مدينة الرحمة... بيوت غيل البلجيكية "مضافة" للمرضى النفسيين

14 فبراير 2023
تتفاخر مدن في بلجيكا باحتضان مرضى نفسيين (خليل ساغيركايا/ الأناضول)
+ الخط -

اشتهرت بـ"مدينة الجنون" في القرون التي سبقت تطوّر علم النفس والطب النفسي، منذ شرع سكانها قبل نحو 6 قرون في تقليد فتح بيوتهم لاستقبال المرضى النفسيين الذين كان يُقال عنهم سابقاً إنّ "الشيطان مسّهم". إنّها مدينة غيل البلجيكية أو ييل بالهولندية التي تقع في فلاندرز (الإقليم الفلامندي) خارج أنتويرب، وتواصل حتى اليوم مساعدة الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية حادة، ويشخّص بعضهم بأنهم يعانون من حالات انفصام وذهان. 
ولا يأبه سكان غيل كثيراً للتشخيص الطبي المحدد في سجلات المرضى الذين يطلقون عليهم اسم "ضيوف". وينحصر ما يعرفونه في أنّ المريض يتصرف بطريقة مختلفة، وأنّ بعض الأمور تغضبه وتثير أعصابه. وهكذا استحقت غيل البلجيكية لقب "مدينة الرحمة" بعدما واصل الأحفاد مسيرة الرحمة التي بدأها أجدادهم قبل 700 سنة. 

الأسطورة

وتبدأ جذور حكاية المدينة بأسطورة تعكس المعتقدات القديمة في الديانة المسيحية التي تتحدث عن "المسّ الشيطاني" الذي ساد منذ القرون الأولى لتوسع الكنيسة نحو أوروبا. 
وتقول الأسطورة إن أميرة أيرلندية تدعى ديمفنا هربت حين كانت في سن الـ14 من والدها الملك دامون إلى مدينة غيل في القرن السابع، وذلك بعد وفاة والدتها المتدينة.
وجاء ذلك بعدما بحث الملك دامون عن امرأة بجمال زوجته الراحلة فلم يجد، في وقت كان يضغط عليه مستشاروه لمطالبته بالزواج مجدداً، خوفاً من تدهور صحته العقلية. 
وأخذه بحثه الحثيث عن امرأة تشبه زوجته إلى التمعّن في جمال ابنته التي قرر أنها ستكون عروسه بسبب تشابه مظهرها مع مظهر والدتها، فهربت ديمنفا من مملكة أورييل الصغيرة لتجنب محاولة أبيها الزواج بها، ووصلت برفقة اثنين من الخدم إلى ما يعرف اليوم باسم بلجيكا، وتحديداً إلى غيل.  
وتسرد الأسطورة التي يؤمن بها سكان غيل ما فعلته الشابة في مدينتهم، وبناءها ما يعرف باسم "تكية الفقراء والمرضى"، باستخدام أموال جلبتها معها. وتشير إلى أن الملك دامون لم يستسلم، وراح يتبع أثر ابنته، والأموال التي نقلتها معها إلى بلجيكا. وسافر بنفسه بحراً إلى غيل، وحاول إقناعها بالزواج منه، فرفضت وقاومت محاولات إعادتها إلى أيرلندا، فقطع رأسها حين كانت في سن الخامسة عشرة، فدفنها سكان غيل في كهف، واعتبروها شهيدة وقديسة، ثم نقلوا رفاتها لاحقاً إلى قبر أفضل.  
ومع انتشار أخبار القديسة ديمفنا، وتوارثها في غيل، باعتبارها هزمت الشيطان الذي تلبّس أباها، وتحوّلت إلى شهيدة، شيّدت المدينة كنيسة لتكريم ذكراها عام 1349، وصار "الحجاج" يأتون من أنحاء أوروبا إلى هذه الكنيسة بحثاً عن علاجات للاضطرابات النفسية، في وقت كانت الكنيسة تتمتع بسلطة كبيرة في القارة، وتعتبر الأمراض النفسية مسّا شيطانيا، ما أوجد عادات تخليص أجساد المرضى من هذا المسّ من خلال ممارسات تشمل التعذيب والضرب، واستخدام الكثير من تصرفات الشعوذة. 

مرضى في قلب حياة الأسر 

وجعل قدوم آلاف سنوياً إلى غيل منذ العام 1480 مهمة إيوائهم صعبة على الكنيسة، فانطلقت فكرة استقبال السكان المرضى في منازلهم، وكأنهم أفراد في أسرتهم، مع منحهم فرصة للانشغال في تنفيذ أعمال، والعيش حياة طبيعية لأشهر، وربما لسنوات وعقود.
وبمرور الوقت تحوّلت الأفكار التي ارتبطت بمعتقدات أن المجانين، كما يطلق عليهم، يسكنهم مسّ شيطاني، إلى فهم مختلف للأمراض العقلية والنفسية. وبعد حوالي 200 سنة من قدوم "الحجاج" للاستشفاء في غيل، جاءت المنظمات الخيرية التي تعنى بتشخيص الحالات وعلاجها استناداً إلى أسس علمية، وجعلت مكوث المرضى في بيوت سكان المدينة يستحق الدفع المالي في مقابل الحصول على رعاية.

ومن أنحاء بلجيكا كانت العيادات تنقل المرضى الذين يحتاجون إلى استشفاء إلى غيل بدلاً من وضعهم خلف أبواب مغلقة في مصحات ومؤسسات طبية مكلفة. وقد منح هذا التقليد بعض المرضى فرصة العيش قرب الطبيعة، فيما توفي بعضهم في المدينة بعدما عاشوا عقوداً فيها.
ومنذ القرن الثامن عشر لم يعد لقصص "الأرواح الشريرة" مكانها، واعتمد سكان مدينة غيل أسلوباً فريداً في التعامل مع المصابين بأمراض عقلية. 
وقد تنبهت الحكومة البلجيكية منذ وقت مبكر لأهمية توفير هذا الأسلوب الكثير من موازنات المؤسسات الطبية، فبنت في المدينة أحد أكبر المستشفيات المتخصصة بالأمراض النفسية والعقلية، رغم أن تسميتها بـ"مدينة المجانين" ظلّ متداولاً على ألسنة البلجيكيين.

نموذج للطب النفسي

وتبنت مملكة بلجيكا منذ عام 1880 التمريض النفسي بالأدوية والعقاقير، بعدما تخلصت البلاد كغيرها في أوروبا من فكرة ربط المرض العقلي بالمسّ الشيطاني، أو طرد الأرواح الشريرة. 
وباتت غيل منذ أن برزت كمدينة رحيمة بالمرضى، استناداً إلى أسطورة القديسة ديمفنا، نموذجاً يحتذى في برنامج الطب النفسي البلجيكي، من دون أن يعني ذلك التخلي عن العلاج بالأدوية، إلى جانب السماح لهم بالعيش مع عائلات محلية كنوع من الحفاظ على كرامتهم الشخصية. 

"يحج" مرضى إلى غيل للاستشفاء (خليل ساغيركايا/ الأناضول)
"يحجّ" مرضى إلى غيل للاستشفاء (خليل ساغيركايا/ الأناضول)

وحتى اليوم ما زالت عائلات غيل تستقبل المرضى الذين تطلق عليهم صفة "الضيوف". وبعد نحو 6 قرون من الضيافة، أشادت منظمة الصحة العالمية ببرنامج غيل للعلاج المحلي، وحاول مواطنوها خلال السنوات الماضية إدراج مدينتهم على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) للتراث العالمي. وجاءت إشادة منظمة الصحة العالمية بمدينة غيل بعدما انتشر نموذجها في عدد من دول الجوار الأوروبي، حيث يلقى المرضى العقليون رعاية تستند إلى مبادئ الطب النفسي الحديث.
وتستمر مستشفيات المدينة في وصف من يعانون من اضطرابات نفسية بأنهم "مرضى"، بينما لا يأبه مضيفوهم من السكان المحليين، بحسب التقليد المتبع منذ قرون، بمعرفة التشخيص الطبي الخاص بهؤلاء المرضى بقدر الاطلاع على تصرفاتهم الشخصية من أجل تحديد كيفية التعامل معهم لتجنب أي سوء فهم. 
ومن المذهل أنّ السكان ما زالوا يركزون على "الضيوف" باعتبارهم يستحقون العيش بكرامة، ما يحتم محاولتهم احياناً تغيير تصرفاتهم في بيوتهم للتخفيف عن المرضى، والاستجابة إلى أنماط سلوكية لدى هؤلاء المرضى الذين يعاني بعضهم من انفصام وأمراض نفسية أخرى تتطلب تدخلاً طبياً يوفره مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في المدينة.  

تمويل حكومي للعلاج في البيوت

وفي كلّ الأحوال، استطاع سكان غيل، بالتعاون مع الدولة البلجيكية في مرحلة لاحقة، جعل مدينتهم نموذجاً أوروبياً للتعامل مع المرضى النفسيين. وباتت الحكومة تموّل برامج العلاج في بيوت الناس، ما يوفر أموالاً طائلة عليها، فكلفة بقاء مريض ليلة واحدة في مؤسسة رعاية هي 587 دولاراً، بينما لا يكلف تحويل مريض نفسي واحد إلى بيوت أسر أكثر من 20 دولاراً يومياً، فيما يوفر المستشفى نحو 20 دولاراً آخر لباقي العروض الأخرى، مثل العمل المحمي للمرضى. وبمعنى آخر تنخفض كلفة المريض الواحد من أكثر من 600 دولار يومياً في المستشفى، إلى 54 في برنامج المستشفى بالإيواء، مع تأمين فرص لتشغيلهم ورعايتهم خلال فترة النهار من خلال أعمال وأنشطة خفيفة تناسبهم.

المساهمون