أحد أكبر الإنجازات المصرية في القرنَين العشرين والواحد والعشرين هو "بنك المعرفة المصري" الذي أنشئ في عام 2016 ولم يحظَ حينها بأيّ اهتمام، لا من الهيئات التعليمية ولا من المجتمع الثقافي حتى، في حين أنّه كان مثار "مساخر" بين الطلاب حول مبررات وجوده في الأساس وإنفاق ملايين من الجنيهات على مؤسسة لا لزوم لها. وحينها كانت المدارس والجامعات بما لديها من أنظمة وكفاءات تدريسية تمارس دورها المعتاد في تمرير المعرفة إلى الأجيال الطالعة. لكنّ وباء كورونا أخيراً، فتح الأعين على أهمية هذه المؤسسة الرقمية التي تُعَدّ واحدة من أكبر المكتبات الرقمية في العالم، كونها تضمّ موارد ومواد علمية لا مثيل لها في مكان واحد. وقد ازدادت عملية الاهتمام بالبنك مع قرار تعطيل عملية التعليم في المدارس المصرية، لا سيّما أنّ وزارة التربية والتعليم العالي والتعليم الفني أنشأت منصة خاصة للتلاميذ تحوي كلّ المناهج الدراسية من مرحلة رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية باللغتَين العربية والإنكليزية. وهذه المنصة متاحة لأركان العملية التعليمية من تلاميذ ومعلمين وإداريي مدارس. كل هؤلاء توجّهوا في زمن كورونا نحو البنك كعنصر استقطاب لا بديل منه ولا منافس له.
في هذا الإطار، قال وزير التربية والتعليم والتعليم الفني المصري، طارق شوقي، إنّه "حان الوقت للاعتماد على قواعد التعلم عن بُعد التي تعمل عليها الوزارة منذ سنوات"، مشيراً إلى أنّ المكتبة الإلكترونية و"بنك المعرفة المصري" جاهزَان، إذ كل المناهج الدراسية متوفّرة. لكنّ التلاميذ ومنذ إقفال المدارس باتوا يتصرفون تبعاً للظروف المنزلية الخاصة بكلّ منهم. ثمّة من يتصرف كأنّه بات في إجازة قسرية ويرفض الخضوع لأحكام المدرسة في البيت، مستفيداً إمّا من تراخي الأهل وانشغالاتهم المنزلية أو الخارجية وإمّا من عدم قدرة الوالدَين أو أحدهما على متابعته. لكنّ قسماً آخر، لا سيّما أولئك الذين سبق أن تعاطوا مع التعليم الرقمي، يتصرّف كأنّه في المدرسة تماماً، أي يخضع ليوم دراسي كامل مع ما يرافقه من استراحات.
إذاً تتراوح درجة التجاوب "بين بين"، فثمّة تلاميذ تخلصوا من عبء الدراسة، بالنظر إلى غياب الضبط الإداري الذي يمارسه المعلمون والإداريون في المدرسة، وقد تلاعب هؤلاء بالمدرّسين من خلال وضع الأغاني أو إطلاق تعليقات. وثمّة تلاميذ "نص نص"، أي أنّ الوضع تراوح ما بين التفلت من المناخ المدرسي وبين الضبط المنزلي والانضباط. ويبقى تلاميذ آخرون لم يتغيّر عليهم سوى القليل.
لكنّ هذه المشكلات التي تبرز في المدن تخلي مكانها في الأرياف لمشكلات أكثر تعقيداً تتعلق بالبنية التحتية غير المتاحة. فالتواصل مع المنصات يتمّ عبر الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بالإنترنت، لكنّ نسبة كبيرة من تلاميذ القرى غير متصلة بالإنترنت، ما دفع الوزارة إلى بثّ الحياة مجدداً في القنوات التلفزيونية التعليمية التي يشرح معلّموها المناهج للسنوات الدراسية المختلفة. ومن المعلوم أنّ مثل هذه القنوات ذاع صيتها قبل زمن الإنترنت وعهود ما قبل الدروس الخصوصية.
وبمناسبة الحديث عن الدروس الخصوصية وما يدفعه الأهل لرفع مستوى أبنائهم، لا سيّما تلاميذ الثانوية العامة، نشير إلى أنّ أرباب هذه المهنة عملوا على التكيّف مع التكنولوجيا فيقدمون عبر الشبكة العنكوبتية عروضهم مع تخفيضات تتراوح ما بين 25 و35 في المائة، مع ضرورة الإسراع إلى "احجز الآن قبل نفاد الأماكن. عشرة طلاب ومعلم واحد في السنتر الافتراضي". إنّها التجارة تتماشى مع سوق العرض.
(باحث وأكاديمي)