تتعدّد وسائل مواجهة العنف الذي يستهدف المرأة، لعلّ أهمّها القوانين. لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة في مجتمعات كثيرة، فيحاول المعنيون بقضايا حقوق المرأة إيجاد حلول مؤقتة، من بينها دور إيواء المعنّفات. هذه هي الحال في العراق.
مع ارتفاع حدّة العنف ضدّ المرأة في العراق، راحت منظمات مدنية تنادي بإنشاء دور إيواء للنساء العراقيات المعنّفات، على أن تكون محمية من قبل الدولة حتى تجد النساء ملاجئ تحميهنّ من العنف الذي قد تنتهي بسببه حياتهنّ من دون أن يدافع أيّ كان عنهنّ. وبحسب إحصائية لوزارة الداخلية العراقية، فإنّ عدد حالات العنف الأسري في العراق تخطّى 15 ألف حالة في عام 2020.
وتقع آلاف النساء والفتيات سنوياً ضحية التعنيف وسوء المعاملة، وتتعرّض كثيرات منهنّ إلى اعتداءات بالضرب الذي قد يؤدّي إلى الإعاقة أو تنجم عنه حالات صحية خطرة، فضلاً عن وقوع وفيات. وذلك بمعظمه يأتي تحت ذريعة "الشرف" الذي يرتبط بشكل كبير بالمرأة في المجتمعات القبلية، وهي واسعة في العراق.
كثيرات هنّ العراقيات اللواتي غيّبتهنّ ظروف مختلفة من دون أن يعلم أحد مصيرهنّ، في حين فُرضت على أخريات عقوبات شديدة من قبل ذويهنّ، فحبسوهنّ في المنزل ولا يخرجنَ إلا للضرورة القصوى. فرح بحسب ما تعرّف عن نفسها، واحدة من بين هؤلاء النساء، وهي ترفض الكشف عن هويتها خشية أن يطاولها أذى أشقائها. أمّا اختيارها اسم "فرح"، فلأنّه "يعبّر عن أملي بإدراك الفرح في يوم من الأيام".
وتقول فرح لـ"العربي الجديد" إنّها تتواصل مع العالم الخارجي من "المنفى"، في إشارة إلى بيت عائلتها، حيث هي موجودة بعدما منعها إخوتها من الخروج منذ أكثر من عامَين، عقب تعنيف شديد ما زالت تئنّ تحت وطأة آلامه. أمّا السبب فهو "شاب تقدّم لخطبتي، قدّروا أنّني أعرفه مسبقاً من دون علمهم". ولا تخفي فرح أنّها تلجأ إلى هاتفها المحمول لإبلاغ زميلاتها السابقات اللواتي تخرّجنَ من الجامعة في العام الماضي، بما تعانيه، مضيفة "أتمنى لو كان ثمّة ملجأ يقدّم لي الحماية الكافية، لكنت هربت".
أمر ليس سهلاً
ولأنّ دور الرعاية الخاصة بالنساء المعنّفات تُعَدّ واحدة من وسائل مواجهة ما يتعرّضنَ له، تحاول أطراف عدّة العمل من أجل إنشاء عدد منها. وقد برزت أخيراً حملة أطلقتها ناشطات في محافظة كركوك (شمال) لإنشاء دار إيواء للمعنّفات في المحافظة، وقد أشرنَ إلى أنّهنّ حصلنَ على وعود في هذا السياق. لكنّ زينة داود، وهي ناشطة مدنية حصلت على الطلاق منذ أكثر من ثلاثة أعوام بعد عنف مارسه زوجها ضدّها طوال 13 عاماً، تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "إنشاء دار خاصة لإيواء النساء المعنّفات لن يكون سهلاً من دون أن توفّر الدولة الحماية الأمنية اللازمة لها".
وتشير داود إلى أنّ عدم قدرتها على الإنجاب هو "سبب العنف الذي كنت أتعرّض إليه على يد زوجي السابق، ما اضطرني إلى اللجوء إلى منظمة نسوية. وبقيت فيها سراً، من دون علم أيّ من أفراد عائلتي إلى حين حصولي على الطلاق". ومنذ ذلك الحين، تحوّلت إلى العمل في النشاطات الإنسانية خصوصاً في مجال حقوق المرأة. بالتالي، صارت داود مطلعة على عدد كبير من الحالات، الأمر الذي يجعلها تؤكد أنّ "الأعداد المعلنة للنساء المعنّفات قليلة جداً مقارنة بالواقع". تضيف داود أنّه "في بعض الحالات، وصل الأمر إلى حدّ قتل النساء وحرقهنّ وإخفائهنّ، خصوصاً في القرى"، مشيرة إلى أنّ "منظمات مدنية توثّق حالات سجّلت على أنّها انتحار لكنّها جرائم قتل ومعظمها بحجّة الحفاظ على الشرف".
وتتابع داود أنّه "على الرغم من أهمية دور إيواء المعنّفات، فإنّني أرى أنّ قيامها في الواقع لن يكون سهلاً، ولا بدّ من أن تحظى تلك الدور بحماية أمنية من قبل الدولة، وأن تشتمل على برامج ومتخصصين في التأهيل النفسي والصحي والثقافي والقانوني لكي تتعلّم النساء كيفيّة التعامل مع ردود فعل ذويهنّ أو أزواجهنّ بعد لجوئهنّ إلى مثل هذه الدور. فهؤلاء بالتأكيد يرفضون أن تلجأ نساؤهم إليها".
تغييب القانون
وعن أسباب ارتفاع حالات العنف ضدّ المرأة، تقول الناشطة النسوية ابتسام مانع من "منظمة حرية المرأة في العراق" لـ"العربي الجديد" إنّها تتمثّل بـ"تغييب دور القانون في ردع الجاني، وهيمنة السلطة العشائرية في إنصاف الرجل على المرأة، بالإضافة الى دور التيارات الدينية في الحشد لإلغاء دور المرأة وفرض سلطة الرجل وسط العائلة". وتؤكد مانع أنّ "ثمّة ضرورة ملحة لإنشاء دور إيواء توفّر ما تحتاجه المرأة المعنّفة، فتجد الأمان والحياة الكريمة فيها"، لكنّها تصف الدور الحكومية المخصصة للإيواء بشكل عام بأنّها "أشبه بالسجون". وتوضح أنّها "تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، إذ تتعرّض النساء إلى الضرب والتهميش ويُنعتنَ بأفظع المصطلحات".
وتشير مانع إلى الحريق الذي نشب في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2019 في دار إيواء الأيتام في حيّ الأعظمية ببغداد، واصفة إيّاه بـ"جريمة حرق دار إيواء الزهور". وتتحدّث عن "حالة من الذعر والرفض للأساليب التي تمارس في داخل الدار"، موضحة أنّ ستّ شابات بعمر الورود تتراوح أعمارهنّ ما بين 15 و17 عاماً رحنَ ضحية تلك الحادثة".
تضيف مانع: "نعمل كمنظمات نسوية على الدفاع عن قضايا المرأة والمطالبة بتوفير دور إيواء لحماية الشابات، وقد وضعنا مادة في مسوّدة قانون الحماية من العنف الأسري كفقرة أساسية تقضي بتوفير أماكن حماية وإيواء لمن يتعرّضنَ إلى عنف (من أيّ شكل) قد ينهي حياة النساء". وتتابع مانع أنّه "لم يتمّ التصويت على القانون منذ عام 2014، على الرغم من أنّه خضع لقراءة أولى وثانية قبل أن يأتي الردّ بالرفض بحجّة أنّنا مجتمع إسلامي محافظ ولا يجوز منح حريات للشابات بالخروج من دور ذويهنّ والمبيت في خارجها".
وتواجه الناشطات في المجال تحديات كبيرة، بحسب مانع التي تفيد بأنّ لدى منظمتها عدداً من دور الإيواء، لافتة إلى أنّها "تمكنت في خلال 17 عاماً من إنقاذ مئات النساء". وتلفت إلى مخاطر التي تواجهها "منظمة حرية المرأة في العراق"، إذ "أقام مجلس رئاسة الوزراء دعوى قضائية بالضدّ من منظمتنا وطالب بحلّها، لكنّنا تمكنّا من ردّ الدعوة لمصلحة منظمتنا".
وتكمل مانع أنّ توغّل العادات القبلية في المجتمع وفرض سطوتها من الأسباب التي تقف وراء انتشار العنف ضدّ المرأة، لافتة إلى أنّ "منظمتها وقفت مرّات عدّة في مواجهة العشائر التي تتابع الضحية التي تهرب من العنف لتحاول الوصول اليها"، ومؤكدة أنّ "المنظمة وفّرت الحماية لعدد كبير من النساء المعنّفات".