استمع إلى الملخص
- بدأت ظاهرة المقابر الجماعية في مجمع الشفاء الطبي في أكتوبر 2023، وتوسعت لتشمل أكثر من 120 موقعًا في الأحياء السكنية والمدارس والمساجد.
- تحولت مناطق عديدة في غزة إلى مقابر جماعية، حيث دفن الأهالي الشهداء في المدارس والشوارع والأسواق، مما زاد من معاناتهم النفسية والاجتماعية.
وجد كثير من أهالي قطاع غزة أنفسهم مضطرين إلى دفن ذويهم في المقابر الجماعية نتيجة امتلاء المقابر الرسمية، أو صعوبة نقل جثامين الشهداء في ظل تهديدات جيش الاحتلال وعدم توفر وسائل النقل
دفعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة مئات العائلات إلى دفن شهدائهم في شوارع المخيمات وأزقتها، وفي أراض زراعية، وفي الأسواق، أو بجوار ركام منازلهم، لتبقى تلك المقابر شاهدة على جريمة الإبادة الجماعية والمجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. وغالباً ما يتم الدفن بلا أكفان، ويتم لف الجثامين أو أشلاء الشهداء بأكياس النايلون، وتتراص الجثامين بعضها بجوار بعض، ثم يتم وضع ألواح من الخشب أو الزينكو فوقها، ودفنها بالرمال.
وجرى تدشين أول مقبرة جماعية في مجمع الشفاء الطبي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد تعذر نقل الشهداء إلى المقابر الرسمية بمدينة غزة لوجودها في مناطق شرقي المدينة، وتوالى لاحقاً إنشاء هذه المقابر حتى زاد عددها على 120 مقبرة جماعية تتوزع داخل الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات، وحتى في صالات الأفراح والملاعب الرياضية وساحات المستشفيات والمدارس والمساجد.
تسكن عائلة الفرا في حي المنارة شرقي مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، وارتكب الاحتلال بحقها مجزرتين، الأولى في 2 أكتوبر 2024، واستشهد خلالها 22 فرداً من العائلة، من بينهم الطبيب محمد الفرا الذي كان يعمل في المستشفى الأوروبي وعائلته، والصيدلاني منتصر الفرا وعائلته.
مع كثافة القصف الإسرائيلي، اضطرت العائلة إلى دفن الشهداء في أرض مجاورة تعود لعائلة "النجار"، باتت تستخدم مقبرةً، ثم دفنت العائلة في المقبرة نفسها شهداء المجزرة الثانية البالغ عددهم 14 شهيداً، جلهم من الأطفال، بعد استهداف منزل عبد الكريم الفرا بقصف للاحتلال طاول خمس عمارات سكنية لعائلات مختلفة في 24 أكتوبر الماضي.
يقول ممدوح الفرا لـ "العربي الجديد": "قررنا دفن الشهداء بالمقبرة الجماعية المجاورة بسبب عدم استطاعتنا التوجه إلى المقابر الرسمية، إضافة إلى كونها ممتلئة. هناك معاناة في إيجاد قبور، كما أن تكلفة القبر الواحد تبلغ 2000 شيكل (نحو 550 دولاراً)، لذا اضطررنا إلى دفن ثمانية من شهداء المجزرة الأخيرة في قبر جماعي واحد بحسب ترتيب صلة القرابة، وفي القبور الأخرى كنا ندفن الأم وأبناءها. المنطقة أصبحت شبه فارغة بعد استشهاد معظم أبناء العائلة، ونمر بجوار البيوت المهدمة والقبور، فنتذكرهم ونستحضر سيرهم وآخر لحظاتهم".
أثناء محاولة أسماء شحادة وطفلتيها ووالديها وشقيقها محمود (19 سنة) الخروج من مدرسة العائلة المقدسة بمدينة غزة بعد اقتراب دبابات الاحتلال منها في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قصفتهم مسيرة إسرائيلية، فاستشهد شقيقها، وتعرضت لإصابة بالغة في قدمها، نقلت على إثرها إلى المستشفى المعمداني.
دفنت العائلة ابنها الشهيد محمود في قطعة أرض قريبة من المستشفى بمنطقة "السدرة"، ودفنت بجواره قدم أسماء التي تعرضت للبتر. وتروي شحادة التي هي حالياً في مصر لاستكمال العلاج، لـ "العربي الجديد": "كانت الأرض فارغة، وكلّ الشهداء في تلك الفترة كانوا يدفنون فيها، ومن بينهم جارتي التي استشهدت مع أخي بينما كنا نسير".
توجهت شحادة وعائلتها النازحة إلى مجمع الشفاء الطبي بعد إعادة فتحه، لاستكمال العلاج من أثر البتر، فاستشهد ابن عمها بالقرب من المستشفى برصاصة أطلقتها مسيّرة (كواد كابتر)، ودفن في قبر بساحة المشفى مع أخيه وأولاده، إذ كانت منطقة غرب غزة محاصرة، والمستشفى ممتلئ بالنازحين، وعندما اقتحمه الاحتلال قام بنبش القبور.
كان تعايش أسماء شحادة مع قبور أشخاص كانوا يوجدون معها قبل أيام قاسياً، لكنّ مع أعداد الشهداء والإصابات أصبح الأمر شبه طبيعي، كون خيار الدفن في المقابر الرسمية معدوماً، ما جعل ساحة مجمع الشفاء الأمامية تمتلئ بالقبور.
وخلال اجتياح الاحتلال لأحياء مدينة غزة، وارتكاب العديد من المجازر بحق العائلات والنازحين، تحولت كثير من الشوارع إلى مقابر جماعية، وجرى دفن شهداء على أرصفة الطرقات وفي المتنزهات، وأحاط المواطنون كل قبر بحجارة بناء، وضعوا عليها شواهد من الحجارة نفسها مكتوب عليها اسم الشهيد وتاريخ الاستشهاد، لكن بعض الشهداء كانوا مجهولي الهوية.
توجد عشرة قبور لشهداء إلى جوار منزل الشاب عبد الله المدهون بشارع "الشفاء" غربي مدينة غزة، وهو يقول لـ "العربي الجديد": "المشهد مؤلم، ولم أتخيل يوماً أن نصل إلى درجة أن لا نستطيع إكرام الميت، حتى الميت لم يعد لديه حقوق عند الاحتلال المجرم. أتخيل نفسي محل أهالي الشهداء المدفونين في الشوارع، فأجد الأمر صعباً نفسياً".
دفنت أم مالك بارود أولادها الشهداء في حديقة تقع أمام منزلها بمخيم الشاطئ، كانوا قد اعتادوا على اللعب فيها منذ صغرهم. تقول لـ "العربي الجديد": "كانوا يلعبون في هذا المنتزه لأنه كان المتنفس الوحيد لسكان المخيم، والآن دفنوا فيه. عندما أعبر الطريق أمرّ على قبورهم، لكني أتذكرهم وهم يلعبون وليس وهم شهداء، وأحياناً أتجنب المرور حتى لا يشتد الحزن على قلبي".
استشهد مؤمن بارود (19 سنة) وشقيقه أحمد (16 سنة)، يوم 13 يوليو/ تموز الماضي، في مجزرة ارتكبها الاحتلال بقصف المصلين أثناء تأدية صلاة الظهر. وفي أكتوبر الماضي، استشهدت شقيقتهما الصحافية حنين بارود إثر استهداف جيش الاحتلال لمجموعة من الصحافيين بمخيم الشاطئ، ودفنت في قبر بجوار شقيقيها، وقبلهم ودعت أم مالك نجليها الشهيدين مالك بارود المدفون في مقبرة الشيخ رضوان الرسمية، ومحمد بارود المدفون في ساحة مستشفى الشفاء، بينما زوجها الأكاديمي محمود بارود لا يزال مفقوداً.
ترفض أم مالك نقل جثامين أبنائها استجابة لطلب ابنتها النازحة في جنوبي القطاع، وتقول بينما تداهمها الدموع: "كنت أريد نقلهم بناء على وصية أبنائي الذين طلبوا دفنهم إلى جوار شقيقهم مالك، لكن ابنتي النازحة طلبت إرجاء الأمر، فهي تأمل أن تعود للمشاركة في نقلهم". ومع امتلاء المقابر الرسمية، لجأت بعض عائلات مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة إلى دفن شهدائها بقبور مضت فترة على وفاة من فيها، ودفن كل ثلاثة شهداء، أو أشلائهم، في قبر واحد.
وفي مخيم جباليا، ومع استمرار الهجوم الإسرائيلي الوحشي منذ 5 أكتوبر 2024، دفن الأهالي الشهداء في المدارس والشوارع والأسواق والمتنزهات. والحال نفسه في بلدة بيت لاهيا، حيث تحول السوق إلى مقبرة جماعية دفن فيها شهداء عائلة أبو نصر البالغ عددهم أكثر من 130 شهيداً، بعد قصف الاحتلال منزلاً من ستة طوابق في 29 أكتوبر 2024، كما تحولت مراكز الإيواء في جباليا وبيت لاهيا إلى مقابر جماعية تحتضن جثامين من استشهدوا فيها، مثل مجزرة مدرسة "حفصة"، حيث تم دفن الشهداء بجوار الغرف الصفية، ودفن شهداء في ساحة مركز إيواء مستشفى اليمن السعيد بجباليا.
نزحت رنا الحلو من منطقة السودانية غربي مدينة غزة إلى مقر جمعية الشبان المسيحيين، وهي مركز اجتماعي ثقافي يضم حديقة ورياض أطفال، لكنه تحول إلى مركز إيواء. كانت تعتقد أنه سيكون آمناً، لكن توغل جيش الاحتلال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 لم يرحم المكان.
تروي الحلو لـ "العربي الجديد": "كنت داخل إحدى الغرف، وكان معي زوجي نضال وابنتي المتزوجة ديما، وكانت حاملاً في جنينها الأول، وخالي وزوجته، وزوجة أخي وشقيقها وابنتها شهد. كنت على باب الغرفة مع ابنتي نحاول الخروج للنجاة بعد أن صدمنا بالهجوم المباغت، لكن زوجي أدخلني، وفي هذه اللحظة أطلق قناص إسرائيلي يعتلي عمارة مقابلة لمقر الجمعية الرصاص عليه، فاستشهد، ثم أطلق رصاصة ثانية على ابنتي، فاستشهدت هي وجنينها، ثم استشهدت شهد، وأصيب خالها حسين الذي كان معنا، وظل ينزف حتى استشهاده".
تضيف: "تحولت الغرفة إلى بركة دماء، وكان الرصاص يخترق النوافذ بكثافة، وأمضينا الليل كله على الأرض، نسمع زخات الرصاص التي لا تتوقف، وفي الصباح خرجنا، وكنا نحو 300 نازح، توجهنا نحو عيادة حي الرمال، وكنت أسير مصدومة بعد أن تركت الجثامين، وقد رأيت فتاتين استشهدتا بأحد الممرات، ثم علمت أنّ أبي استشهد في الشارع أثناء محاولته القدوم إلينا".
لم تحظَ الحلو بفرصة لدفن زوجها وابنتها وابنة شقيقها، ولا بدفن والدها، إذ وصلت الدبابات إلى أبواب الجمعية، وقد رجعت بعد عشرة أيام عقب انسحاب جيش الاحتلال، لتجد الجثامين في مكانها، وقد بدأت بالتحلل، فحفرت مع آخرين قبوراً دفنوا فيها عشرة شهداء. لم تغادر رنا المنطقة، وفي كل يوم اثنين وخميس، تزور المقبرة الصغيرة للدعاء لزوجها وابنتها وحفيدها الذي لم تره. تقول: "كنت أنتظر أن أصبح جدة وأنا في الأربعينيات، لكن الاحتلال قتل ابنتي وجنينها".