لا يكفي ما يعيشه اللبنانيون من أزمات وأحداث يوميّة أليمة، حتّى باغتهم الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسورية، وكأنّ الويلات والمآسي تلاحقهم أينما حلّوا. زلزال السادس من فبراير/ شباط الجاري، والذي تسبّب بكارثة إنسانيّة جسيمة، كانت للبنانيّين حصّة فيه، سواء من الذين تركوا لبنان بحثاً عن استقرارٍ منشود في تركيا أو الذين كانوا بالصدفة في رحلة عملٍ أو زيارةٍ قصيرة. كذلك، تداول مستخدمو مواقع التواصل أسماء ناجين وضحايا لبنانيين في سورية، خلال زيارتهم اللاذقية وغيرها من المدن القريبة للحدود اللبنانية الشمالية.
لحظاتٌ مروّعة قضاها الشاب اللبناني إبراهيم المكاري (19 عاماً) من مدينة طرابلس (شمالاً)، وهو طالب الطب في جامعة غازي عنتاب. يروي في حديثه لـ "العربي الجديد" عن فظاعة الكارثة. كان نائماً في سكنه الجامعي قبل أن يختبر رحلة شاقّة من الرعب والدمار. ويقول: "استيقظتُ على صوت الصراخ وارتجاج المبنى بقوّة رهيبة. ثم تصدّعت الجدران وتشقّقت وبدأت تنهار علينا. هرعتُ من دون أن أحمل شيئاً. وأدركتُ لاحقاً أنّني أمشي حافياً على الثلوج الكثيفة، وأنّ حال الجميع كحالي، خرجوا بالثياب التي عليهم على أمل الخلاص، والباقي لا يهمّ". يتابع بحسرة: "لم يكن هناك أيّ مسؤول أو أيّ فرق إنقاذ بعد. كانت ظروفاً صعبة، وانتابنا التوتّر والقلق. كنّا نعيش على أعصابنا، ولا سيّما مع تكاثر الشائعات حول زلازل أخرى ستحدث وبدرجات أقوى. لم نكن نعرف ماذا نفعل، وكنتُ الطالب اللبناني الوحيد في هذا السكن. فبادرتُ عندما هدأ الوضع للعودة إلى غرفتي، وتمكّنتُ من أخذ هاتفي والسترة، ولجأتُ إلى مسجد الجامعة، ووقفنا على مقربة منه نحو ساعتين تحسّباً لأيّ زلزال آخر. ثمّ دخلنا المسجد، لكنني لم أقوَ على تحمّل البرد والجوع، فغادرته بعد خمس ساعات، وحاولتُ مجدّداً الذهاب إلى غرفتي للحصول على جواز سفري وما تيسّر من أغراضي، لكنّهم لم يسمحوا لي إلّا في اليوم الثالث بعدما وقّعتُ تعهّداً بأنّني أدخل على مسؤوليتي".
المكاري الذي قصد لاحقاً صفوف طلاب الطب داخل مستشفى الجامعة "كونها أكثر أماناً مع وجود أطباء وإسعافات أولية"، يقول: "قضيتُ ثلاث ليالٍ في هذه الصفوف، لكنّنا كنّا طوال الوقت مرتعبين، وكان الطلاب يبكون ويودّعون أهلهم من خلال هواتفهم. لم نستطع النوم ولم نتمكّن من تغيير ملابسنا. كنّا نسدّ جوعنا بالموجود. اتصلتُ بالسفارة اللبنانية لكنّها لم تساعدنا، في حين بادرت سفارات أخرى لمساعدة طلابها. بعد ذلك، قرّرتُ مغادرة المدينة بأيّ طريقة، فحظيتُ بباصٍ متّجه نحو قونية، ووصلتُ إليها بعد 12 ساعة، ثمّ استقللتُ الباص المتّجه إلى إسطنبول، واستغرق كذلك 12 ساعة".
عاد المكاري إلى لبنان برفقة والدته وشقيقته المقيمتين في إسطنبول حيث تتابع الأخيرة دراستها الجامعية. ويعيش المكاري اليوم في منزل جدته في زغرتا (شمالاً). ويقول: "هناك العديد من الطلاب اللبنانيين في جامعات أخرى، وقد علمتُ أنّهم نجوا، لكنّنا لا نعرف ماذا سنفعل كي لا نخسر سنواتنا الجامعيّة. لذلك، نناشد الدولة مساعدتنا من خلال تسجيلنا في جامعات لبنان، فالدمار والصدمة يعيقان عودتنا إلى المنطقة المنكوبة". ويختم حديثه قائلاً: "اعتدنا كلبنانيّين تخطّي أصعب الظروف، غير أنّني أيقنتُ مع حادثة الزلزال أهميّة أن يعيش المرء حياته كما يشاء. ففي غضون لحظة تتغيّر الحياة أو تنتهي".
بدورها، تسرد فاطمة زكريا من منطقة باب التبانة (شمالاً) هول الفاجعة، هي التي قصدت تركيا منذ ثلاث سنوات قبل أن تتزوّج العام الماضي من شاب سوري. وتقول: "عشت بدايةً في اسطنبول قبل أن أستأجر شقّة في مدينة كهرمان مرعش، وكنتُ يومها أواصل تجهيزها وفرشها". تختزل الشابة العشرينية اللحظات العصيبة التي عاشتها بالقول: "ما من أحدٍ يحسدني عليها، علماً أنّني بقيتُ أقلّ من نصف ساعة تحت الأنقاض، قبل أن ينقذني صديق زوجي، غير أنّ وضعي النفسي اليوم مدمّر. كنتُ مستيقظة لحظة وقوع الزلزال الأول، وسارعت للهرب، فباغتتني الهزات المتتالية. وبعد إنقاذي، أيقنتُ حجم الدمار الذي أعاق دخول المنقذين ورجال الأمن لغاية اليوم الثاني. حتّى أهلي لم يعرفوا بخلاصي إلا بعد أربعة أيام".
زكريا التي كان أهلها قد أطلقوا صرخات استغاثة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بعدما انقطع الاتصال بها، تقول لـ "العربي الجديد": "هربنا من واقع لبنان المرير، فكانت المصيبة بانتظارنا. خسرنا الشقة وما فيها، وفقدتُ صديقة الطفولة المقيمة في أنطاكيا والتي قضيتُ معها أجمل الأيام على مقاعد الدراسة في لبنان".
أمّا آية بلقيس كايا، الشابّة البيروتيّة المتزوّجة من شابّ تركي منذ عام 2020، فتقول لـ "العربي الجديد": "كنتُ أعيش في أنطاكيا في الطابق الخامس من المبنى. وأثناء وقوع الزلزال، كنتُ نائمة بينما حين كان زوجي مستيقظاً. صرخت وسارعت لأخذ ابني البالغ من العمر سنة واحدة من سريره واحتضانه، ثمّ الجلوس على الأرض وفق تعليمات زوجي الذي وضع يديه على رأسي كي يحمينا، فكان أن وقعت الخزانة عليه، وأُصيب إصابة طفيفة". تتابع آية: "عندما هدأ الزلزال، تمكّنا من الخروج، إذ لم يقع المبنى، لكن تصدّعت كلّ جدرانه. هرعنا إلى السيارة بأقدامٍ حافية، من دون أن نأخذ أيّ شيء، وسط صراخ الأهالي والدمار والأمطار الغزيرة. قصدنا منطقة مرتفعة بعدما عثرنا على شقيق زوجي. وفي صباح اليوم الثاني، أرسلني زوجي مع ابني إلى أضنة، ثمّ إلى أنقرة حيث تسكن شقيقته. في حين بقي زوجي هناك مع والده وشقيقه للمساعدة في عمليات الإغاثة والإنقاذ". مأساةٌ حقيقيّة اختبرتها الشابة اللبنانية للمرة الأولى في حياتها، وفق قولها، مبديةً حزنها على الضحايا من أقرباء زوجها وجيرانها الذين تمّ العثور على عددٍ منهم تحت الأنقاض، بعد أن فارقوا الحياة.