مدارس لبنان الخاصة... التعليم تحت رحمة العملة الصعبة

15 يونيو 2022
لا بد من سداد مبلغ معيّن بالدولار الأميركي لضمان مقعد في العام الدراسي المقبل (حسين بيضون)
+ الخط -

بعدما راحت الجامعات الخاصة تطالب بالأقساط بـ"فريش دولار"، تذهب المدارس في الاتّجاه ذاته، أو هي تمهّد للأمر. وهذا المصطلح الذي يشيع استعماله في لبنان اليوم، يعني بكلّ بساطة الدولار الأميركي ليس إلا.

كثر من تلاميذ المدارس الخاصة في لبنان الذين يمثّلون ما يقارب ثلثَي تلاميذ لبنان في المراحل الثلاث الابتدائية والمتوسّطة والثانوية، يواجهون إمّا الانتقال إلى التعليم الرسمي وإمّا التسرّب المدرسي في حال عجز ذووهم عن تأمين "فريش دولار"، وسط الأزمة المعيشية الخانقة التي تشهدها البلاد.

وسداد الأقساط بالدولار الأميركي وليس بما يعادله بالليرة اللبنانية بحسب سعر الصرف الرسمي ولا بحسب السوق الموازية، يبدو أمراً لا مفرّ منه. فقد عمدت أخيراً، قبيل انتهاء العام الدراسي الجاري 2021-2022، المدارس الخاصة بمعظمها، من بينها تلك شبه المجانية، إلى توجيه رسائل إلى أولياء أمور التلاميذ تُبلغهم فيها بضرورة دفع جزءٍ من القسط بالدولار الأميركي وفي مُهل محدّدة، وإلا يفقد أبناؤهم مقاعدهم الدراسية المحجوزة للعام الدراسي المقبل. يُذكر أنّ مدارس كثيرة قدّمت "عرضاً خاصاً"، مفيدة الأهالي بأنها سوف تعمد إلى حسم عن كلّ تلميذ إضافي في العائلة الواحدة، إذ هي تشعر بما تقاصيه العائلات اليوم.

وبدلاً من تحديد نسبة بالدولار، لجأت مدارس إلى اعتماد زيادات على الأقساط حدّدتها بالدولار الأميركي، وقد تفاوتت بين مدرسة وأخرى وبين مرحلة تعليمية وأخرى، علماً أنّ المبالغ المطلوب سدادها بالدولار تتراوح ما بين 150 دولاراً ونحو 1500 دولار الذي يُعَدّ مبلغاً خيالياً. وقد اختلفت كذلك تسميات تلك الزيادات، فثمّة مدارس وضعتها من ضمن إطار "تغذية صندوق دعم المدرسة"، وثمّة أخرى صنّفتها "مساهمة سنوية لتشغيل المدرسة وتطويرها"، في حين برّرت مدارس عديدة الأمر بأنّ "الوضع الاستثنائي يتطلّب تدابير استثنائية، وبالتالي فإنّ مدخل الحلّ يكمن في تقاضي مبالغ فريش من الأهالي".

وبخلاف التعميم الصادر في 30 مايو/ أيار الماضي، والذي اعترض عليه اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة في لبنان، حول دعوة المدارس الخاصة إلى "تحديد أقساطها، إن لناحية قيمتها، أم لجهة العملة التي يقتضي أن يتمّ الدفع بها"، حذّر وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي مطلع شهر يونيو/ حزيران الجاري من أنّ "الدفع بالدولار مخالف للقانون وللأخلاقية التي يجب أن نتعامل فيها"، مذكّراً بأنّ "القانون يحظر، لا بل يُحرّم على المدارس استيفاء الأقساط بالعملة الأجنبية أي بالدولار، ويولي وزارة التربية حقوقاً وقدرة على ضبط هذا الموضوع".

وقد فصّلت مدارس عديدة أقساطها بالدولار وبالليرة، إلى جانب تكاليف النقل والتأمين الصحي والقرطاسية وغيرها، لافتة في رسائلها إلى إمكانيّة تبدّل الأقساط والرسوم بحسب سعر الصرف اليومي للدولار الأميركي وكذلك وفق سعر صفيحة البنزين.

الصورة
تلاميذ لبنانيون في مدرسة خاصة في لبنان 2 (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

عام دراسي "طبقي وصعب"

يوضح مدير عام التربية ورئيس مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم العالي عماد الأشقر لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوزير الحلبي حدّد العملة الوطنية كعملة أساسية، وأوضح في تعميمه الأخير رقم 23 كلّ الأصول والزيادات بالأقساط. ونحن ملتزمون بالقانون رقم 515/96 المتعلّق بتنظيم الموازنة المدرسية السنوية لكلّ مدرسة خاصة غير مجانية". ويشدّد الأشقر على أنّ "المطلوب اليوم هو تفعيل المجالس التحكيمية التربوية، وهو الملف القابع في أدراج الحكومة اللبنانية منذ عام 2016، إذ إنّنا اليوم أمام مجلس تحكيمي وحيد ما زال قائماً في محافظة جبل لبنان، وفي عهدته نحو 34 قضية لموازنات مدارس مخالفة لأصول القانون رقم 515. وماذا عن الموازنات المدرسية المخالفة التي تردنا؟ إلى أين نحيلها؟".

وعن قدرة المدارس الرسمية على استيعاب أعداد التلاميذ المحتمل انتقالهم من التعليم الخاص إلى الرسمي، يقول الأشقر: "ثمّة مدارس قادرة على الاستيعاب، لكنّ أخرى شديدة الاكتظاظ. وقد أطلقنا مع منظمة يونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) والبنك الدولي وجهات داعمة خطة خمسية، تشمل توسعة المدارس القائمة وبناء مدارس جديدة، لنضمن حصول كلّ تلميذ على مقعدٍ دراسيّ بحلول العام الدراسي المقبل". وإذ أضاف "لكنّنا متّجهون نحو عام دراسي صعب ونحو طبقيّة في المدارس الخاصة"، آمل بـ"عدم تسجيل أيّ تسرّب مدرسي".

"الدولرة" غير قانونية

من جهتها، ترى رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة لمى الطويل أنّ "هذه الفوضى العارمة والعشوائية في تحديد الأقساط ودولرتها مسألة غير قانونية، لأنّ الموازنة المدرسية تُدرَس بالليرة اللبنانية. فعلى أيّ أساس يُصار إلى اعتماد الدولرة؟ وعلى أيّ أساس عِلمي توافق وزارة التربية على هذه الزيادات؟". تضيف الطويل في حديثها إلى "العربي الجديد" أنّ "الزيادة حتميّة في ظلّ الأوضاع الراهنة، لكنّها يجب أن تكون قانونيّة ومدروسة ومدقّقة وشفّافة ومراقَبة من قبل لجان الأهل ووزارة التربية. كذلك يجب أن توافق عليها الهيئة المالية في لجان الأهل، وأن يحدّد وزير التربية سقفاً لها. فهل الشعب اللبناني قادر على تأمين الفريش دولار، لا سيّما موظّفو القطاع العام وبعض موظّفي القطاع الخاص الذين ما زالت رواتبهم على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية تقريباً للدولار الواحد؟". يُذكر أنّ سعر الصرف في السوق الموازية يبلغ نحو 28 ألف ليرة للدولار الواحد. وتدعو الطويل إلى "مساواة أولياء الأمور بالعسكريّين وعناصر قوى الأمن الذين أُعفوا من قبل اتحاد المؤسّسات التربوية الخاصة من الدفع بالدولار".

وإذ تشير الطويل إلى أنّ "الأقساط غير منطقيّة"، تشدّد على أنّ تحديدها في الوقت الراهن يُعَدّ "مخالفة قانونية واضحة في ظلّ صمت تامّ من قبل وزارة التربية. فوفق القانون 515، تُدرس الموازنة ويُحدّد القسط في الفصل الدراسي الأول، أي في يناير/ كانون الثاني. كذلك فقد أصدر الوزير تعميماً مبطّناً مبهماً. من هنا، فإنّ غضّ نظر الوزير عن أداء إدارات المدارس الخاصة، بات أمراً مقلقاً، خصوصاً في ظلّ غياب المجالس التحكيمية التربوية التي لم تتشكّل منذ سنوات، والتي كلّما عُيّن وزير جديد يتجدّد معه الخلاف على الحصص في هذه المجالس، ما معناه أنّنا لا نملك كأهل قضاءً نلجأ إليه في حال ظُلمنا".

الصورة
تلميذ لبناني في مدرسة خاصة في لبنان (جوزيف عيد/ فرانس برس)
(جوزيف عيد/ فرانس برس)

همّنا الحفاظ على رسالتنا التربوية

في الإطار نفسه، يوضح أمين عام المدارس الكاثوليكية في لبنان ومنسّق اتحاد المؤسّسات التربوية الخاصة الأب يوسف نصر لـ"العربي الجديد أنّ "المبلغ المطلوب بالدولار الأميركي ليس جزءاً من القسط، إنّما هو مساهمة لدعم إنشاء صندوق تعاضديّ مستقل يساهم فيه الأهل والجهات المانحة، بهدف تأمين المصاريف التشغيلية للمؤسّسات، خصوصاً تلك التي تُدفع بالدولار، من محروقات وتأمين صحي وأجهزة ومستلزمات، بالإضافة إلى دعم المعلّمين بمساعدة اجتماعية في هذا الظرف الصعب".

وفي حين يؤكّد نصر الالتزام بالقانون 515، يقول إنّ "الموازنة بالليرة اللبنانية سوف تبقى كما هي وكذلك سوف تبقى خاضعة لرقابة لجنة الأهل. لكنّنا بسبب الظروف الاقتصادية العصيبة، اخترنا إنشاء الصندوق المذكور للحفاظ على رسالتنا التربوية. فقد يكون الصندوق هو الحلّ، لكنّه في حاجة كذلك إلى توافق مع نقابة المعلمين واتحادات لجان الأهل، ليكون مشروعاً توافقيّاً، إذ لن نقبل بأن يكون على حساب الطبقة الفقيرة وغير المقتدرة". ويناشد نصر الجهات المانحة بأن "تساهم معنا في الحفاظ على النظام التربوي المهدّد اليوم، في حال استمرّت الظروف على ما هي عليه. فثروة لبنان بالدرجة الأولى تكمن بعِلمه وفكره وثقافته".

وفي سياق متّصل، أفادت مستشارة الأمين العام لمدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية غنى البدوي "العربي الجديد" بأنّ "الدراسات المالية لمدارس المقاصد لم تُنجز بعد، ولن تنتهي قبل أواخر الشهر الجاري (يونيو). وحينها تتّضح التفاصيل مجملها، في ما يتعلّق بأقساط العام الدراسي المقبل".

عائلات منهكة

في المقابل، يبدو الامتعاض واضحاً على الأهالي. وتحكي رشا أمّ لولدَين متمدرسَين عن شكوكها حول "اتفاق ضمنيّ بين المدارس الخاصة لاستيفاء جزء من القسط بالعملة الصعبة"، قائلة لـ"العربي الجديد" إنّ "قسط ابنتي في صف الشهادة المتوسطة سوف تصير قيمته 200 دولار أميركي وثمانية ملايين ليرة لبنانية (نحو خمسة آلاف و275 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 285 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية)، تُضاف إلى ذلك 900 ألف ليرة (نحو 595 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 32 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية) كرسم تسجيل، ونحو 60 دولاراً للتأمين الصحي، من دون احتساب كلفة الكتب والقرطاسية".

تضيف رشا التي فضّلت عدم الكشف عن اسم شهرتها، أنّ "الوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى قسط ابني للصف الرابع أساسي. فقد حُدّد بـ200 دولار وستة ملايين و600 ألف ليرة (نحو أربعة آلاف و450 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 236 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية)، إلى جانب رسم تسجيل بقيمة 700 ألف ليرة (نحو 460 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 25 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية) ورسوم تأمين بنحو 60 دولاراً، من دون تكلفة الكتب والقرطاسية". وتلفت الوالدة الثلاثينية التي تكافح وزوجها من أجل تأمين أدنى مقوّمات العيش لولدَيهما، إلى أنّ "ثمّة أهالي أُبلغوا بضرورة تسجيل أبنائهم قبل نهاية الشهر الحالي، كون الأقساط عرضة للتعديل. كذلك يجب تسديد المبلغ المحدّد بالعملة الوطنية بمهلة أقصاها نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل، على أن يُدفع المبلغ المحدّد بالدولار قبل نهاية العام الدراسي المقبل".

من جهته، لا تتوقّف معاناة نبيل صلّوح وهو أب لثلاثة أولاد، عند حدود المدارس الخاصة، إذ يصارع كذلك من أجل رعاية اثنَين من أبنائه من ذوي الاحتياجات الخاصة. ويقول لـ"العربي الجديد": "لن أتمكّن من تسجيل ابني الكبير لمتابعة تعليمه في الصف الثالث الثانوي في المدرسة ذاتها، بعد أن حدّدت القسط بالدولار، لا سيّما مع ما تكبّدته هذه السنة من مصاريف بالعملة الصعبة، تارة بحجّة التدفئة وطوراً بحجّة تغطية النقل". يضيف صلّوح: "أمّا ابني الثاني فيعاني من صعوبات تعلّميّة، ولم أتمكّن هذا العام من إرساله إلى أحد المراكز المتخصّصة، كون القسط يناهز ثلاثة آلاف و500 دولار والمواصلات بحدّ ذاتها تكلّف يومياً 500 ألف ليرة (نحو 330 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو 18 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية). كذلك نحن لا نستفيد من بطاقة الدعم الممنوحة له من وزارة الشؤون الاجتماعية، بسبب الأزمة الاقتصادية. والعام المقبل سوف يكون بالتأكيد أكثر صعوبة، مع استمرار الغلاء المعيشي".

وصلّوح الذي ما لبث أن فرح وزوجته عندما أبلغه المعنيّون في أحد مراكز التأهيل المتخصّصة بالتوحّد بأنّ الأمل بقدرة ابنه الصغير على التفاعل والتواصل تقارب 85 في المائة، فوجئ بالقسط الذي بات 2000 دولار، من دون تكلفة المواصلات. فيقول: "لن أسجّله هذا العام، علماً أنّ ذلك سوف يؤخّر علاجه وسوف يؤدّي إلى تراجع وضعه". ويتساءل: "هل يريدون القضاء على العِلم في لبنان؟ إنّها عملية تدمير ممنهج لجيل بأكمله... والوضع مخيف جداً".

الصورة
تلاميذ لبنانيون في مدرسة خاصة في لبنان 3 (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

تجدر الإشارة إلى أنّ بيانات المركز التربوي للبحوث والإنماء في لبنان للعام الدراسي 2021-2022 تفيد بأنّ إجمالي عدد تلاميذ لبنان يبلغ مليوناً و75 ألفاً و141 تلميذاً في مختلف المدارس، من بينهم 337 ألفاً و591 تلميذاً في التعليم الرسمي، فيما يتوزّع الباقون (737 ألفاً و550 تلميذاً) على المدارس الخاصة؛ 569 ألفاً و498 تلميذاً في المدارس الخاصة غير المجانية، و129 ألفاً و693 تلميذاً في المدارس الخاصة المجانية، و38 ألفاً و359 تلميذاً في مدارس خاصة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).