تكشف الفيضانات التي شهدتها محافظتا تيبازة قرب العاصمة الجزائرية، وقالمة في شمال شرقي البلاد، عن المخاطر الحقيقية الناتجة عن البناء العشوائي على أطراف الوديان ومجاري المياه من دون أي التزام بمعايير السلامة، وقد رُدم بعضها في إطار تهيئة مناطق عمرانية جديدة أو تحويلها إلى أراضٍ تُستغل في الزراعات في المناطق الريفية.
وتسببت الأمطار الغزيرة في فيضانات أدت إلى انهيار المباني المشيدة عند أطراف الأودية، وقد ارتفع منسوب الأودية إلى مستوى قياسي، بما في ذلك التي تعرف جفافاً منذ سنوات وتسمى نائمة.
ومع حلول فصل الشتاء كل عام، تزداد مخاوف الجزائريين من انهيار بيوتهم وبالتالي تشردهم. ويؤكد الكثير من الخبراء والمتخصصين في قطاع الموارد المائية أن العديد من الأودية التي جفت منذ سنوات طويلة ستعود للنشاط مجدداً بسبب التغيرات المناخية التي تشهدها البلاد مؤخراً.
ويؤكد مصطفى حرفوف، وهو صاحب مكتب دراسات في قطاع الموارد المائية لـ"العربي الجديد"، أن "الجزائريين سواء كانوا مواطنين عاديين أو مسؤولين يبدون تساهلاً كبيراً حيال خطورة الأودية النائمة، ويتجاهلون حقيقة أنها يمكن أن تعود للجريان في أي وقت".
ويشير إلى أن "الكثير من المجمعات السكنية والمصانع والإدارات الحكومية والمرافق بنيت بعدما ردمت هذه الأدوية بالأتربة. إلا أن الطبيعة تقول كلمتها في كل مرة وتؤدي قوة المياه المتدفقة إلى إعادة فتح المسار القديم للوديان، ما يؤدي إلى سحب كميات كبيرة من الأتربة والرمال وبالتالي اهتزاز أساسات الأبنية وانهيارها بسهولة".
ويُظهر تكرار كوارث الفيضانات في الجزائر، منذ فياضات باب الوادي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، أن السلطات لا تأخذ العبرة من التجارب والكوارث السابقة على الرغم من سلسلة قرارات اتخذت سابقاً، إلا أنها لم تنفذ بسبب التراخي الاداري. كما لم يوضع مخطط شامل لتفادي تكرار مثل هذه الكوارث.
وتكتفي السلطات بالتدخل العاجل و"الترقيع" وترحيل المتضررين وإعادة فتح الطرقات وإزالة الأتربة عن الجسور والأودية المغلقة. إلا أن الكارثة الكبرى، بحسب بعض المتخصصين، هي استمرار إنجاز المشاريع الكبرى في الأودية النائمة أو على أطرافها أو فوق الأرضيات الرملية والهشة، على الرغم من تحذيرات الخبراء ومكاتب الدراسات، ما يجعل شبح الموت يتربص بآلاف الجزائريين مستقبلاً.
في محافظة تيبازة القريبة من العاصمة الجزائرية، لا تزال بعض المشاريع قيد الإنجاز في منطقة القليعة وخميستي وبو إسماعيل، وذلك على بعد أمتار من أودية، وأدت الفيضانات الأخيرة الناتجة عن الأمطار الغزيرة مؤخراً إلى كارثة تسببت في انهيار 131 منزلا وترحيل أصحابها إلى مساكن جديدة. واقع يتكرر منذ فيضانات باب الواد عام 2001. ويتساءل الكثير من متابعي الملف العمراني عن الجهة المسؤولة عن منح رخص البناء لبعض المؤسسات أو الأشخاص، وعدم الالتزام بالقوانين والمعايير التقنية المعمول بها في هذا المجال.
ويقول رئيس بلدية فوكة (غرب العاصمة الجزائرية)، محمد بلعيد، لـ "العربي الجديد"، إن "العشرية السوداء (صراع مسلح قام بين النظام الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكارا موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ) كانت منعطفاً حقيقياً ساهم في تغير النمط العمراني في المدن، إذ بنت آلاف العائلات مساكن على أطراف المدن بعدما هربت من الجبال خوفاً من الجماعات الإرهابية، لتغلق مسارات الأودية ما يؤدي إلى فيضانات وكوارث". يضيف أن "بعض البلديات شهدت توسعاً عمرانياً كبيراً خلال السنوات الأخيرة. ونظراً لانعدام أو نقص الأراضي، تضطر الدولة للجوء إلى بعض المناطق والأرضيات ذات الطبيعة الهشة ما يؤدي إلى انهيار المباني".
ويكشف رئيس المجمع الجزائري لخبراء البناء والمهندسين المعماريين، عبد الحميد بوداود، عن وجود حوالي مليوني مسكن في الجزائر مهددة بالانهيار بسبب المشاريع السكنية المبنية على أطراف الوديان، مضيفاً أن غالبية المشاريع التي أنجزت منذ 1999 لم تخضع لدراسة وافية، لناحية وضع الأرضية وغير ذلك بسبب العجلة في حل مشكلة السكن في البلاد.وبحسب الخبراء، فإن الكثير من المشاريع والتجمعات السكنية قد تجرفها السيول مستقبلاً بسبب بنائها على مقربة من الأودية أو في وسطها، وذلك بعد ردم مسار الأودية في الماضي. واللافت أن بعض المشاريع التي أنجزت هي مشاريع حكومية خضعت لدراسات تقنية من قبل متخصصين. وهنا يتساءلون عن الجهة التي تتحمل مسؤولية الكوارث التي يتوقع حدوثها لاحقاً، إذ يهدد خطر هذه الوديان النائمة مرافق وتجمعات سكانية جديدة أنجزتها السلطات بمحافظة ورقلة جنوب الجزائر، قرب وادي نساء حيث لا تزال المياه المتدفقة تشكل خطراً حقيقياً على المنطقة.
ولم يجد المسؤولون بمحافظة المسيلة وسط البلاد سوى أرضية وادي الجايح القريبة من الوادي الكبير للمدينة على الرغم من هشاشتها. وفي محافظة البليدة، لا تزال مئات المساكن المشيدة منذ العشرية السوداء قائمة في أحياء منطقة بوعرفة وحي دريوش، ويعيش أطفال على مقربة من الوديان. وفي كل مرة، تتحمل العائلات خسائر فادحة بعد ارتفاع منسوب مياهها ويواجهونها بوسائل تقليدية وبدائية.
إلى ذلك، تؤكد رئيسة المجلس المحلي للمهندسين المعماريين، عنان حكيمة، لـ "العربي الجديد"، أن "السلطات الحكومية لم تكن تعتمد على دراسات تقنية معمقة في إنجاز المشاريع الكبرى. في المقابل، كانت تلجأ إلى مكاتب دراسات غير جدية مستندة إلى معايير غير دقيقة في اختيارها، بالإضافة إلى عدم تطبيق القوانين والمعايير التقنية اللازمة لإنجاز مرافق ومساكن تحتضن مئات الأشخاص".
تضيف أنه "على الرغم من التطور الحاصل في مجال الهندسة والبناء والتعمير في العالم، إلّا أنّ الجزائر ما زالت بعيدة عن تطبيق مخططات وطنية واضحة لتفادي الكوارث التي وقعت سابقاً". وتشدد على "ضرورة تفعيل القوانين الخاصة بالبناء حتى لا تبقى حبراً على ورق، بدليل أنه تم سابقاً منح رخص البناء للمواطنين والمؤسسات والمقاولين من دون احترام القوانين الخاصة بالتشييد المعمول بها".
كما تحذر من "قيام بلديات بتسوية بعض المباني المنجزة على ضفاف الأودية والأماكن غير المؤهلة للبناء أصلاً، أو منح رخص بناء والموافقة على إنجاز بعض المشاريع على الرغم من التحفظات التي تقدمها الجهات المختصة في اجتماعاتها، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى كارثة حقيقية".