يصطف بضعة أشخاص في قاعة استقبال إحدى المصحات الخاصة بالعاصمة التونسية انتظاراً لدفع تكاليف علاج أهلهم، قبل إخراجهم من المصحة. لا يعرف أيهم تكلفة العلاج إلا بعد الحصول على الوثائق المفصلة التي تضم قيمة كل خدمة صحية. يحمل بعضهم شيكات، وآخرون يحملون حقائب صغيرة تضم مبالغ مالية، فالتكلفة المطلوبة ليست قليلة.
لم يتمكن محمد أمين (45 سنة) من كبح غضبه حين أبلغته عاملة الاستقبال بقيمة فاتورة علاج والدته. توقع أن لا يفوق المبلغ ثلاثة آلاف دولار، لكنه تجاوز الخمسة آلاف. يقول: "قامت والدتي بإجراء جراحة لإزالة المرارة، وبقيت في المصحة تحت الرقابة لمدة أربعة أيام فقط".
يضيف أمين: "العلاج في المصحات الخاصة مكلف، ويضطرنا إلى الاستدانة، لكننا مجبرون على العلاج في القطاع الخاص بسبب اكتظاظ المستشفيات الحكومية، وسوء الخدمات الصحية التي تقدمها، خصوصاً بعد تفشي فيروس كورونا، ما جعل المصحات الخاصة تستغلّ الأمر لعلمها باضطرار الناس للعلاج في القطاع الخاص".
بدورها، فوجئت سامية إبراهيم (39 سنة) من ارتفاع تكلفة علاج والدها الذي أصيب بفيروس كورونا، إذ وجدت نفسها مجبرة على دفع عشرة آلاف دولار مقابل تسعة أيام من العلاج في المصحة. تقول: "اضطررت إلى علاج والدي في تلك المصحة بسبب نقص أسرّة الانعاش، واكتظاظ أقسام علاج كورونا في المستشفيات الحكومية، ولجأت إلى البنك لأخذ قرض لدفع التكاليف".
تضم كل فاتورة نهائية للعلاج تفاصل التكلفة، بداية من استهلاك قارورة مياه، أو قفازات، وصولا إلى أتعاب الأطباء، وعدد الأيام التي أقام فيها المريض في المصحة، وقد ارتفعت خلال السنوات الأخيرة تكلفة كل شيء.
في المقابل، يؤكد الطبيب التونسي مراد السويسي لـ"العربي الجديد"، أنّ "تكاليف العلاج ارتفعت في القطاع العمومي، وليس في المصحات الخاصة وحدها، بسبب ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية، والأدوية، وغالبيتها تستورد من الخارج، وكان هذا نتيجة حتمية لانخفاض قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار واليورو، عدا عن ارتفاع قيمة أجور الأطباء في القطاع الخاص مقارنة بالعمومي".
يقول سيف الدين عياري إنه حاول أن تتلقى والدته علاج سرطان الأمعاء في مستشفى عمومي في العاصمة، لكن مواعيد الأشعة والتصوير اللازمة تتطلب الانتظار عدة أشهر، كما أن مدة العلاج تطول بسبب عدد المرضى.
ويضيف: "اضطررت إلى علاج والدتي في إحدى المصحات الخاصة. كنت أتوقع أن يكلّفني العلاج نحو 5 آلاف دولار، أو أكثر بقليل. لكن الفاتورة بلغت 12 ألف دولار. مما اضطرني إلى الاستدانة من الأصدقاء لدفع التكاليف".
ومنذ بداية الموجة الأولى للجائحة في تونس، تتلقى الهيئة الوطنية لمكافحة فيروس كورونا بلاغات وشكاوى تؤكد أن العديد من المصحّات الخاصة قامت بزيادة تكلفة العلاج بشكل لافت، كما تزايدت أعدد الشكاوى للهيئات الرقابية، ويندد غالبية من دفعتهم الظروف إلى التعامل مع تلك المصحات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، باستغلالها لحاجة المرضى.
بحلول شهر إبريل/نيسان 2020، فاق عدد المصحات الخاصة في تونس 103 مصحات، بطاقة استيعاب إجمالية قدّرت بـ6676 سريرا، ما يمثّل 24 في المائة من طاقة الاستيعاب الوطنية، وفق محكمة المحاسبات، وهي هيئة رقابية حكومية.
وتقوم عدّة أجهزة حكومية بمراقبة المصحات الخاصة، سواء على مستوى النظافة، أو مستوى الخدمات الصحية، أو شفافية المعاملات المالية وأسعار الخدمات الصحية، ومن بين تلك الجهات محكمة المحاسبات، والتي أشارت في أحدث تقرير رقابي لها إلى أنّ "وزارة التجارة لم توفر مهمات رقابة دورية على المصحات الخاصة خلال الفترة بين 2015 إلى 2020 للتثبت من شفافية المعاملات، ومراقبة أسعار الخدمات الصحية، واقتصر دورها على معالجة الشكايات الواردة".
وسجل الجهاز الرقابي الحكومي ضعف التنسيق بين مصالح التفقد التابعة لكلّ من وزارتي الصحة والتجارة بشأن متابعة المخالفات التي تمّ رفعها من أفراد مهمّات التفقد الطبية لعدد من المصحات، والتي تشمل عدم إعلان الأسعار وتعريفات المواد والخدمات، وفرض مبالغ إضافية من دون سبب قانوني، فضلا عن التكلفة المبالغ فيها للمرضى الأجانب مقارنة مع المرضى التونسيين، وفرض هوامش ربح مبالغ فيها بالنسبة لبعض المستلزمات الطبية، والتي بلغت في بعض الأحيان 300 في المائة، وزيادة أسعار بعض الأدوية بنسب تراوحت بين 26 إلى 160 في المائة.
وأكد تقرير محكمة المحاسبات أنّه "لا يتم متابعة تنفيذ قرارات مجلس المنافسة الصادرة في مجال شفافية المعاملات من قبل الأطراف المعنية"، وأوصت بضرورة دعم أعمال الرقابة على شفافية معاملات المصحات الخاصّة بالتنسيق بين وزارة الصحّة ووزارة التجارة.