يبعث أي حديث عن الزلزال في نفس السوري عارف الخضر الكآبة والتعاسة، ويخبر "العربي الجديد"، أنه لم يعد يشعر بمرور الوقت منذ وقوع الزلزال الأول، كما فقد الإحساس بكل شيء خلال الأيام الثلاثة التي تلت الزلزال، وكان يتخيل أن "كل فجر جديد هو فجر يوم الاثنين المزلزل، فالصدمة كانت قاسية".
انهار بيت الخضر بشكل كلي. يقول: "منذ نزوحي في عام 2019 إلى بلدة (قاح) وأنا أعمل على بناء هذا البيت. بعت مصوغات زوجتي التي اشتريتها قبل زواجنا، واستدنت من معظم أقربائي. كان حلمي أن يكون لديّ بيت مهما كلفني الأمر. هذا الحلم دمره الزلزال في لحظات. لم أكن في البيت عند وقوع الزلزال، لأني أقيم منذ مدة في جرابلس بسبب العمل، لكن كان أبي وأمي وإخوتي فيه، وأحمد الله أنهم غادروه سالمين".
يوضح عارف: "بعد زوال الصدمة سأستأجر بيتاً أقيم فيه مع أهلي، فالحياة لا يمكن أن تتوقف رغم أنني أشعر بجرح عميق، لكن جرحي ليس أصعب من آلام من فقدوا فرداً من عائلاتهم، أو خسروا جميع أهلهم تحت الأنقاض. سأتابع عملي، لكن لن أفكر أبدا في بناء منزل آخر إلا بعد سنوات إذا بقيت على قيد الحياة، فما حدث كبير، وهو صدمة".
التطلع لحياة آمنة، والخلاص من الخوف في الوقت الحالي، هو الرجاء الوحيد للسوريين في المناطق المتضررة من الزلزال، كون أثره النفسي مستمرا، لا سيما مع تكرار الموجات الارتدادية للزلزال التي تحرمهم من النوم الهانئ في ساعات الليل.
يونس حربة، أحد المتضررين من جراء الزلزال، وكان يقيم في مدينة حارم. يوضح لـ"العربي الجديد"، أنه مع مضيّ اليوم الثاني عشر على وقوع الزلزال، كان يفكر في شيء واحد، وهو "سندويشة شاورما". يقول: "رغم كل المأساة كانت السندويشة هي كل ما أرجو الحصول عليه، بعد ما شهدت خلال تلك الأيام، وحصلت على ما أريد، بعدها لم أعد أفكر في شيء سوى أن أطفالي الثلاثة وزوجتي بخير، لن يكون هناك نظر لما هو أفضل للسكن، تكفيني خيمة تحفظ كرامتي".
أيام ثقيلة
تمر الأيام ثقيلة على يونس لأنها ما زالت مشحونة بالقلق والخوف، لكن الحياة يجب أن تمضي، يقول: "في النهاية سأعود إلى عملي، وسأتابع الحياة، فلدي أطفال يحتاجونني، وهم من سارعت إلى حمايتهم عند حدوث الزلزال".
تفكر الأمهات أيضاً في المستقبل، تقول عفراء أم خالد لـ"العربي الجديد": "عشنا الخوف والصدمة في المخيم، حيث نقيم قرب بلدة دير حسان، لكن الحياة لن تتوقف عند الزلزال، ويجب أن تسير. نعيش يوما بيوم، فهذه حياتنا. البيت في المخيم تشقق قليلاً، ولحسن حظنا أنه صامد. لا أريد أن نخسر المأوى الأخير بعد سنين النزوح والتشرد، عندها ستعود بنا الحياة إلى السعي وراء تأمين المياه، وتأمين ملابس الأطفال، لن تأتينا أيام أفضل. كل أيامنا التي كنا نعيشها قبل الزلزال كانت حزينة. إنها فترة وتزول، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه، الموت لن يكون فارقا نعيشه منذ 12 سنة، فجعنا مرات ومرّات وبكينا كثيرا ولم يعد الموت ذا رهبة بالنسبة لنا".
نزح محمد الإبراهيم، من مدينة معرة النعمان إلى مدينة سلقين بريف إدلب الشمالي، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع الآن بالنسبة للنازحين المتضررين من الزلزال كارثي، لا سيما أننا كنازحين لم نستقر حتى اللحظة، وكل فترة نغيّر المنازل التي نسكنها بسبب ارتفاع أسعار الإيجار، أما الآن، فالمنزل الذي كنت أسكنه في مدينة سلقين تصدّع بفعل الزلزال، ولا أستطيع العودة إليه مطلقا".
يضيف الإبراهيم: "أسكن حالياً في غرفة أعطاني إياها أحد أقربائي في مخيم مشهد روحين بريف إدلب الشمالي، لكن هذا السكن مؤقت ريثما أستطيع تأمين منزل بإيجار مناسب، أو تأمين خيمة ضمن أحد المخيمات. الوضع يزداد سوءا عاما بعد عام بالنسبة للسوريين، والشتاء قارس، وفرص العمل ضئيلة، والأولاد بحاجة إلى ملابس وطعام، ونحن بالكاد نشتري الخبز وبعض الحاجيات الضرورية جدا للمنزل".
ويرى إبراهيم العواد، من ريف إدلب الجنوبي، في حديثه لـ"العربي الجديد": "لا نعلم ماذا يرسم المستقبل لنا، فقد عانينا خلال 12 سنة من القتل والنزوح والتهجير والمطر والبرد، وغدا لا نعلم تفاصيله، ونمضي كل يوم بيومه. نغادر البيت ونحن لا نعرف إن كنا سنعود، وعند العودة لا نعرف إذا كنا سنخرج من البيت، بعد هذا الزلزال توقفت حياة الناس، إلى الوقت الحالي مازال الخوف في عيون الجميع والترقب".
امتحان للصبر
ويقول الناشط أحمد أبو لؤي لـ"العربي الجديد": "كسوري في المنطقة بعد الزلزال الذي قتل كثيرين، لم أعد أمتلك أملا في الغد، أعيش حياتي على التجلي، لا أستطيع وصف هذا الشعور. خلال السنوات الماضية، رغم القصف والتهجير والمعارك التي مررنا بها، هذه الضربة كانت مؤلمة أكثر، وسببت ألما كبيرا لي. لا أعلم هل هي أخطاؤنا، أم هو امتحان لصبرنا كبشر. ليس لدي أمل أن أعيش ليوم الغد، فقد تحدث ضربة أقسى بكثير من تلك التي حدثت".
وتؤكد فاتن الغجر، من بلدة الدير الشرقي بريف إدلب، لـ"العربي الجديد": "اعتدنا على النزوح من مكان إلى آخر كل بضعة أشهر، ونقيم في بلدة أرمناز منذ نحو 3 أشهر، حيث استأجرنا بيتاً قديماً جدرانه جيدة ليكون مأوى لنا. شعرنا عند حدوث الزلزال بالهزة، فغادرت البيت مع أطفالي. انهار البيت، ولم نعد نعرف ماذا نفعل عند توقف الهزة والمطر، قمت بإخراج بعض الأغراض من داخل البيت، وأخذنا زوجي مع الأغراض على الدراجة النارية، في الطريق وقعنا في حفرة ماء ناتجة عن المطر، فنقلنا أحدهم بسيارته إلى المخيم، وحالياً لا يمكننا أن نعود لأن البيت مدمر. المخيم وضعه صعب، وليس فيه خيام تكفي العوائل، وأقيم في خيمة أبي، وهي في الأصل خيمة صغيرة، ومتضايقة من كوني أنا وأولادي عبئا عليه، لكني لا أخطط للمستقبل كوننا لا نضمن أن نعيش حتى الغد".
النجاة بأطفال المستقبل
أهم شيء في الحياة كان النجاة بالأطفال من بين الأنقاض، كما يوضح عبد القادر العلي، الذي كان يقيم بريف إدلب. يقول لـ"العربي الجديد": "الزلزال أجبرنا على مغادرة المنزل. كنا نائمين، وتهدم البيت، فلم يعد لدي بيت، وباتت حياتي تحت الصفر، والآن ليس لدي سوى الخيمة. توقعت أن الموت تحت جدران البيت هو نهايتنا، ولم يكن هناك شيء آخر أفكر فيه. أشعر بضيق في صدري منذ الأيام الأولى للزلزال، كأنما جبل يطبق على صدري، الدنيا سواد في سواد، وفي أولى لحظات الزلزال توقعت أنه قصف طيران، إذ كان الصوت مرعباً، لكن عند خروجي من البيت، ورؤية المنازل تنهار، أيقنت ما حدث، فالركام والدمار في كل مكان، والبيت المجاور لمنزلي انهار، عندها بدأت أفكر كيف أغادر مع أفراد عائلتي".
ويروي الطالب الجامعي عدنان اليوسف، لـ"العربي الجديد"، عن الصدمة التي عاشها مع فقدان بعض الأصدقاء، وزملاء عمل معهم في السابق، يقول: "بعد الزلزال حاولت التواصل مع أحد أصدقائي في جنديرس، فعلمت أنه توفي تحت أنقاض البيت الذي يسكنه، وتوفيت زميلة أخرى في ريف إدلب. أصبحت أخاف أن أفقد غيرهم، لذلك لم أتواصل مع أحد بعدها. هذا عام التخرج بالنسبة لي، والحياة تستمر، وسأشق طريقي بعيداً عن عائلتي، وأحمل في ذهني ذكريات شباط الأسود، وما خسرت فيه، وأحمد الله أننا نعيش قرب مدينة إعزاز بريف حلب، فلم يتضرر البيت".
وتسبب الزلزال في نزوح نحو 190 ألفا شمال غربي سورية، وفق فريق "منسقو استجابة سورية"، كما بلغ عدد النازحين القاطنين في مراكز الإيواء 55,360 نسمة، ما يعادل 11,072 عائلة موزعين على 172 مركزا منتشرة في إدلب وريف حلب. وأضاف الفريق: "حتى الآن لم تتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها الإنسانية والأخلاقية بشكل جدي تجاه المنكوبين من جراء الزلزال في المنطقة، وهي تتحمل المسؤولية الكاملة عن التقصير في عمليات الاستجابة الإنسانية تجاه المتضررين في الشمال السوري. يعرقل النظام السوري دخول المساعدات الإنسانية عبر المعابر الجديدة بذرائع عديدة. لم يدخل حتى الآن أي مساعدات عبر معبر الراعي، علما أن المنطقة التي يغطيها المعبر تضم أكثر من 600 ألف مدني، وتضرر أكثر من ثلثهم في الزلزال الأخير".