في أروقة سوق خضار مليئة بالصخب والحركة بمنطقة الحضرة وسط مدينة الإسكندرية شمالي مصر، وقفت المسنة نعيمة فرج الله مرهقة وحائرة من وضعها الحالي، فبعدما كانت لا تكاد تلبي احتياجات أسرتها وجدت نفسها الآن أمام تحدٍّ جديد ومرير يتمثل في التكيّف مع الارتفاع الهائل في الأسعار الذي يعصف بميزانية حياتها المتواضعة، ويكاد يصيبها بعجز كامل عن تسديد المصاريف.
وسط الواقع المرير، راقبت نعيمة الأسعار، وتراكمت عليها الأفكار والأسئلة عن البدائل والحلول الممكنة لمواجهة صعوبات العيش وتزايد الأعباء المالية التي تتحمّلها يومياً بسبب الغلاء الشديد في أسعار السلع الأساسية، فهي تعرف أن مصروف البيت لا يكفي لشراء الاحتياجات المعتادة لأسرتها، ما دفعها إلى الاستغناء عن أنواع معينة والبحث عن بدائل أقل تكلفة، أو ربما التفكير في العودة إلى طرق تخزين الأطعمة وتجميدها للاستفادة منها في المستقبل.
ولا تشمل هذه الحال نعيمة وحدها، إذ أرهقت الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع الأساسية ميزانيات غالبية المصريين، ما زاد تحديات حياتهم اليومية ودفعهم إلى ابتكار حِيَل للتعامل مع الأزمة الاقتصادية، ومواجهة ارتفاع الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية من أجل الحفاظ على استدامة العيش وتلبية الاحتياجات الأساسية لأسرهم.
وتواجه مصر ارتباكاً في الأسواق جراء انفلات الأسعار بصورة غير مسبوقة بتأثير تفاقم الأزمة الاقتصادية المرتبطة بنقص العملات الأجنبية وزيادة التضخم وسط حديث عن سعي جديد لخفض جديد لقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار.
أرهقت الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع الأساسية ميزانيات غالبية المصريين
وقفزت أسعار سلع كثيرة بنسب تراوحت بين 15 و35 في المائة بعدما سجل سعر الدولار في السوق الموازية أسعاراً قياسية وصولاً إلى 70 جنيهاً خلال الأسابيع الأخيرة، قبل أن يتراجع قليلاً في الأيام الأخيرة.
يقول الحاج مؤمن زيتون (56 سنة)، وهو موظف لـ"العربي الجديد": "في ظل الزيادة المستمرة للأسعار التي لا تترافق مع أي تحسين للرواتب لا بدّ من أن نغيّر أنماط حياتنا واستهلاكنا ونستغني عن سلع واحتياجات، ونكتفي بتلك الضرورية فقط". يضيف: "ليست المشكلة في الغلاء فقط، بل في مواكبة وتيرة الزيادات التي يبدو أنها لن تنتهي، فأسعار غالبية السلع تزداد بشكل غير طبيعي من دون أن تستطيع ميزانيتنا تحمّل أعبائها، ما جعلنا نتحوّل من الشراء من المحلات التجارية التقليدية إلى الأسواق الشعبية حيث يمكن العثور على منتجات بأسعار أقل. أيضاً بتّ أستخدم مع أفراد أسرتي المواصلات العامة والنقل الجماعي الأقل تكلفة بدلاً من التكسي أو السيارات الخاصة.
من جهتها تطبق ابتسام محمد بدائل مختلفة للتأقلم مع الأوضاع الجديدة، إذ قررت إصلاح ملابسها القديمة والاستعانة بها خلال الفترة المقبلة كونها لا تستطيع شراء ملابس جديدة لها ولأولادها، وتقول لـ"العربي الجديد": "التغيير أو الاستغناء عن بعض الاحتياجات هو شعار المرحلة المقبلة بعدما ألقت الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع الأساسية بظلالهما على أسرتي، فراتب زوجي لا يسمح لنا بشراء كل ما نحتاج إليه، لكن رغم ذلك لا يمكن الاستغناء عن منتجات أساسية مع ارتفاع أسعارها مثل الألبان والبيض وأنواع معينة من الأجبان، ما اضطرنا إلى تقليل استهلاكها الشهري".
أما محمود فاروق، وهو عامل يومي لا يملك مصدر رزق ثابتاً، فيقول لـ"العربي الجديد": "لا يوجد أكل للغلابة أو الفقراء، فكل الناس يعانون ما يضطرهم إلى النظر في الأولويات المطلوبة لشراء مستلزمات المنزل والاكتفاء بالسلع الأساسية". ويتحدث عن أن بعض الأسر استغنت عن شراء الدجاج بسبب ارتفاع سعر الكيلوغرام الى أكثر من 100 جنيه، ولجأت إلى شراء هياكل الدجاج والأجنحة التي كان يُتخلص منها في السابق، أو تباع لإطعام الكلاب والقطط، وهي عبارة عن عظام تتضمن بعض اللحم البسيط.
ويوضح أنه محروم مع أفراد أسرته من تناول اللحوم التي ارتفع سعرها، لذا يبحث عن بدائل غذائية أقل تكلفة بينها النباتات الغنية بالبروتين مثل العدس، والتي تعتبر أكثر اقتصادية ومتاحة بسهولة في الأسواق.
وتقول الحاجة نعمة عبد الحميد، وهي ربة منزل (52 سنة)، لـ"العربي الجديد": "مع الارتفاع الكبير في أسعار الأسماك الطازجة بتّ أفضّل شراء تلك المثلجة الأرخص لتوفير المال، علماً أنني كنت أشتري كميات كبيرة منها وأحفظها عبر تجميدها، لكن الظروف الحالية لا تسمح لي إلا بالحصول على كميات بسيطة من الأسماك الطازجة في بعض الأوقات فقط".
تشهد مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات في شأن كيفية تنظيم الميزانيات
وتخبر أنّ "عدداً من الأهالي يحتالون لشراء الأسماك بأسعار أقل عبر نزع البطارخ (البيض المتجمع داخل جسم السمكة وينتج ما يسمى الكافيار الذي يعد طعام الأغنياء بسبب ارتفاع سعره)، وأيضاً من خلال الانتظار حتى حلول الليل لشراء باقي الأسماك المعروضة للبيع على مدار اليوم، والتي يُطلق عليه البائعون اسم التشكيلة".
أما سلمى فتحي (29 سنة)، وهي موظفة شركة لصيانة الأجهزة الكهربائية، فتقول لـ"العربي الجديد": "انتقلت صعوبة العيش مع غلاء الأسعار إلى مواقع التواصل الاجتماعي، إذ زادت شعبية منصات التجارة الإلكترونية التي تشهد حالياً نقاشات بين أشخاص من قطاعات مختلفة في شأن كيفية تنظيم الميزانيات، والتعرف إلى أفضل العروض لشراء المنتجات المختلفة، ما يتيح للمصريين شراء منتجات بأسعار مخفضة وتوصيلها إلى منازلهم". تضيف: "يعتمد عدد كبير من المواطنين على صنع منتجاتهم الغذائية الأساسية، مثل الأجبان والمربى والعصائر والألبان والسمن والصابون وغيرها في المنزل، ما يوفر بعض المال لهم بدلاً من شرائها جاهزة من المتاجر".
وفي بعض المناطق تلجأ أسر إلى البحث عن منتجات غير مكلفة لتلبية احتياجاتهم، والتي قد تتوافر في المزارع مثلاً قبل طرحها في الأسواق، أو تراجع ميزانياتها الشخصية، وتحاول تقليل الإنفاق غير الضروري من أجل توفير مال وتحقيق توازن بين العائدات والمصاريف.
وفي أسواق بيع الخضار والفواكه بالجملة تنتشر حيلة تقاسم بين 3 و5 زبائن عبوة كبيرة الحجم من صنف معيّن قد يصل وزنها إلى 50 كيلوغراماً من أجل توفير فارق السعر الذي يجنيه بائع التجزئة. ويفعل الأمر ذاته جيران وأقارب في المناطق الفقيرة، إذ يتعاون أفراد يسكنون في منازل مجاورة لتوفير السلع الأساسية بأسعار معقولة وتقليل التكاليف الإضافية، وذلك عبر شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية والسلع لتقسيمها، فالشراء الجماعي يعزز فرص الحصول على تخفيضات بالأسعار.
وتشرح نجلاء عبد المنعم، وهي باحثة اجتماعية، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "البدائل ليست حلاً نهائياً لمشكلة ارتفاع أسعار السلع الأساسية، إذ تمثل خطوات صغيرة يمكن اتخاذها للتعامل مع هذه الأزمة، وتعكس في الوقت ذاته روح الابتكار والتكيّف والتماسك الاجتماعي التي يتمتع بها الشعب المصري في مواجهة التحديات الاقتصادية، والقدرة على تحقيق الاستدامة والمرونة في ظل الضغوط الاقتصادية".
وتعتبر نجلاء أن استخدام البدائل، وتغيير أولويات الأسرة المصرية، "إجراءات مناسبة لمواجهة الأزمات الاقتصادية على المدى القصير، وتخفيف الضغط على الميزانية الشخصية للأفراد مع ارتفاع الأسعار لكنها ترسّخ سياسة الاستغناء عن الاحتياجات، ما يحدث تغييرات في نمط حياة الطبقات الاجتماعية بالمجتمع". تتابع: "يدفع المصريون ثمناً غالياً جراء ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، ويجب على الحكومة والمجتمع أن يعملا معاً لتوفير حلول شاملة ومستدامة لمشكلة ارتفاع الأسعار، وضمان توافر السلع الأساسية بأسعار معقولة للجميع".
وتؤكد أن "الحل الأكثر استدامة يتمثل في تطوير سياسات اقتصادية شاملة تعزز الإنتاج وتحسّن الوضع الاقتصادي عموماً، وهو يتطلب تعزيز الاستثمار في الزراعة والصناعة المحلية، وتوفير البيئة المناسبة لنمو الأعمال الصغيرة والمتوسطة وزيادة فرص العمل".
ويؤكد الخبير الاقتصادي ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والسياسية الدكتور رشاد عبده، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة مسؤولة مباشرة عن ارتفاع أسعار السلع بشكل مبالغ فيه بسبب غياب الرقابة، وعدم إيجاد حلول عملية لاستغلال التجار". ويلفت إلى أن "مصر تعاني ارتفاعاً حاداً في الديون الأجنبية وصولاً إلى نحو 164.5 مليار دولار، وارتفاع فوائد أقساط الديون إلى 42 مليار دولار هذا العام. ويبلغ العجز بين الصادرات والواردات 40 مليار دولار، علماً أن واردات البلاد من النفط والسلع الأساسية زادت بتأثير ارتفاع أسعار الشحن والتضخم السائد عالمياً. ورغم ذلك لا تملك الحكومة رؤية أو خطة أو استراتيجية واضحة للتعامل مع الأزمات". ويوضح أن "معالجة الأزمة الاقتصادية يتمثل في اضطلاع الحكومة بدورها في حلّ المشكلات التي تواجه المستثمرين سواء أكانوا مصريين أو عرباً أو أجانب، وإيجاد سعر صرف موحد للدولار أو سعر مستقر على الأقل، وأيضاً في زيادة الإنتاج وتقليص الاستيراد".