في إطار وضع اليد على الينابيع في الأغوار الفلسطينية الشمالية، سيطر مستوطنون إسرائيليون على نبع "عين الحلوة"، علماً أنّ هذه المناطق تُعَدّ خزاناً لمدن الضفة الغربية وبلداتها نظراً إلى وقوعها ضمن حوض المياه الشرقي الأكبر في فلسطين
يكاد المزارع الفلسطيني مجيد الضبابات من منطقة وادي المالح في الأغوار الشمالية الفلسطينية، في الضفة الغربية المحتلة، ينفجر غضباً إزاء ما حلّ بنبع "عين الحلوة" الذي سرقه المستوطنون الإسرائيليون. ويخبر "العربي الجديد" بحسرة: "كنت أتردد على النبع يومياً مذ كنت طفلاً، فأشرب وألهو وأستحمّ فيه. كذلك أصطحب صباحاً ومساءً، أغنامي وأبقاري لتشرب منه وترعى الأعشاب في محيطه. أمّا اليوم، فالمستوطنون يحرمون الأهالي من الوصول إليه".
من خلال إحكام المستوطنين سيطرتهم على نبع "عين الحلوة"، بات يُحظر على المزارعين ورعاة المواشي الفلسطينيين الاقتراب منه، ما يعني حرمان تجمّعات بدوية ورعوية بأكملها من مصادر الشرب وريّ المزروعات. فخلال مارس/ آذار الماضي، وضع المستوطنون يدهم على النبع وشرعوا بتنفيذ سلسلة من الأعمال الإنشائية بدت في بادئ الأمر أنّها مجرّد عملية ترميم للنبع، لكن سرعان ما انكشفت نواياهم الخبيثة.
ما يحزّ في نفس الضبابات أنّه لا يستطيع اليوم "الشرب من مياه عين الحلوة ولو رشفة واحدة. أين العدل؟ يأتي أناس من مستوطنات الخليل (جنوبي الضفة الغربية) ليسبحوا ويستجموا في النبع، فيما أنا الذي ولدت هنا عاجز عن ذلك. لقد حاولنا مراراً منعهم، لكنّ جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح ينتشرون لحمايتهم في كل مكان". يضيف: "هذا احتلال، ونحن نتوقع منه كل شيء. لكن أين المسؤولون الفلسطينيون ممّا يجري؟ أعمال المستوطنين في تأهيل النبع بدأت منذ نحو شهر بشكل علني، ألم يشاهدوا الصور؟ ألم يسمعوا صراخنا ومناشداتنا؟ هل الصراع على الكراسي والانتخابات أهمّ من الأرض؟ إذا ضاعت هي، فماذا يستفيدون من مناصبهم؟".
وحال الضبابات لا تختلف عن أحوال أهالي المنطقة كلها، فهؤلاء جميعاً خسروا مصدراً رئيسياً للمياه وباتوا مجبرين على اجتياز مسافات أطول بكثير هم ومواشيهم للوصول إلى المياه. ويعرض الضبابات موقفَين للدلالة على انحياز الاحتلال التام إلى المستوطنين على حساب أصحاب الحق، فيقول: "لو وضعت طوبة واحدة فقط في خيمتي أو أقمت جداراً قليل الارتفاع لكانت الدبابات الإسرائيلية توجهت فوراً لتهدم ذلك. في المقابل، أحضر مستوطنون خلاطات إسمنت متنقلة وحجارة، وأقاموا عمليات بناء في محيط النبع من دون اعتراض أيّ كان". وبحسب ما يوضح الأهالي، فإنّ السيطرة على نبع "عين الحلوة" تمّت بدعم من مجلس مستوطنات الضفة الغربية ومؤسسة "ريجاليم" الاستيطانية المعنية بمشروعات الاستيطان في الضفة، وهي الجهة ذاتها التي أشرفت على السيطرة الكاملة على "عين الساكوت" في الأغوار قبل أشهر عدّة، ولديها مخططات لوضع اليد على كل مصادر المياه في الأغوار الفلسطينية.
ويتخوّف الفلسطينيون في الأغوار من أن يتوجّه المستوطنون بعد سيطرتهم على نبع "عين الحلوة" إلى غيره من الينابيع المتبقية، بالتالي تصير مصادر المياه المتاحة للفلسطينيين في الأغوار معدومة بعدما كانت شحيحة. ويقول المزارع عبد اللطيف عودة لـ"العربي الجديد" إنّ" الاحتلال لا يكتفي بالسيطرة على عيون المياه، بل يلاحق الصهاريج التي تصلنا بالجرارات الزراعية، وكثيراً ما يصادرها أو يضع السمّ فيها، ما أدّى إلى نفوق عشرات من رؤوس الماشية". لكنّ عودة يؤكد أنّ أهالي الأغوار لن يتوانوا عن مواصلة كفاحهم ونضالهم لانتزاع حقوقهم من أنياب المحتل، على الرغم من افتقارهم إلى مقومات الحياة. يضيف أنّ "معركتنا يومية ما بين كرّ وفرّ. لا بديل أمامنا غير مواصلة الكفاح والنضال لاسترداد عين الحلوة. الأمر بسيط... كيف نعيش من دون مياه؟ عدم وجود المياه يعني الموت وترك الأرض لقمة سائغة للمحتل والمستوطنين".
الخطة قديمة
قبل أكثر من عشرين عاماً، بدأ الاحتلال خطته لتسهيل سيطرة المستوطنين على مياه نبع "عين الحلوة" العذبة، والهدف سرقة تلك المياه وتحويلها إلى المستوطنات والبؤر الاستيطانية العشوائية التي أقيمت على أراضي المواطنين الفلسطينيين خلال السنوات الماضية. ويقول الناشط الحقوقي فارس فقها لـ"العربي الجديد" إنّ "توفّر مصادر مياه للشرب والزراعة يُعَدّ أحد أهمّ أسباب وجود الفلسطينيين في الأغوار، وهذا ما تدركه سلطات الاحتلال التي تعمل ليلاً ونهاراً على محاربة هذا الوجود من خلال حرمانهم من المياه لدفعهم إلى الرحيل".
يضيف فقها أنّه "منذ احتلال الضفة الغربية في عام 1967، تتعرّض الأغوار الفلسطينية إلى حرب إبادة إسرائيلية مبرمجة. وقد سابق المستوطنون الوقت لترميم نبع عين الحلوة وإقامة بركة صغيرة إلى جانبه بهدف تغيير معالمه التاريخية. وتمثلت أولى خطواتهم بتسييج محيط النبع، تحت حراسة جيش الاحتلال الإسرائيلي". ويوضح فقها أنّ "المنطقة كانت تضم سلسلة ينابيع مياه، جرى تدميرها وتجفيفها بالكامل، وبقي نبع عين الحلوة الذي جاء دوره. والمياه تجري هنا ولا يحق لنا الانتفاع منها، في حين أنّ مستوطني مستوطنة مسكيوت يتنعّمون بخيراتها".
ويتابع فقها أنّ "المستوطنين وجّهوا دعوات إلى قادتهم من أجل زيارة المنطقة وافتتاحها في الأعياد اليهودية، فيما يستجم فيها عشرات منهم يومياً بهدف فرض الأمر الواقع فيها". يُذكر أنّ شرطة الاحتلال ادّعت أنّ المنطقة برمتها "أملاك دولة"، وثمّة تصاريح للعمل فيها، وهو ما يفنّده فقها مشدداً على أنّ "الأرض حيث يوجد النبع تعود ملكيتها إلى بطريركية اللاتين أسوة بآلاف الدونمات في الأغوار".
وتكمن خطورة السيطرة على نبع "عين الحلوة" بحسب فقها في أنّ ذلك يأتي "ونحن على أبواب فصل الصيف الذي ترتفع فيه الحرارة بالأغوار الفلسطينية لتبلغ أرقاماً قياسية، ومعها تتضاعف الحاجة إلى الماء، كونها من المناطق الزراعية والرعوية المرغوبة من قبل مزارعين كثيرين والبدو الرُحّل".
والأغوار الشمالية تقع ضمن الحوض المائي الشرقي الأكبر في فلسطين، وعلى الرغم من ذلك تسيطر إسرائيل على 85 في المائة من مياهها، فيما يتحكم الفلسطينيون بالنسبة المتبقية أي 15 في المائة. ويزيد معدل استهلاك المستوطن القاطن في الأغوار الشمالية ثمانية أضعاف عمّا يستهلكه المواطن الفلسطيني الذي يقطن في أماكن أخرى.
ومنذ عام 1967، عمدت سلطات الاحتلال إلى تعطيل وتخريب الآبار الارتوازية الفلسطينية بمعظمها، وعددها 56 بئراً حتى ذلك التاريخ. كذلك سيطرت شركة "ميكروت" الإسرائيلية على مصادر المياه الجوفية في الأغوار، فحفرت 42 بئراً بأعماق منخفضة لتضخّ منها ما بين 60 و70 مليون متر مكعب من المياه سنوياً. أدّى ذلك إلى سحب المياه الجوفية بمعظمها في المنطقة، وبالتالي شحّها في معظم الآبار والينابيع الفلسطينية المتبقية. وصارت سلطات الاحتلال تزوّد أهالي الأغوار وتجمعاتها بالمياه عبر هذه الشركة بكميات شحيحة ومحدّدة لا تكفيهم لحاجتهم اليومية ومزروعاتهم ومواشيهم.
المياه الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية
وتنقسم مصادر المياه الفلسطينية في الأغوار إلى قسمَين، منها ما جفّ نهائياً أو شحّت مياهه بسبب آبار شركة "ميكروت" الإسرائيلية، من قبيل عيون الماء والآبار في قرى عين البيضاء وبردلة وكردلة. أمّا القسم الآخر الذي لم تتأثر كمية المياه فيه، فقد استولت سلطات الاحتلال عليه بشكل كامل وزوّدت المستوطنين بمياهه لأغراض زراعية مثل "عين الساكوت"، علماً أنّ المستوطنات الإسرائيلية في الأغوار بمعظمها هي مستوطنات زراعية ويزوّدها الاحتلال بكميات مياه هائلة في مقابل حرمان أهالي المنطقة من هذه المياه.
وبحسب اتفاقية أوسلو الموقّعة في عام 1993، فقد تمّ تخصيص 118 مليون متر مكعب من المياه للفلسطينيين سنوياً، وهذه الحصة تُقدَّر بنحو 15 في المائة فقط من كمية المياه المتاحة في فلسطين التاريخية التي تبلغ 700 مليون متر مكعب. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الاحتلال لم يعطِ الفلسطينيين هذه الحصة كاملة طيلة السنوات الماضية، كذلك لم يزد الحصة في حين تضاعف عدد الأهالي منذ ذلك الوقت. حينها كان عددهم في الضفة الغربية وقطاع غزة مليونَين ونصف المليون، في حين يزيد اليوم عن أربعة ملايين.
وفي الوقت الذي توصي فيه منظمة الصحة العالمية بـ 110 لترات من المياه كحدّ أدنى للفرد الواحد في اليوم، تُستخدَم لأغراض الشرب والاستحمام وغيرهما من الحاجات اليومية، فإنّ المواطن الفلسطيني يحصل على معدّل 83 لتراً من المياه فقط، لكنّ الكمية تبدو أقل بكثير في المناطق التي تعاني من مضايقات الاحتلال مثل مناطق الأغوار حيث يحصل الفرد فيها على كمية تتراوح بين 20 و25 لتراً من المياه فقط، فيما يحصل المستوطن على كمية تصل إلى 400 لتر من المياه في اليوم.