداً. كذلك فإنّ بعض الخطوط والرموز على جبين نساء عدد من المناطق الجزائرية تدلّ على تلك اللحظة الفاصلة التي تتحوّل فيها الفتاة إلى امرأة، بحسب معتقدات نساء قرية المحمل ذات الأغلبية الأمازيغية في شرق الجزائر. وقد ترمز وشوم معيّنة على الجبين إلى الاحتفاء بمولود أوّل.
تقول الباحثة الجزائرية في الأنثروبولوجيا وحيدة سدراتي، من جامعة أم البواقي، إنّ "الوشم دلالة على ثلاثية العيش لدى الأنثى في منطقة الأوراس ذات الأغلبية الأمازيغية في شرق الجزائر، وهي الحبّ بداعي الخصوبة والزواج، والألم بداعي الفراق في الحياة أو الفراق بالموت، والجمال الذي تختزله تقاسيم وجه المرأة أو الأنثى". تضيف أنّ "الرسم أو النقش على البشرة يُعبّران من خلال علاماتهما عن تأكيد الذات في إطار الجماعة التي ينتمي إليها الفرد".
ويُعَدّ الوشم بطاقة هوية تحملها المرأة أينما حلّت لتكشف عن شخصيتها أو تعرّف عن نفسها أو عن وضع اجتماعي معيّن، من قبيل أن تكون أماً أو متزوّجة أو أرملة أو مطلقة أو غير ذلك. ويذهب الباحث في علم الاجتماع نور الدين بن قارة من جامعة قسنطينة، إلى القول إنّ "الوشم لغة صامتة فهو يحمل دلالات كثيرة". ويوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "الوشم يُعَدّ في أحيان كثيرة علامة من علامات البلوغ والخصوبة. على سبيل المثال، الرسم تحت الذقن يعني الخصوبة ويشير إلى أنّ الفتاة صارت قابلة للأمومة، ويطلق عليه اسم سيالا باللغة الأمازيغية. وثمّة رسومات تدلّ على الحالة الاجتماعية للمرأة، فللمتزوجة على سبيل المثال، رسمان على الخدَّين على شكل جذع نخلة يرمز إلى الخصوبة والعيش على ذمّة رجل. أمّا بالنسبة إلى الأرملة، فيكون الرسم على الأذنَين شبيهاً بلحية رجل". ويلفت بن قارة إلى أنّ "الوشم لا يقتصر على المرأة، إذ يعتمده رجال كذلك، غير أنّه يكون خفيفاً وغير مبالغ فيه كما لدى النساء. هم قد ينقشون حرفاً أو يرسمون وردة".
في الماضي، كانت النساء يجهّزن حبر الوشوم عن طريق عصر ورق الفاصوليا الخضراء، ويستخدمنَ إبراً حادة ومسحوق الفحم مع عطور نباتية. وما زال الوشم يستدعي اهتمام المتخصصين في الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، لأنّه يؤرّخ لعادات وطقوس المجتمعات التقليدية والمجموعات الأسرية التي كانت تعيش في الخيام وفي الجبال الجزائرية، وسط طبيعة قاسية.
وتفسّر المتخصصة في علم النفس سعيدة بلمداح، من جامعة البليدة، لـ"العربي الجديد" أنّ "الوشم لدى المرأة الجزائرية تعبير ضمنيّ لمطالب وقيم إنسانية يحمل بعدَين أو اتجاهَين. فالأوّل يأتي كرسالة اجتماعية، كتعبير موجّه إلى الآخر في بيئة المرأة، أمّا الثاني فهو شخصي ويتمحور حول الذات إذ يخصّ جسد المرأة الذي يتطوّر ويتغيّر مع مرور العمر". تضيف بلمداح أنّ "للوشم معاني عدّة تختلف من منطقة إلى أخرى أو بالأحرى من قبيلة أو عرش إلى آخر. وهو ممارسة ذات رمزية تعبّر عن التنشئة الاجتماعية ووثيقة تُسجَّل على الجسد. وقد تطوّر وتغيّر بتغيّر الزمن والظروف التي تعيشها النساء، خصوصاً في الجبال والقرى".