تسجل الدنمارك على غرار دول غربية أخرى تراجعاً في معدلات الإنجاب منذ سبعينيات القرن العشرين. ولم تسفر محاولات رفع المعدل من 1.7 طفل لكل امرأة إلى 2.1 على أقل تقدير للحفاظ على عدد السكان عن نتائج إيجابية، بحسب ما كشفته أرقام نشرها باحثون في ديسمبر/ كانون الأول الماضي ومطلع العام الجاري، علماً أن تراجع معدل الإنجاب يشمل العالم كله، وتحدده الأرقام المعلنة من نحو 5 أطفال لكل امرأة إلى 2.5 طفل للمرأة في المتوسط.
من المعروف أن الشباب الدنماركيين معتادون على تأخير مشروع الإنجاب من أجل تحقيق أولويات التعليم والحصول على وظيفة وتأمين المنزل، لكن عوامل أخرى تلعب دوراً في جعل هذا المجتمع الإسكندنافي صغيراً على صعيد عدد سكان الذي يناهز 5.5 ملايين، بينهم نحو 14 في المائة من أصول غير دنماركية، هم مهاجرون من الغرب ودول العالم الثالث.
ويلاحظ متخصصون في الخصوبة والإنجاب بالمستشفى الوطني في كوبنهاغن شاركوا في دراسة عن أسباب تأخر وانخفاض الولادات أن "مشروع إنجاب طفل لدى الشباب يأتي بعد فوات الأوان بسبب التركيز أولاً على تطوير الوضع الذاتي". ويتحدثون أيضاً عن أن "العمر لا يلعب وحده دوراً في تراجع الولادات، إذ شهدت السنوات الأخيرة عزوف الشباب عن الإنجاب بسبب القلق البيئي، وهو ما يجب أن يتعامل السياسيون معه بجدية، فالمخاوف من آثار التغيّرات المناخية وأفعال الحكومة تساهم في تراجع الرغبة في الحصول على طفل".
الاتجاه السلبي
ويقول الباحثون، استناداً إلى استطلاع للرأي أجري في سبتمبر/ أيلول الماضي وشمل حوالى 10 آلاف شاب تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عاماً أعطوا آراءهم حول أسباب ترددهم في إنجاب طفل، إن "59 في المائة من المستفتين أبدوا قلقهم الشديد من التغيرات المناخية التي تجعلهم يشعرون بإحباط يدفعهم إلى اتخاذ موقف سلبي من إنجاب أطفال وسط الخوف من مستقبل الكرة الأرضية، وكذلك من أفعال الحكومات التي تثير غضبهم".
وتشير الباحثة التي شاركت في الدراسة الخاصة بالمستشفى الوطني في كوبنهاغن البروفيسور آنا صوفيا باك إلى أنه "من المهم فهم ما يجري لدى الشباب، وأخذ قلقهم في الاعتبار، خصوصاً على صعيد تأثيره على المجتمع".
وأبدى زملاء لها قلقهم من أن "نسبة 56 في المائة من الشباب الذين شملهم الاستطلاع أبدوا اعتقادهم بأن البشرية محكوم عليها بالموت نتيجة التغيّرات المناخية، ما يجعلهم أكثر عزوفاً عن وضع أطفال جدد في هذا العالم، ما يعني أنهم يؤمنون بأنه لا يصح إنجاب أطفال، وتركهم لمواجهة مصير مشؤوم وسط التغيّرات التي تطرأ على مستقبل الأرض".
ويعتبر أستاذ المناخ والمجتمعات في جامعة جنوب الدنمارك، سبستيان ميرنيلد، أن "ما يعزز الاتجاه السلبي للشبان التقارير التي تتحدث عن تغيّرات مناخية متطرفة". ويضيف خلال تعليقه للتلفزيون الدنماركي على الجدل الدائر في شأن نتائج الدراسة وتأثير المتغيّرات المناخية على الشباب أن "تلقي الشباب معلومات عن أن متوسط درجة حرارة الدنمارك ارتفع نحو 1.4 درجة مئوية عن عام 1888 (تاريخ بدء تسجيل درجات الحرارة)، وتوقع ارتفاعها نحو 2.8 درجة بحلول عام 2100، يلعبان دوراً في طريقة تفكير الأجيال الجديدة بالمستقبل، لكن الأمانة المهنية تحتم وضع المعلومات على الطاولة كي يتصرف الناس بناء على أساسها".
من جهتها، ترى أستاذة علم النفس في المستشفى الوطني الدنماركي، ترينا ليند، أن "حالات الخوف المتعلقة بمستقبل التغيرات المناخية باتت حاضرة إلى جانب الرهاب الاجتماعي، ما يجعل الشباب يجدون صعوبة في اتخاذ قرارات بينها الإنجاب، وهو ما يزيده عدم رؤيتهم جدية كافية في تعامل الكبار مع المخاطر، وعدم الاكتراث حتى لمشاعرهم في شأن البيئة والمناخ".
الغدد الصماء
على صعيد آخر، تظهر نتائج دراسة أخرى نشرت في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي أن الدنماركيين يواجهون مشكلة تتعلق بوجود اضطرابات في الغدد الصماء تتسبب بها مواد كيميائية في محيطهم اليومي. وقد حاولت سلطات كوبنهاغن خلال السنوات الأخيرة خفض الاعتماد على المواد البلاستيكية، في تكرار لما فعلته سلطات باريس عبر حظر تغليف بعض الأغذية بهذه المادة، لكن التأثير على الهرمونات في الدنمارك أعمق بكثير. ويؤكد الباحثون في المستشفى الوطني بكوبنهاغن أن "المواد الكيميائية باتت تدخل في صناعة كل شيء تقريباً، وبينها المنسوجات وألعاب الأطفال ومستحضرات التجميل والأثاث والدهانات. ورغم أن هذه المواد غير سامة، لكنها تضر الإنسان، وتؤثر سلباً على نظامه الهرموني".
ويعتبر هؤلاء أن تأثير المواد الضارة أكبر من السابق، خصوصاً على الجهاز التناسلي. ويكشف رئيس مركز البحوث في المستشفى الوطني بكوبنهاغن وأستاذ الطب أندرس يول أن دراسة أخيرة تناولت تأثير المواد الكيميائية على تراجع الخصوبة والإنجاب، واندرجت في سياق بحث عالمي شمل إضافة إلى الدنمارك البرازيل وفرنسا وبريطانيا وأستراليا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، أظهرت علاقة المواد الكيميائية بتراجع فرص الإنجاب لدى الرجال في الدنمارك وبريطانيا وفرنسا، وكذلك بولادة مزيد من الأطفال بتشوهات في الأعضاء التناسلية، علماً أن رجالاً أصحاء باتت لديهم أنواع حيوانات منوية أقل خصوبة من السابق".
وفيما ركز الباحثون في الدراسة على تراجع نسب الولادات مقارنة بما كان عليه الأمر في بداية القرن العشرين، واعتماد العالم أكثر فأكثر على الوقود الأحفوري، يكشف الباحثون أن أضرار المواد الكيميائية لا تنحصر في الذكور فقط بل تشمل الإناث أيضاً اللواتي يصبن باضطرابات في الغدد الصماء، ويواجهن حالات بلوغ مبكر بسبب تناولهن بعض الأدوية. ويقولون إنه "مقارنة بالوضع السائد عام 1991 بدأ عدد أكبر من الفتيات الصغيرات في الحصول على ثدي في وقت مبكر، إذ كان حوالي 11 عاماً في المتوسط عام 1991، فيما انخفض إلى نحو 9.9 أعوام حالياً".
ويربط الباحثون البلوغ المبكر بمشكلات الإنجاب المرتبطة بالرحم والبويضات. ويلاحظون أن تراجع خصوبة الرجل خلال الأعوام الـ50 الماضية ورداءة الحيوانات المنوية واضطرابات الإناث تتسبب في تراجع المواليد.
وعملياً نتج من الاختلالات حاجة النساء في الدنمارك كما أخريات في الغرب إلى تدخل طبي للحصول على حمل، علماً أن نحو 10 في المائة من مواليد الدنمارك يولدون بتلقيح اصطناعي، علماً أن الدراسة تشير أيضاً إلى أن سرطان الخصية بات منتشراً في الدول الغربية في شكل غير مسبوق.
توصيات
وفي كلتا الحالتين اللتين تتعلقان بالقلق من التغيّرات المناخية وتأثير المواد الكيميائية التي تحضر في يوميات عدد كبير من الأوروبيين، وبينهم الدنماركيون، يرى الباحثون أن مشكلتي الخصوبة وتراجع معدلات المواليد تتطلبان تدخلاً مجتمعياً وسياسياً. وهم يوصون بأن يتعامل صانعو القرارات جدياً مع خوف الشباب من مستقبل الحياة على الأرض، وأن تغيّر المجتمعات الأوروبية عاداتها الاستهلاكية وتقلل المواد الكيميائية الضارة في التعاملات اليومية لسكانها.
ويرى أستاذ الصحة العالمية في جامعة كوبنهاغن، فليمنغ كونرادسن، أن "متوسط عدد الأطفال المولودين ينخفض بوتيرة متسارعة جداً في كل مكان في العالم تقريباً". ويعلّق على انعكاسات التناقص الذي تشهده دول أوروبية في عدد الولادات بأنه سيتسبب في مشكلات لأنظمة الخدمات الصحية، خصوصاً في ظل تراجع عدد الموظفين المدربين على رعاية المسنين، الذين يشكلون الفئة الأكبر حجماً لانتشار أمراض الخرف والسرطان. كما سيؤثر هذا التناقض سلباً في النمو الاقتصادي، باعتبار أن عدد الملتحقين بسوق العمل سيتقلص في مقابل تزايد عدد المتقاعدين، ما يعني تراجع الإنتاج".