نازحو السودان... جشع زيادة الإيجارات في كل مكان

19 مايو 2023
تعاني مدن في السودان حالياً من نقص غير مسبوق في المساكن (فرانس برس)
+ الخط -

في 10 إبريل/ نيسان الماضي خضع أيمن (62 عاماً)، الذي اكتفى بذكر اسمه الأول، لجلسة غسيل كلى في المركز الصحي الوحيد المتخصص بعلاج هذا المرض في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، وسط السودان. وبعدها حصل على جلسة ثانية في 23 من الشهر نفسه، وهو فعلياً من بين أشخاص كثيرين من ذوي الوضع الصحي الدقيق الذين غيّرت ظروف الاشتباكات التي نشبت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/ نيسان كل تفاصيل حياتهم.
خلال الفترة السابقة قطع أيمن، وهو صاحب دخل محدود للغاية، مسافة 173 كيلومتراً للوصول مرتين إلى مركز غسيل الكلى بمدينة ود مدني، حيث أصبح زبوناً معروفاً لدى صاحب شقق مفروشة في المدينة أجره شقة بمبلغ 150 دولاراً.
وخلال المرة الثانية لوجود أيمن في الشقة المستأجرة، طرق صاحب العقار باب الشقة، فاعتقد أيمن للوهلة الأولى أن الأمر زيارة عادية، لكنه تلقى مفاجأة صاعقة تمثلت في مطالبة صاحب العقار إياه بإخلاء الشقة لأن زبوناً جديداً أراد أن يستأجرها بمبلغ 1700 دولار.

ود مدني غير المرغوبة
قبل اندلاع الحرب في الخرطوم، كان الإقبال محدوداً على الشقق المفروشة وتلك غير المفروشة في مدينة ود مدني التي لا تعتبر وجهة مهمة لغير سكانها وسكان القرى والأرياف المجاورة، لذا يتدنى الطلب كثيراً على الشقق المفروشة فيها، إلا من مرضى يأتون من مناطق بعيدة، وهو حال أيمن اليوم.
ويكشف سكان في ود مدني أن أجرة الشقق السكنية المفروشة كانت تراوح بين 150 و250 دولاراً شهرياً، وتلك غير المفروشة بين 100 و180 دولاراً شهرياً، أما المنازل الشعبية، وجميعها غير مفروشة، فتراوح قيمة إيجارها بين 80 دولاراً و100 دولار شهرياً. لكن خلال الأيام الأولى من المعارك التي اندلعت في 15 إبريل/ نيسان الماضي، فرّ آلاف الأشخاص إلى ود مدني، معظمهم لجأوا إليها للمرة الأولى في حياتهم، لذا شهدت المدينة نقصاً غير مسبوق في عدد المساكن، وهو ما لم تشهده في تاريخها، ما دفع أصحاب الشقق المفروشة والفنادق إلى رفع إيجار الغرفة الواحدة من 5 دولارات إلى 60 دولاراً يومياً في بعض المناطق.
ورداً على طلب الإخلاء حاول أيمن، بلا جدوى، إقناع صاحب الشقة بأن لديه جلسة غسيل كلى سيجريها بعد 48 ساعة قبل أن يغادر ويسلمه مفتاح الشقة. ويقول لـ"العربي الجديد": "يبدو أن قيمة الإيجار اليومي التي تضاعفت أكثر من 10 مرات يومياً أصابت البعض بالذعر، فهذه ثروة لم تهبط سابقاً على مالكي العقارات في ود مدني". ويتابع: "لم يظهر أحد أي رحمة، وفي ظل غياب السلطات الرسمية وانعدام القانون الرادع، أصبح قرار تحديد قيمة الإيجار اليومي في أيدي مالكي العقار وحدهم لأن السلطة الرسمية تلاشت بسبب الذعر من الاشتباكات".
واضطر أيمن إلى قضاء مدة الانتظار داخل ممر في مركز غسيل الكلى معرضاً حياته للخطر، لأنه لا يستطيع مواكبة أسعار المساكن في ود مدني.

لا يستطيع أحد إلزام المالكين بالحدّ الأدنى من سعر الإيجار (فرانس برس)
لا يستطيع أحد إلزام المالكين بالحدّ الأدنى من قيمة الإيجار (فرانس برس)

تائهون 
وعموماً امتلأت الطرقات الضيقة في ود مدني بفارين من الاشتباكات، وسار بعضهم ثلاثة أيام من دون وجهة محددة بحثاً عن مأوى. تقول مريم إسحاق لـ"العربي الجديد": "ركبت مع بناتي الثلاث من الخرطوم مركبة لنقل البضائع، وحين وصلنا إلى ود مدني لم نعرف أحداً فيها، فأمضينا يومنا الأول في مبنى مدرسي جرى تجهيزه على عجل ليستقبل نازحين، لكننا لم نستطع البقاء فترة طويلة في فناء مبنى المدرسة الذي اكتظ بمواطنين من كل الأعمار، وغادرنا للبحث عن مأوى بالإيجار والمكوث فيه في انتظار أن يلحق بنا زوجي واثنان من أبنائي الذين لم يستطيعوا مرافقتنا لعدم توفر المال اللازم لشراء تذاكر للجميع".
تتابع: "اعتقدنا في البدء بأنه يمكن العثور على منزل معروض للإيجار بسعر مناسب في أحد الأحياء النائية، ثم تأكدنا بعد رحلة بحث مضنية استمرت أكثر من 10 ساعات، أن هذا الأمر يخالف ما توقعناه، لأن جنون زيادة قيمة الإيجارات انتشر في كل مكان، وباتت مسألة العثور على منزل، مهما بلغت حالته من بؤس أو وجوده في حي ناءٍ وبعيد جداً عن وسط المدينة، شبه مستحيلة".
وفيما لم يكن البقاء في مركز إيواء غير مجهّز بطريقة مثالية أمراً مقبولاً بالنسبة إلى مريم وبناتها الثلاث، وأصغرهن في الـ14 من العمر وأكبرهن في الـ22 من العمر، لأنها تريد وضعهن في مكان أكثر أماناً، كررت الأم البحث عن شقة للإيجار في اليوم التالي، ثم اكتشفت أن قيمة الإيجار تزداد يومياً، إذ ارتفعت قيمة استئجار جزء من منزل متوسط الحال ولا يتضمن خدمات كافية إلى نحو 500 دولار شهرياً، مع مطالبة أصحاب العقارات بالحصول على مقدم شهرين على الأقل لتسليم أي شقة.
وتقول مريم: "استغلال أصحاب العقارات غير مسبوق، في وقت لا يتجرأ فيه أحد على التدخل لإعادتهم إلى الصواب وإلزامهم بتقاضي الحد الأدنى من سعر الإيجار، فالسلطات الرسمية شبه غائبة. وحين حاول بعض المسؤولين رد الأمور إلى نصابها، وجدوا صعوبات كثيرة لأن تنفيذ القانون مهمة عسيرة  أثناء الحرب".
ومن أجل المساهمة في تخفيف أزمة السكن، قررت وزارة التربية والتعليم في ولاية الجزيرة إنهاء العام الدراسي في منتصفه، وتحويل المدراس والمقار التابعة لها إلى مراكز لإيواء النازحين.
وانتهى الأمر بمريم بقبول البقاء في مدرسة جرى تحويلها على عجل إلى مركز إيواء، واقتسمت مع بناتها الثلاث غرفة ضيقة مع ثلاث نساء وأربعة أطفال افترشوا الأرض على بطانيات بالية تبرّع بها سكان الحي الذي توجد فيه المدرسة.

استقبلت المناطق السودانية آلاف الهاربين من القتال في الخرطوم (فرانس برس)
استقبلت المناطق السودانية آلاف الهاربين من القتال في الخرطوم (فرانس برس)

القضارف تفيض بالناس
ليست ود مدني المدينة الوحيدة التي وجد فيها النازحون من الاشتباكات عناءً ومشقة كبيرة في الحصول على مساكن يأوون إليها، ففي مدينة القضارف قرب الحدود الإثيوبية كان الوضع أكثر سوءاً.
وفيما قدّرت إحصاءات غير رسمية بأكثر من 15 ألفاً عدد الهاربين من الخرطوم الذين وصلوا إلى القضارف، إضافة إلى نحو 6800 أجنبي، بدأ نحو 16 ألفاً منافسة حادة للحصول على مساكن في المدينة التي تشير إحصاءات رسمية إلى أنها تضم 10 فنادق فقط أكبرها مؤلف من 4 طوابق فقطـ، إضافة إلى نحو 200 شقة، و200 منزل تتألف من طابق أرضي فقط.
ووسط تنافس آلاف الأشخاص الذين قطعوا مسافة 413 كيلومتراً بين الخرطوم والقضارف للهرب من القتال، يقول جعفر منصور، وهو معلم في مرحلة الأساس بالخرطوم، الذي وصل إلى القضارف في 28 إبريل/ نيسان الماضي برفقة والده الذي أجرى عملية جراحية قبل شهر واحد ووالدته وإخوته الثلاثة، لـ"العربي الجديد": "غادرنا منزلنا في منطقة الأزهري، جنوب الخرطوم، في 17 إبريل/ نيسان، وبسبب الحالة الصحية لوالدي أمضينا يومين في مدينة رفاعة التي تبعد نحو 150 كيلومتراً عن الخرطوم، ثم انتقلنا إلى ود مدني حيث لم يكن من السهل العثور على سكن فيها، بعدما امتلأت المدينة حتى فاضت بالناس، فقررنا مواصلة الرحلة إلى القضارف، وكانت صدمتنا قاسية حين وجدنا أن الإيجار الشهري لأقل منزل يتسع لأسرتنا 600 دولار".
يضيف: "اضطررت إلى دفع مقدم شهر واحد، وحالياً أعيش مع أسرتي على حد الكفاف، في ظل ارتفاع في أسعار المواد الغذائية، وعدم وجود مصدر دخل، علماً أنني اتقاضى 250 دولاراً شهرياً من عملي في مدرسة خاصة، لكنني لم أحصل بعد على راتب شهر مارس/ آذار، وأنا أتوقع أن تتوقف إدارة المدرسة عن صرف المرتبات للمعلمين، فالمدارس الخاصة تدفع رواتب أثناء العام الدراسي فقط، والذي توقف حالياً".

ويقول شهود إن آلافاً من الأسر تعيش أوضاعاً مأساوية في شبه العراء بالقضارف، بسبب الزيادة الكبيرة في قيمة ايجارات الشقق السكنية والمنازل الشعبية. ويخبر سليمان مختار، وهو أحد سكان القضارف، "العربي الجديد"، بأن قيمة الإيجارات زادت خمسة أضعاف عما كانت عليه وصولاً إلى أرقام تراوح بين 300 و400 دولار.
ويبرر أحد مالكي الشقق المفروشة بالقضارف الزيادة الكبيرة في قيمة الإيجارات، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بأن "القطاع تعرض إلى خسائر كبيرة بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء والرسوم الكبيرة التي تفرضها السلطات في مقابل ضعف الإقبال على الشقق المفروشة، لذا نعتبر أن اندلاع الاشتباكات في الخرطوم فرصة للتعويض قليلاً عن الخسائر التي تراكمت علينا".