تؤكد المصرية نائلة أن يومياتها كلها غير عادية منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. درست نائلة الطب، لكنها قررت البقاء في المنزل لرعاية طفليها، بينما يقضي زوجها الطبيب ساعات طويلة في العمل، ما يجعلها تقضي يومها بين التلفزيون وشاشة الهاتف، حالها حال كثير من أبناء جيلها الذين يستقون الأخبار والمعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي.
تقول نائلة: "لا يصح أن نطلق على أي شيء في حياتنا صفة العادي. كل ما كان عاديا بالنسبة لنا في السابق أصبح مختلفاً. استكمال فنجان قهوة، أو حتى وجبة طعام ساخنة بات صعباً على عقولنا المشوشة بصور جرائم الحرب في غزة، ومشاهد أهلنا في غزة المحرومين من كل شيء. تابعت قناة الجزيرة وقت خطاب زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، ومع كل حديث للمتحدث باسم حركة حماس أبو عبيدة، لكني أعتمد على وسائل التواصل. ماذا أستفيد من كلام المحللين السياسيين، وضيوف البرامج من الخبراء الاستراتيجيين؟ هل سيغير كلامهم الواقع؟ هل سيوقفون المذابح؟ كله مجرد كلام".
تتابع: "أصبحت حرفياً أستشعر كل النعم. الماء النظيف والبيت الآمن ودراسة الأطفال. صحيح أننا لا ننام جيداً من الخشية على أهل غزة، لكننا لازلنا نمتلك فراشاً نظيفاً في غرفة هادئة داخل بيت من أربعة جدران، بينما أهل غزة في العراء تحت القصف، ويفقدون كل يوم أحباء جددا. في الليل، أضم ابني وابنتي، وأبكي كثيراً لأنني أرى في وجوههم وجوه كل أطفال غزة الأبرياء. تبرعت بمبلغ مالي لصالح دعم أهل غزة، وأحاول نشر الصور والأخبار عبر حسابي على موقع إنستغرام، وأواصل الدعاء ولعن الحرب، وهذا كل ما أستطيع فعله لنصرتهم".
بدورها، تغيرت تفاصيل حياة الأكاديمية المصرية سارة، لكنها تحاول ألا تمتد مشاعر اليأس والعجز إلى أبنائها. تقول: "الحياة ستستمر، هذا ما علمنا إياه الفلسطينيون الذين يعيشون ويلات الحرب ثم ينهضون ويواصلون حياتهم، فينجبون الأولاد ويعمرون البيوت ويواصلون المقاومة. الاستسلام لمشاعر اليأس مرهون بخسارة الحرب، وهذا ما يريده العدو، يريد شعوباً عاجزة وبائسة. إنه جزء من الحرب النفسية التي قد لا ينتبه كثيرون إليه، بينما لا بد أن نستوعب الدرس، ونفعل ما بوسعنا لنصرة القضية".
تواصل سارة: "علينا تعليم الأجيال أنها ليست حرباً وقتية، لكنها قضية شعب، وبالتالي لا يمكن التعامل معها بشكل وقتي، فتغير حياة البشر عملية ديناميكية تستغرق سنوات طويلة، وقد لا نعيش لنرى هذا التغيير، وبالتالي علينا أن نعد الأجيال للقادم. المقاطعة سلاح فعال، وبدلاً من الاستسلام لليأس، يمكننا مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان الصهيوني، وبدلاً من الاكتفاء بالتعاطف، يمكننا دعم قوافل المساعدات، سواء بالمساهمة في الإعداد، أو بالتبرعات، أو حتى بتشجيع الناس على التبرع".
وتقول: "أحرص على زرع اليقين في قلوب أولادي من الناحية العقائدية. الحياة لن تقف عند موت شخص، ولا عند خسارة عابرة، ولا بسبب مخطط شيطاني يستهدف بلاد العرب والمسلمين، فعليهم أن يقاوموا وينهضوا ويواصلوا الحياة، وهكذا يحدث التغيير".
تختلف التفاصيل قليلاً مع محمد، وهو موظف حكومي، والذي يحاول التعايش مع الألم بواقعية. يذهب إلى عمله، ويؤديه قدر المستطاع لأنه يتعامل مع مواطنين، ثم يحمل نفسه إلى البيت محاولاً تفادى النظر إلى هاتفه المحمول كي لا يصدم بأخبار مجازر جديدة، أو صور مذابح عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو يكتفي بالاستماع إلى أحاديث المواطنين عن غزة في وسائل المواصلات ذهابًا وإياباً.
يوضح محمد: "لم أعد قادراً على الضحك. كنت أسامر الأشخاص الذين يترددون على مكان عملي لقضاء مصالحهم، بينما الآن أعمل في صمت، وتوقفت عن الذهاب إلى المقهى كما كنت معتاداً. يكفيني ما أسمعه من أخبار من الزملاء في العمل، ومن ركاب قطار المترو. أتحاشى سماع أخبار جديدة عن المآسي في غزة المحاصرة، ولم أعد قادراً على متابعة شاشات الأخبار، وأحصر حياتي بين البيت والمكتب، لتمضي الأيام متشابهة رتيبة".
تعمل أم محمد كبائعة خضروات وفواكه ودواجن في القاهرة، تحمل بضاعتها فجر كل أحد وأربعاء من محافظة الشرقية في دلتا مصر، إلى شمالي العاصمة لبيعها، ثم تعود في المساء إلى مسقط رأسها. لا تتابع شاشات التلفاز، وليس لديها هاتف ذكي، ولا تملك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها على دراية ببعض الأحداث عبر كلام أبنائها وأحفادها.
تقول أم محمد: "سمعت عن الحرب في فلسطين. أحفادي قالوا لي إن الصهاينة يقتلون الناس كل يوم. قالوا لي إن إسرائيل تضرب المستشفيات والمدارس، وإن صور الأطفال والمصابين بشعة. لدى تلفزيون في البيت، لكني لا أشاهده كثيراً، أرجع من القاهرة، فأتحمم وأغير ملابسي وأنام، وفي باقي أيام الأسبوع أنشغل في تربية الدواجن وتنظيف الخضروات والفاكهة قبل بيعها. أولاد ابني وابنتي يحكون لي عن ما يحدث، ولا أملك إلا الدعاء. طوال عمرنا ندعو لأهل فلسطين، وكان أبي وأمي يدعون لفلسطين، وأولادي وأحفادي يدعون لأهل فلسطين".
تضيف: "أسمع الناس يتحدثون عن مقاطعة مسحوق الغسيل والبيبسي والعصير. يقول أحفادي إن هذه منتجات أميركية، أو من بلاد تدعم إسرائيل. أفرح لأنهم يعرفون تفاصيل القضية الفلسطينية، ويدعمون أهل غزة. سنظل ندعو لهم، ولهم رب كريم أحن عليهم منا جميعاً، وسينصرهم".