ليس الشباب البولنديون وحدهم الذين راحوا يهجرون كنيستهم الكاثوليكية في العقدَين الأخيرَين، بحسب ما كانت قد أشارت إليه دراسات وطنية في العام الماضي تناولت علاقة الأجيال الجديدة بدينها (90 في المائة كاثوليك) منذ عام 1996. فإدارة الملايين ظهورهم للكنيسة ورفضهم تعريف "متدينين" ينتشران في مجتمعات الغرب أكثر من أيّ وقت مضى.
وفقاً لدراسات وتقارير تتناول الوضع في الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية وكذلك الشمالية، يُسجَّل مزيد من الناس الذين يعرّفون عن أنفسهم بأنّهم لادينيّون. وقد أظهر مركز "بيو" الأميركي للأبحاث ومراكز بحثية أخرى ألمانية وإيطالية خلال الأعوام الماضية، أنّ الهوية الجماعية صارت تُعرَّف من خلال الحركات الاحتجاجية، بما فيها تلك المتعلقة بقضايا التغيّر المناخي أو المناهضة للإدارات السياسية القائمة أو تلك المؤججة للمشاعر القومية.
وتظهر دراسات مجموعة الأبحاث الألمانية "فيلتشاوننغن" التابعة لمؤسسة جيودانو برونو (جي بي إس)، أنّه وفقاً لأرقام مؤتمر الأساقفة الألمان شهدت الكنيسة البروتستانتية والكنيسة الرومانية الكاثوليكية في ألمانيا تراجعاً في أعداد المنتمين إليهما إلى نحو 43 مليوناً من بين 83 مليون نسمة في البلاد. ويتواصل الانخفاض المسجّل منذ أعوام عدّة، الذي شهد ذروته بين عامَي 2018 و2019، مع خروج نحو 800 ألف ألماني من الطائفتَين. ويشمل ذلك تراجع المواطنين عن المراسم الدينية، من قبيل العماد والجنازات. وبحسب سجلات الكنيسة البروتستانتية، فإنّ مزيداً من المسيحيين المنتمين إليها راحوا يختارون جنازات غير دينية. وتشير الدراسات في ألمانيا إلى أنّه من بين غير المسلمين الذين يشكّلون نحو خمسة في المائة من السكان، فإنّ عدد الملتزمين بالطقوس الكنسيّة اليومية تراجع إلى نحو 6.6 ملايين بحسب أرقام عام 2019، بحسب ما أفادت به دراسة شملت مجموعة أبحاث حول علاقة الألمان بالتديّن.
وبحسب دراسة صادرة عن جامعة "سانت ماري" البريطانية حول التراجع في الالتزام الديني بين جيل الشباب، فإنّ نحو 48 في المائة من البريطانيين يرون أنفسهم خارج الأديان. أمّا في الولايات المتحدة الأميركية، فقد تزايد عدد الذين يعرّفون عن أنفسهم بأنّهم خارج الانتماء الديني، من 17 إلى 26 في المائة، وفي الوقت نفسه تراجعت نسبة الذين يعرّفون عن أنفسهم بأنّهم مسيحيون 12 في المائة، ما بين عامَي 2009 و2019، بحسب الكاتب والباحث راين بي بورغ الذي يلفت إلى دراسات مختلفة تتوقّع أن يكون نصف الأميركيين مصنّفين لادينيين بحلول عام 2029.
التماسك ليس بالضرورة دينياً
خلال العقود الأخيرة، وفقاً لنظريات علماء الاجتماع، شهد الغرب تغيّرات في قراءة المواطنين للدين باعتباره نقطة التقاء وتشكيل للهوية الثقافية ولمجموعة القيم والأخلاق التي تحدّد علاقات الناس بعضهم ببعض في مختلف المجتمعات. وكثر هم الذين يصنّفون أنفسهم خارج الدين، في المشهد الألماني وذلك الاسكندينافي وإلى حدّ كبير في الاسكتلندي المعروف بتمسّكه بالتقاليد الدينية.
والأمر مشابه في المشهد الأميركي، فكثر يعدّون أنفسهم خارج الأطر الدينية المسيحية، على الأقلّ بحسب بورغ ومركز "بيو" للأبحاث. وتبدو الأجيال الشابة أكثر ميلاً إلى التخلّي عن الطقوس الكنسيّة وعن مفهوم القيامة، حتى لو كانت تتحدّر من عائلات متديّنة. وكان مركز "بيو" قد أشار في دراسة له في عام 2015 إلى أنّ عدد الذين يصنّفون أنفسهم "لا شيء محدداً" في ما يتعلق بالانتماء الديني، سوف يبلغ في عام 2060 نحو 1.2 مليار شخص حول العالم، والأغلبية العظمى في أوروبا وأميركا الشمالية، ما يجعل هؤلاء بالتالي المجموعة الثالثة بعد الديانتَين المسيحية والإسلامية.
بالنسبة إلى الباحثة في قضايا "المجموعات اللادينية" في قسم الدراسات الدينية بجامعة آرهوس الدنماركية، آن لوندال مورتيسن، فإنّ الكنائس تجد نفسها اليوم أمام مجتمعات مختلفة ينتشر فيها الناس اللادينيون بصورة متزايدة، مع ملاحظتها أنّ التديّن يتّخذ أشكالاً جديدة، بما في ذلك الحركات الاحتجاجية في قضايا تخصّ البشرية جمعاء. وتشير إلى أنّ "الناشطين من صغار السنّ متعلّمون ويميلون أكثر نحو اليسار. وهؤلاء لا يخفون انضمامهم إلى الملحدين أو إلى المجتمع الإنساني الأوسع ويصرّون على الفصل بين الدولة والكنيسة، علماً أنّهم لا يشكّلون المجموعة الكبرى بين غير المنتمين إلى دين. فثمّة آخرون كثر يعيشون حياتهم وهم يركّزون على العمل وأوقات الفراغ، مستندين إلى الحياة الفردية، فيما الدين بالنسبة إليهم غير ذي شأن في تنظيم حياتهم".
وغير بعيد عن ذلك، يذهب عالم اجتماع الأديان ورئيس مركز دراسة الأديان في تورينو الإيطالية، ماسيمو إنتروفيني، إلى أنّ "ثمة علاقة ما بين تدهور استجابة الدين الكاثوليكي للتحديات واقتصار التديّن على الشكليات". وسبق أن حذّر إنتروفيني في عام 2006 من أنّ "الحضارة الغربية سوف تعاني في غياب الثقافة المسيحية مستقبلاً".
من جهته، أجرى عالم الاجتماع في جامعة لايبزغ شرقي ألمانيا، غيرت بيكل، مع زملاء له مقابلات مع مواطنين كبروا في جمهورية ألمانيا الديمقراطية أو ألمانيا الشرقية، وهؤلاء بمعظمهم عاشوا في ظلّ نظام شيوعي ملحد حتى سقوط جدار برلين. سئل هؤلاء عن الدين، فأتت إجاباتهم بمعظمها: "لم أتعلم شيئاً عن الدين، بالتالي ليس مهماً ولا أفتقده في حياتي". ويرى بيكل أنّ "جزءاً كبيراً من المجتمع متماسك من دون إطار ديني مشترك، وهؤلاء يحملون قيم تسامح من دون فهم ديني لمسألتَي الحياة والموت بوجود الله". ويعيد بيكل هذا الوضع في ألمانيا الشرقية إلى "عقود من محاولة النظام السابق فيها القضاء على الطقوس الدينية الخاصة بالكنيسة"، لافتاً إلى "حفل التكريس الخاص بالبلوغ (لليافعين واليافعات الذين بلغوا الرابعة عشرة من عمرهم) كان يُقام كبديل علماني لحفل التثبيت المسيحي. واليوم، هذا أمر مستمرّ وشائع حتى بين الألمان الملتزمين كنسيّاً".
حركات احتجاجية ناشئة
وفي الولايات المتحدة الأميركية التي عُرفت تاريخياً بالتديّن، منذ وصول أوائل المستوطنين الأوروبيين إليها، يذهب متخصصون في علم الاجتماع إلى دراسة ظاهرة تراجع دور الدين كمحرّك ونقطة التقاء بين أفراد المجتمع الواحد. وترى أستاذة علم النفس في جامعة بوسطن، كاثرين كالدويل هاريس، بحسب ما جاء في أبحاث لها حول "غياب الإيمان في الولايات المتحدة الأميركية" أنّ التوجّه نحو الليبرالية شبه المسيحية "قلل من شأن كثير من الأمور الخارقة للطبيعة، مع تمسّك الناس بمبادئ كثيرة مثل رعاية الضعفاء فيما يرغبون في استبدال الكنيسة بشيء آخر في المجتمع".
وبحسب رأي الباحث في مجالات الثقافة والإدراك والطقوس في "مركز الفكر والثقافة" في بوسطن، كونور وود، فإنّ "الغرب يعيش في فراغ بعدما بدأت تتلاشى النظرة المسيحية للعالم". ويشير في لقاءاته وأبحاثه إلى أنّ الحركات الشبابية الجديدة في العالم الغربي باتت ملاذاً لكثيرين من الباحثين عن "بديل"، موضحاً أنّه "لهذا نشاهد أحياناً حركات اجتماعية تتوسّع في إشاعة نظرية المؤامرة، فيما تذهب أخرى لدى جيل شاب إلى أقصى اليسار بحثاً عن العدالة الاجتماعية". وبالنسبة إلى وود، فإنّ حركة "حياة السود مهمة" تأتي في سياق بحث الشباب عن بدائل لأدوار الكنيسة والدين.
وبالنسبة إلى هاريس، فإنّ الابتعاد عن الكنيسة يعود ربّما إلى "كون الدين إجبارياً، أو إلى كون المشاركة الاجتماعية بناءً على الدين ليست هي المطلوبة من قبل هذا الجيل"، وتشير إلى أنّ "حركة العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأميركية اليوم الهادفة إلى كبح تجاوزات الرأسمالية وإنصاف ضحايا العبودية والقمع التاريخي، تزدهر بعيداً عن المعتقد الديني. وهي تبشّر بمجتمعات جديدة يساهم في تشكيلها تطوّر وسائل التواصل ومشاركة أساتذة جامعيين". أمّا بيكل، فيعتقد بأنّ الحركات الناشئة في المجتمعات الغربية "قادرة على أن تحلّ إلى حدّ ما محلّ الديانات بمفهومها التقليدي في المجتمعات الأوروبية والأميركية. فإذا نظرنا إلى حركاتها، مثل حركة البيئة والمناخ، فهي تحاول أن تخلق هوية مشتركة قوية، ليس الدين محرّكها أو جامعها، وإن تشابهت مع حركات دينية".
وثمّة من يؤمن، من بين علماء الاجتماع واللاهوت الغربيين، بأنّ تناقص قاصدي الكنائس والمعبّرين عن انسحابهم من الدين المسيحي يدلّ على أنّ هؤلاء يبحثون في الواقع عن أمور مشتركة أخرى توحّدهم في التفكير والأهداف، ومن بينهم من يتّخذ من القومية نهجاً جديداً ومتشدداً، وإن بدا فيه خلط ما بين الدين وادّعاء الحفاظ على العرق والوطن، كما في حركات وأحزاب بحدّ ذاتها في الغرب وفي شرق أوروبا ووسطها، وإلى حدّ بعيد في المعسكر الذي شقّه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في صفوف الأميركيين البيض.