- تحتوي المقابر على أكثر من 5 آلاف عين و2200 شاهد قبر، تعكس التنوع الثقافي والديني في الإسكندرية، مضمنة رفات من جاليات متعددة مثل اليونانية والكاثوليك واللاتين.
- تعد المقابر شاهدًا على التراث الإنساني، تحتضن رفات شخصيات بارزة وتمثل قيمة تاريخية وثقافية، مع دعوات لإدراجها ضمن الخريطة السياحية لمصر.
في قلب مدينة الإسكندرية، شمالي مصر، تنبض حكاية مليئة بالحياة والتاريخ، تروي جانباً عن تاريخ المدينة الساحلية وثقافات وجنسيات متعددة، شكّلت يوماً ما جزءاً لا يستهان به من التاريخ المصري القديم. إنها مقابر "السبع ملل" أو مقابر اللاتين، وهي أشبه بمتحف ضخم. وتعد واحدة من أبرز وأشهر المقابر في مصر، إذ يزيد عمرها عن 150 عاماً، وتضم رفاتاً من غالبية جنسيات العالم، وتتميز بجمالها الباهر، وروعة تصميمها، وهي مشابهة إلى حد كبير لمدن الأساطير والأحلام المثقلة بالتاريخ، مثل مدينة أثينا اليونانية القديمة.
وتحتل المقابر التي تقع في منطقة باب شرقي وسط الإسكندرية صدارة الأماكن الأثرية الأكثر شهرة في المدينة الساحلية، وتجذب انتباه الزوار والمهتمين بالتاريخ والثقافة بتصميمها الرائع والمُعَمَّر، وزخارفها المعمارية الفريدة التي تُسلّط الضوء على تقاليد وعادات ومعتقدات الشخصيات المدفونة فيها.
ويقول مدير آثار الإسكندرية، محمد متولي، لـ"العربي الجديد"، إن هذه المقابر سُمّيت بهذا الاسم كونها تحوي بين طياتها مسيحيين من الكاثوليك واللاتين والموارنة والسريان والكلدان والروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس. وتعرف بـ"مقابر اللاتين" لضمها رفات أبناء الجالية اليونانية الذين عاشوا في الإسكندرية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ويشير متولي إلى أن تاريخ نشأتها يرجع إلى عهد حاكم مصر محمد علي باشا (1805م - 1848م)، والذي منح مساحة 5 أفدنة للأجانب والمصريين المسيحيين واليهود، لإنشاء مقابر لهم، وكان ذلك الموقع الجغرافي وقتئذ خارج حدود المدينة من الجهة الشرقية، قبل أن تتغير الطبيعة الجغرافية للإسكندرية، وتتحول المقابر إلى موقع في منتصف المدينة.
ويؤكد متولي أن محمد علي كان حريصاً وقتها على أن تُمثل تلك المقابر لوحة فنية تشهد على تراث إنساني عالمي كبير، ليثبت أن مصر هي البوتقة التي تنصهر فيها كل الجنسيات والأديان والمذاهب، وهو ما تحول مع مرور الزمن إلى ما يشبه متحفاً مفتوحاً عريقاً.
بدوره، يؤكد عضو اللجنة الدائمة لحماية الآثار الأسبق وخبير الآثار أحمد عبد الفتاح، لـ "العربي الجديد"، أن المقابر تقدم صورة حية للحياة التي عاشها الآلاف من أبناء الجاليات الأجنبية الذين عاشوا في المدينة الساحلية، وتركوا تراثاً لا يمحوه الزمن. وتضم أكثر من 5 آلاف عين، كل منها يوجد بها رفات ميت، وعليها 2200 شاهد قبر، مشيراً إلى أن المقابر تتنوع بين مدافن خاصة لعائلات، وأخرى عبارة عن شواهد قبور منفردة لأشخاص مكتوبة باللغة اليونانية، وهناك شواهد مكتوبة باللغة العربية، وأخرى مكتوبة باللغة الفرنسية.
ويوضح في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "شواهد المقابر أو المدافن تحمل نقوشاً وصوراً ورسومات خاصة بالطوائف المختلفة، مثل الطائفة الكاثوليكية المنتمية للفاتيكان، واليونان الأرثوذكس، واللاتين، والروم الكاثوليك، واليهود، والمسيحيين المصريين وغيرهم، فضلاً عن تماثيل منحوتة بدقة وبراعة تجسد تاريخ مجتمع الإسكندرية العالمي، وتحفظ تاريخ عائلات وأسماء ساهمت في بناء مصر الحديثة".
ويشير إلى أنه من بين الجثامين المدفونة في مقابر السبع ملل، جوزيبي بوتي، وهو مؤسس المتحف اليوناني الروماني، الذي كان رئيساً لهيئة الآثار المصرية في عام 1904؛ والمهندس دنتامارو، وهو المصمم الأول لكورنيش الإسكندرية، والمهندس فليبو بيني، وهو صاحب أقدم عقار في شارع فؤاد بوسط المدينة وهو الشارع الأقدم في العالم. يضاف إلى ما سبق عائلات منشا باشا، وباسيلي باشا، والمخرج العالمي يوسف شاهين، إلى جانب رفات مسيحيين مصريين وجاليات أجنبية، وخصوصاً الفرنسيين والإيطاليين.
ويطالب عبد الفتاح وزارة السياحة بوضع مقابر السبع ملل على الخريطة السياحية وفتحها للزيارة، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من المصريين والأجانب يتسابقون على زيارتها، رغم القيود القانونية للحصول على التصاريح اللازمة، بالتنسيق مع الجهات المختصة لجمالها المعماري والتاريخي، وكونها مكاناً للتأمل والروحانية يمكّن الزوار من الاسترخاء والتأمل في السكون والسلام الذي يعم المكان، واستكشاف التواصل الروحي بين الأجيال الماضية والحاضرة.
ويصف أستاذ الإرشاد السياحي والتاريخ الحديث والمعاصر الدكتور إسلام عاصم، مقابر السبع ملل الواقعة في منطقة الشاطبي بالإسكندرية بأنها واحدة من أهم وأجمل المقابر في المدينة، وتعتبر أحد الكنوز الثقافية في مصر، وتمثل موروثاً تاريخياً غنياً ومتنوعاً يعكس التناغم بين الثقافات المختلفة، ويُذكّر بأهمية الحفاظ على تراثنا الثقافي.
ويشير عاصم في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن مقابر السبع ملل تضم مقابر لمشاهير من الجالية اليونانية التي عاشت في الإسكندرية لفترة طويلة، والأكثر تأثيراً في المجتمع السكندري، وأشهرهم الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، الملقب بشاعر الإسكندرية قبر بوتي، وهو أول مدير للمتحف اليوناني بالمدينة، ومقبرة عائلة سلفاجو، أحد مؤسسي البنك الأهلي المصري، وكذلك مقبرة عائلة انسطاسي، وهي العائلة التي تحمل بعض شوارع الإسكندرية اسمها حتى الآن.
ويقول إن من أجمل القبور فيها هو قبر ابنة أحد الأثرياء اليونانيين، وهو عبارة عن مقصورة يونانية على بابها رسم لملاك بجناحين، يضع إصبعه على شفتيه، وكأنه يدعو الزوار لالتزام الصمت، وخلفها تابوت كأنه سرير منحوت من الرخام، والمقبرة الرائعة التي يعلوها تمثال رخامي بديع للسيدة العذراء، ويرقد تحتها جثمان الثرى اليوناني جون أنطونيادس، الذي وهب قصره وحدائقه لبلدية الإسكندرية بعد وفاته.