استمع إلى الملخص
- تعرضت مناطق البقاع، بما في ذلك بعلبك والهرمل، لغارات إسرائيلية مكثفة استهدفت البيئة الحاضنة لحزب الله، مما أدى إلى نزوح واسع للسكان إلى مناطق أكثر أمانًا مثل زحلة والبلدات المجاورة.
- تسبب النزوح الجماعي في أزمة اجتماعية واقتصادية في البقاع، حيث تضررت الزراعة والتجارة، وواجه النازحون صعوبات في الحصول على الاحتياجات الأساسية، مما يتطلب معالجة مستقبلية شاملة.
خلال الاجتياح الإسرائيلي صيف عام 1982، دأبت وسائل الإعلام اللبنانية وتصريحات المسؤولون، على الحديث عن الجنوب المحتل مع أنّ إسرائيل وصلت في البقاع إلى عمق البقاع الغربي وقريباً من نقطة الحدود اللبنانية السورية في المصنع. وكتب أحد الصحافيين من أبناء المنطقة تحقيقاً طويلاً بعنوان "البقاع الغربي وراشيا جنوب آخر محتل". بعده، تشكلت هيئة أهلية باسم المجلس الثقافي الاجتماعي للبقاع الغربي وراشيا، بدأت تنبه إلى خطورة تجاهل الاحتلال الإسرائيلي لهذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، ليس للبنان وحده بل لسورية أيضاً.
وزار وفد الهيئة رئيس الوزراء الراحل سليم الحص وعرض عليه ما تعانيه المنطقة من حرمان ونكران للبنانيتها، فما كان منه إلا أن أخرج محفظته وقدم للوفد مبلغ ألف ليرة. لكن أحد الأعضاء ذكره بأن هدف الزيارة سياسي وإعلامي وليس إغاثياً. تلقّف الحص تلك الرغبة، وفي كلّ تصريح لاحق بات يذكر الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وأجزاء من الجبل والبقاع الغربي وراشيا. وأوعز للإعلام الرسمي أن يفعل ذلك وسرعان ما بات الربط محكماً بين سائر المناطق المحتلة.
تكاد الصورة تتكرر حالياً، فالهيئات الأممية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة تكاد تنسى ما يعانيه البقاع الذي يضم محافظتان هما البقاع ومركزها زحلة، وبعلبك - الهرمل ومركزها مدينة بعلبك. ولولا أن هناك دوراً لمحافظي البقاع، وبعلبك - الهرمل ولوجود رئيس للجنة الطوارئ الوزير ناصر ياسين وهو من أبناء المنطقة، لكانت الدولة تجاهلت ما تعانيه هذه المنطقة من كوارث.
تعرضت بعلبك والهرمل لغارات هجّرت سكانهما وسكان محيطهما
ويستهدف العدوان الإسرائيلي على البقاع البيئة الحاضنة لحزب الله، أي الطائفة الشيعية، معتبراً أن المنطقة بمثابة خزان بشري، وتضم منصات لإطلاق الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى على شمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن كونها ملاصقة للأراضي السورية، وإليها تصل شحنات الأسلحة والذخائر قبل أن تنتقل إلى الجنوب.
في البداية كانت الاعتداءات الإسرائيلية محدودة، وتكاد تقتصر على مسيّرات تقوم ببعض الاغتيالات التي طاولت ناشطين خلال تنقلاتهم. لكن ما إن انفجر الوضع خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي، حتى تحولت سماء المنطقة وأرضها إلى جحيم، فالقرى والبلدات والمدن المستهدفة تمتد من سحمر ويحمر وقليا وزلايا وميدون ومشغرة في أقصى جنوب البقاع الغربي إلى أبعد قرية في محافظة بعلبك ـ الهرمل أي الحدود مع محافظة الشمال. أي على امتداد حوالي 110 كلم. وهنا نتحدث عن مدينتين فعليتين هما بعلبك والهرمل اللتين تعرضتا لغارات شبه يومية، ما أجبر سكانهما وسكان محيطهما على النزوح.
يتبين من خريطة توزع القصف والغارات الجوية أنها تمسك البقاع شرقي لبنان من جنوبه إلى شماله، باستثناء منطقة راشيا حيث أقلية درزية وبعض القرى المسيحية والسنية، وتبقى منطقة في الوسط تمثل باقي أجزاء البقاع الغربي والبقاع الأوسط حيث مدينة زحلة – جارة الوادي ومركز محافظة البقاع حيث تتركز طوائف الروم الكاثوليك والسنّة والأرمن، لكن من حدود بلدتي الكرك ورياق حتى أقصى الشمال في محافظة البقاع تتعرض كل المواقع الحضرية للقصف.
يتركز القصف على الاجتماع الشيعي في البقاع، لكن ما يرافق عمليات القصف من تهجير يشمل سائر المكونات المجتمعية، باعتبار أن الكل مهدد، ولا بد من القول إن البقاع بأسره، مثله مثل باقي مناطق لبنان، لم يكن جاهزاً لاستقبال جموع النازحين، باعتبار أن معظم السكان اعتقدوا أن الغارات ستقتصر على الجنوب، وعلى شريط القرى الملاصقة للخط الأزرق وجنوب مجرى نهر الليطاني. لكن القصف تمدد. والسؤال الآن هو إلى أين ذهب النازحون؟
صمد كثير من المواطنين في قراهم وبلداتهم حتى بات البقاء أشبه ما يكون بتعريض الحياة للخطر المحدق، ما دفعهم إلى مغادرة محال إقاماتهم نحو الأماكن التي اعتبروها آمنة. في منطقة كالبقاع حيث المجتمع ريفي ويتميز بتعارف أهله، قصد كثيرون أقاربهم وأصدقائهم، ولا سيما أن هناك الكثير من المساكن الشاغرة، إما لأن أصحابها مغتربون، وإما لأنهم يملكون متسعاً في منازلهم استقبلوا في قسم منه معارفهم. تقريباً فرغت المدن والقرى الشيعية شمال وجنوب البقاع من سكانها بسبب قصف الطيران الحربي.
لجأ النازحون من قرى بعلبك والبقاع الشمالي إلى البلدات والأحياء (حي آل الصلح والشراونة مثالاً) التي تسكنها أغلبية سُنية. كما أن قسماً كبيراً قصد زحلة من البلدات المجاورة (قصرنبا، شمسطار، علي النهري، تمنين التحتا والفوقا ودورس وطليا وبدنايل).
في زحلة، فتحت المنشآت الدينية أبوابها للنازحين، خصوصاً مع اشتداد القصف وتوسع رقعته إلى سائر البلدات والمدن في المنطقة الواقعة شرقي لبنان والملاصقة للعاصمة السورية وريفها. وسجل نزوح نحو 12 ألف عائلة من قرى بعلبك والجوار إلى منازل أصدقاء في قرى دير الأحمر وشليفا وبتدعي وبشوات وبرقا ورأس بعلبك والقاع، وهي قرى وبلدات مسيحية، في حين سجل نزوح عدد أقل نسبياً إلى عيناتا الأرز الواقعة شمال بعلبك. كذلك سجل نزوح باتجاه بلدات تسكنها أغلبية سنية هي الفاكهة وعرسال وغيرها. وتمدد النزوح إلى البلدات السنية في البقاع الأوسط في محيط زحلة. وبقرار من وزير التربية عباس الحلبي، جرى استيعاب عدد كبير من النازحين في ثانويات وتكميليات وابتدائيات بعض تلك القرى.
ودفع تدفق هذا العدد الكبير من النازحين أهالي تلك المنطقة إلى افتتاح صالونات الكنائس والأديرة أمام الوافدين من القرى والبلدات الشيعية، وسجل نزوح نحو عشرين عائلة من العسيرة وعمشكي والبساتين والتل الأبيض إلى كنائس بعلبك وأديرتها، وبينها كنيسة القديستين تقلا وبربارة، في حين توزَّع عدد من العائلات بين نادي الشبيبة للروم الملكيين الكاثوليك والمطرانية.
وقامت دور الإفتاء والأوقاف السنية بدورها في الإغاثة، ففتحت أبوابها لاستقبال النازحين، وقصد الكثيرون بلدات عرسال والفاكهة وسعدنايل وبرالياس وقب الياس والقرعون، واستقرت أعداد من النازحين ضمن مدينة بعلبك في قاعة جمعية المقاصد الإسلامية التي لجأ إليها 185 نازحاً، ثم قاعة غفرا التي لجأ إليها 50 نازحاً، ثم في قاعة الإمام الأوزاعي بسبب كثافة النزوح. ومع تصاعد الضغوط، جرى فتح قاعة مسجد أبي عبيدة الجراح. والحصيلة أنه جرى استقبال 1500 نازح من الجنوب والضاحية الجنوبية في قاعات المساجد والكنائس وأديرة الفاكهة، و3 آلاف في قاعة مسجد ومدرسة معربون الرسمية، و4 آلاف في عرسال من اللبنانيين.
لكن العدد الأكبر هو من وجد لدى الأقارب والأصدقاء متسعاً. وهو امتياز لم يتوافر للكثيرين الذين اضطروا إلى تمضية العديد من الليالي في سياراتهم أو في الحدائق العامة والشوارع، خصوصاً بعدما غصت الفنادق بقاصديها، واضطر من لم يجدوا غرفاً لهم فيها إلى النوم في الصالات والباحات، ولا سيما أن مراكز الإيواء التي فتحتها الدولة بما هي مدارس ومعاهد فنية لم يصل عدداً إلى المائة تفتقد إلى التجهيزات.
الأرقام التي أوردناها لا تتماشى مع أعداد النازحين من البقاع، ما يعني أن الأعداد الكبرى استأجرت المنازل أو التوجه إلى دور الإيواء بعدما تحسنت الخدمات التي تؤمنها بعد أيام بفعل نشاط الجمعيات المدنية والأهلية ومبادرات المجتمع المحلي، علماً أن هناك من يقدر حجم النزوح في البقاع بحوالي 500 ألف مواطن. ثم إنه من أصل هذا العدد قسم اجتاز الحدود نحو سورية أو قصد طرابلس وزغرتا وباقي أنحاء محافظة الشمال.
كان واضحاً أن ما يشهده البقاع هو كارثة اجتماعية، باعتبار أن المنطقة تعيش على الحرف والتجارة والزراعة التي تعرضت للكساد مع تعذر قطاف المحصول وبعد إقفال الحدود وهرب العمال إلى سورية. ثم إن النازحين خرجوا بما عليهم من ثياب. وهم في حاجة إلى وجبات غذائية استطاعت بعض الجمعيات أن تقدم قسماً منها للموجودين في مراكز الإيواء، لكن من هم في ضيافة أقارب وأصدقاء لم يصلهم ما "يبل ريقهم"، واعتمدوا على إمكانات مضيفيهم أو مقدراتهم القليلة. ثم إن الأطفال في حاجة إلى حليب ومستلزمات ومثلهم كبار السن الذين يحتاجون إلى أدوية ومتابعات صحية، ويضاف إليهم الأشخاص ذوو الإعاقة.
وما بدا واضحاً من تجربة البقاع مع النزوح أن خطة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة لمواجهة الحرب وإدارة الوضع قاصرة عن مواجهة وضع على هذا النحو من الاتساع، علماً أن ما قررته قاد بدوره إلى أزمات باعتبارها عطلت المدارس الرسمية وبعض الخاصة والجامعة اللبنانية، ما قاد إلى حرمان الطلاب من العام الدراسي، ثم إنها لا تحوي تجهيزات ضرورية كالمطابخ وتمديدات الغاز والكهرباء وخطوط الإنترنت والحمامات ودورات المياه وما شابه.
ومع أن أزمة النزوح ليست الأولى التي يشهدها لبنان لكنها الأوسع والأشمل. ومع أن التقديرات الرسمية تتحدث عن رقم أقصى تعداده مليون ونصف المليون، أي حوالي ربع سكان لبنان، لكن الفعلي أن أكثر من نصف سكّانه باتوا اليوم نازحين مواطنين مع اللاجئين من سورية وفلسطين.
وأدى العدوان الإسرائيلي المستمرّ منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتصعيده منذ 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى نزوح نحو 779.613 شخصاً داخل الأراضي اللبنانية حتى 16 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بحسب منظّمة الهجرة الدولية، ثم إلى مليون ومائتي ألف ثم مليون ونصف المليون.
واللافت تبعاً لما تذكره منظّمة الهجرة الدولية أن الجزء الأكبر من الناس حاول حل مشكلة نزوحه بنفسه، ولم ينتظر مساعدة من الدولة، التي تعتمد على التبرعات الخارجية عربية ودولية، باعتبارها شبه مفلسة قبل الحرب وخلالها. وبحسب هذه البيانات، انتقل 47% من النازحين الداخليين إلى العيش لدى أقارب وأصدقاء، واضطر 24% منهم إلى استئجار مساكن بكُلف باهظة، في حين أن 1% منهم انتقلوا إلى بيوت ثانوية يملكونها. في المقابل، لجأ نحو 25% منهم إلى مراكز الإيواء التي خصّصتها الدولة، في حين لم يكن أمام 3% من مجمل النازحين الداخليين، من خيار سوى السكن في مبانٍ قيد الإنشاء أو مهجورة وغير صالحة للسكن أو البقاء على الطرقات ونصب خيام في العراء.
خلاصة القول إن ما يعانيه الاجتماع الشيعي لن يقتصر عليه، إذ إن سيول الهجرة إلى الخارج تصيب الجميع وتفوق ما تعوده اللبنانيون، خصوصاً في منطقة كالبقاع تملك علاقات أسرية بأقارب وأهل مغتربين منذ أجيال وآماد طويلة، ما يعني أن المجتمع اللبناني في تلك المنطقة وسواها قد تعرض للتخلخل الذي يتطلب معالجة خاصة مستقبلاً كي يبرأ من أمراضه.