استمع إلى الملخص
- دوّار أبو شرخ وأهمية النزوح: يُعتبر دوّار أبو شرخ شريان حياة لجباليا، لكن إغلاقه زاد من صعوبة النزوح تحت القصف، حيث يتعرض الفلسطينيون لإطلاق النار، مما أدى إلى استشهاد وإصابة العشرات.
- الجرائم المستمرة وتأثيرها على المدنيين: تستهدف قوات الاحتلال المنازل والمستشفيات، مما يزيد معاناة المدنيين الذين يعيشون بدون طعام أو مياه، ويصرون على الصمود رغم الظروف الصعبة وارتفاع الأسعار.
عند دوّار أبو شرخ الواقع بين مخيم جباليا ومنطقة الصفطاوي، في شمال قطاع غزة الذي عزله الاحتلال الإسرائيلي عن بقيّة أنحاء القطاع، تنتشر جثث شهداء فلسطينيين. هؤلاء كانوا قد أُجبروا على النزوح بسبب القصف العنيف والحصار المفروض عليهم، فاستهدفتهم طائرات الاحتلال المسيّرة ودباباته ومدفعيته بالقذائف والصواريخ، قبل أن تغلق الدوّارَ جرافاتُ الاحتلال التي توغّلت في المنطقة بسواتر ترابية، فأحكمت قواته حصارها على جباليا والمناطق الشمالية من كلّ الاتجاهات، وذلك وسط أوضاع مأساوية يعيشها آلاف من الفلسطينيين المحاصرين.
في مخيم يتعرّض للتجويع والحصار منذ أكثر من عام كامل، في إطار حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، راحت قواتها تشنّ هجومها الثالث على جباليا، منذ عصر يوم السبت الماضي. ويقول الأهالي هناك إنّها محاولة جديدة للتهجير في سياق ما يُعرَف باسم "خطة الجنرالات" لتغيير الواقع في شمال القطاع الذي يضمّ محافظة غزة ومحافظة شمال غزة.
وتحت القصف المدفعي المتواصل والأحزمة النارية وقصف المقاتلات الحربية والمسيّرات، انقسم الفلسطينيون بين من اختار البقاء والتشبّث بالمخيم مهما كان الثمن الذي سيدفعه رفضاً للتهجير وبين من أجبره القصف على النزوح هرباً من الموت إلى أحياء مدينة غزة وليس إلى جنوب القطاع وفقاً لأوامر الإخلاء التي تصدرها قوات الاحتلال. وتحاصر الدبابات الإسرائيلية مخيم جباليا بعدما قصفت المنفذ الوحيد الذي كان يسلكه الناس؛ دوّار أبو شرخ الذي يربط المخيم بمنطقة الصفطاوي شمالي مدينة غزة.
قبل وصول آليات الاحتلال إلى الدوّار، استطاع حمزة الشرافي، مع مجموعة من المواطنين، النزوح عبر دوّار أبو شرخ في اتجاه "جباليا البلد" أو مدينة جباليا. تبدو الصدمة واضحة لدى الشرافي وهو يروي نزوحه لـ"العربي الجديد"، إذ يقول: "كنّا نتجمّع كلّ عشرة أشخاص ثمّ نركض في اتجاه المفرق (دوّار أبو شرخ). وفي أثناء ركضي، رأيت خمس جثث، من بينها جثث تعود لنساء، حاولوا النزوح فاستهدفتهم قوات الاحتلال". يضيف أنّ "في المكان نفسه، رأيت منازل مهدّمة وأخرى محترقة".
وخلال حصار جباليا أخيراً، تضيء الأحزمة النارية ليلاً سماء المخيم مصحوبة بأصوات ترعب الكبار كما الصغار، فيما تؤدّي القنابل إلى تشويه معالم البيوت والشوارع وكلّ منطقة تسقط عليها. ووسط ذلك، تهتزّ الأرض تحت أقدام الناس كأنّها تتزلزل، فيما يعيش هؤلاء أهوالاً ولا يعرفون طعم النوم، حتى يطلّ الصباح فتسكن تلك الأصوات لبعض الوقت. حينها يتمكّن الناس من تفقّد معارفهم والتأكد من أحوال منازلهم أو ما تبقّى منها، بالإضافة إلى توديع من رحلوا بنظرة سريعة قبل دفنهم على جوانب الطرقات.
جثث على الطرقات
من دون طعام ولا ملابس، باستثناء تلك التي يرتدونها، بالإضافة إلى حقيبة أو كيس واحد، يسير النازحون الذين تهجّرهم آلة الحرب الإسرائيلية أو يركضون على طريق نزوحهم. ومثلما حدث في المرّات السابقة، راحوا يتعرّضون لإطلاق نار من طائرات قوات الاحتلال وآلياتها، ليستشهد العشرات منهم أو يُصابوا بجروح. يُذكر أنّه منذ بدء الهجوم الأخير، يوم السبت الماضي في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، استشهد نحو 200 فلسطيني، وما زال عدد من جثثهم في الطرقات، إذ لم تتمكّن طواقم الإسعاف والدفاع المدني من انتشالها حتى كتابة هذا التقرير.
في سياق متصل، خرج الشاب الفلسطيني أمجد عزيز، الذي يسكن في مشروع بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، لتعبئة المياه لعائلته وقد وضع خزانات مياه صغيرة على عربة راح يجرّها. لكنّ عزيز لم يكن يدري أنّ هذه العربة التي لطالما حملت عنه ثقل خزانات المياه، سوف تحمله شهيداً، عندما نقل صديق له جثته على تلك العربة، بعد استهداف قوات الاحتلال مجموعة من المواطنين في أثناء تعبئتهم مياه الشرب بمنطقة الشيماء شمالي بيت لاهيا، في محاولة لقتل أيّ معلم للحياة فيها.
ولا تتوقّف الجرائم والمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال عند استهداف المنازل وتدميرها على رؤوس ساكنيها، وعند استهداف أيّ مكان يشهد حركة أناس أو تنبض فيه الحياة، بل هي تلاحقهم إلى المستشفيات التي يتوجّهون إليها. وعصر أوّل من أمس الأربعاء، استهدفت خيام النازحين في ساحة "مستشفى اليمن السعيد" بمخيم جباليا، فاشتعلت النيران في خيام النازحين وأجسادهم، لتُغطّى ساحة المستشفى بدماء الشهداء والمصابين والرماد الذي خلّفته النيران بعد إخماد الحريق المندلع في إطار المجزرة التي استشهد فيها أكثر من 17 شهيداً وعشرات الجرحى بحسب البيانات الأخيرة. وقد نُقل الجرحى إلى مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، علماً أنّ خدمات معيّنة فيه ما زالت متاحة، فيما منع الاحتلال تحويل جرحى إلى المستشفى المعمداني (الأهلي العربي) في مدينة غزة، الأمر الذي من شأنه تهديد حياة الأشخاص الذين أُصيبوا في الهجوم.
لن يسقط مخيم جباليا
على جدار يعود إلى أحد المباني المهدّمة في مخيم جباليا، خُطّت هذه العبارة: "لن يسقط مخيم جباليا". ويبدو أنّ أهالي المخيم يصمدون في وجه الاجتياح الإسرائيلي الجديد، وقد تسلّحوا بإرادة صلبة على الرغم من سياسة التجويع التي تُفرَض عليهم منذ أكثر من عام كامل، وفي ظلّ واقع خدماتي وصحي منهك.
ويرسم محمد عويص من سكان مخيم جباليا صورة لما يجري في داخله لـ"العربي الجديد"، فيقول إنّ "مساء السبت الماضي، سمعنا هدير آليات الاحتلال وهي تتقدّم تحت غطاء ناري من قذائف المدافع وتلك التي تسقطها الطائرات المسيرّة (كواد كابتر)"، مبيّناً أنّ "إحدى القذائف وقعت فوق بيتنا وانفجرت لكنّنا لم نُصب بأيّ أذى وسلمنا".
ويعيش عويص محاصراً منذ خمسة أيام، في وضع إنساني كارثي، ولا سيّما أنّ المياه لديه أوشكت على النفاد، الأمر الذي يضطره إلى الخروج لتعبئة المياه، كما حال باقي الأهالي المحاصرين، في تحرّك يوصف بالخطر. ويعبّئ هؤلاء المياه من مدارس قريبة تضمّ آبار مياه. أمّا بالنسبة إلى الطعام، فهو شحيح منذ ما قبل الهجوم الأخير، بسبب منع إدخال المساعدات إلى شمال قطاع غزة. ويدخل هؤلاء في "حالة صيام"، تترافق مع قلق وخوف وقصف مرعب وأهوال تتسبّب فيها الأحزمة النارية. ويلفت عويص إلى أنّ الخبز غير متوفّر في شمال القطاع منذ أيام عدّة، والمواد الغذائية غير متوفّرة كذلك، بالتالي فإنّ الناس يعانون من "الجوع والعطش".
دوّار أبو شرخ شريان حياة
يمثّل دوّار أبو شرخ شريان حياة يربط الفلسطينيين في جباليا بمدينة غزة، ويمنحهم الأمل بإمكانية النجاة كلما اقترب الخطر والموت منهم عند تكون الدبابات الإسرائيلية قريبة من منازلهم. لكنّ الاحتلال اختار هذه المرّة إغلاق الطريق الوحيد الواصل بين محافظتَي غزة وشمال غزة، بعد قصف منزل أغلقت أنقاضه الطريق، ثمّ وضعت جرّافات الاحتلال سواتر ترابية أحكمت بها عملية الإغلاق تلك.
ويشير عويص إلى أنّ "الغرض من الإغلاق هو دفع الناس إلى النزوح عبر شارع صلاح الدين، حيث يضع الاحتلال نقاط تفتيش (حلابات)". يضيف عويص، الذي يقبع تحت القصف المتواصل، أنّ "أحداً لا يستطيع الخروج الآن، ومن بقي في المخيم يرفض مغادرته لأنّ الموت والقصف في كلّ مكان. حتى الذين نزحوا إلى مدينة غزة تعرّضوا للقصف، وثمّة من استشهد من بينهم".
من جهته، يقول محمد عطوة الذي يسكن في منطقة محاذية للمخيم، تحديداً في الصفطاوي التي عبرتها دبابات الاحتلال من أجل محاصرة مخيم جباليا من الجهة الغربية، وهو راح يتنقّل من بيت إلى آخر للابتعاد عن الدبابات والآليات الأخرى. ويخبر عطوة "العربي الجديد": "خرجنا من المكان وسط قصف الآليات والمسيّرات. وقد رأيت في طريقي جثث أربعة شبّان استشهدوا حينما كانوا يتوجّهون إلى الشارع رقم 17 في منطقة الصفطاوي لإحضار قريب لهم كان محاصراً فيه".
ومن المشاهد التي لا تفارق عطوة ما تعرّض له "صديقي هيثم، عندما أراد تفقّد شقته التي أخلوها بسبب القصف العنيف، الواقعة في آخر شارع الصفطاوي". ويتابع: "عندما جلس هيثم أمام بيته، أصابته شظايا صواريخ استهدفت شقّة جارهم، فاستشهد". وإذ يشير عطوة إلى هدير آليات الاحتلال التي تُسمع عبر الهاتف، يفيد بأنّ "الناس في حالة ذهول وصدمة بسبب عدم توفّر أماكن نزوح. فمراكز الإيواء مكتظة، فيما هناك عائلات سكنت في بيوت غزة المدمّرة أو حاولت الاستفادة من جزء منها، في وقت تشهد محافظتا غزة وشمال غزة ارتفاعاً جنونياً في الأسعار بسبب منع المساعدات. وعلى الرغم من كلّ ذلك، فإنّ الجميع يصرّ على عدم النزوح إلى جنوبي قطاع غزة، تفادياً لمعاناة النازحين في الخيام مع اقتراب فصل الشتاء".
خروج قسري من مخيم جباليا
بدورها، تحكي عُلا نبهان ما عاشته مساء السبت الماضي، مشيرةً إلى أنّ "الشبابيك والأبواب بدت كأنّها ستنخلع، فيما راحت بناتي يرتجفنَ من شدّة الخوف"، مع بدء الهجوم الإسرائيلي المباغت على شمالي القطاع. وقد حاولت نبهان وعائلتها البقاء في المنزل حتى الصباح، إذ رأت أنّ "النزوح في الضوء أكثر أماناً لنا ولأطفالنا"، لكنّ شدّة القصف والأحزمة النارية وما خلّفته من حالة شبيهة بالزلزال، مع اقتراب الآليات من المنزل القريب من منطقة التوام غربي مخيم جباليا، جعلتهم يخرجون من المنزل في ساعة متأخرة من الليل.
وتصف نبهان لـ"العربي الجديد" ما حصل بأنّه "أصعب رحلة نزوح عشتها منذ عام"، لافتةً إلى أنّها فوجئت بـ"نزوح الجيران ولم يتبقَّ غيرنا في الحارة. وخرجنا، فيما كان القصف قريباً منا، وسط ليل دامس وشوارع خالية من المارة". وتقرّ نبهان: "تفرّقنا حتى لا نستشهد معاً، في حال جرى استهدافنا. وقد أوشكت قلوبنا على السقوط من شدّة القلق والخوف، لكنّنا تمكّنّا من الابتعاد عن المكان"، موضحةً أنّ "قوات الاحتلال كانت تستهدف كلّ منزل فيه سكان، لدفع الجميع إلى الرحيل".
وتكمل نبهان أنّها خرجت مع طفلتَيها وطفلها وزوجها من دون أيّ مقتنيات أو أمتعة، مع نيّة بالعودة صباحاً، في محاولة لأخذ بعض الاحتياجات الضرورية. لكنّ المنطقة كانت "منطقة أشباح" تملأ الطائرات المسيّرة سماءها، وبالتالي فإنّ الاقتراب أكثر مسألة "حياة أو موت". وبعدما غادرت منزل عائلتها الواقع في مدينة غزة، تعيش اليوم "حياة تشرّد" خالية من أيّ مقومات حياة بلا طعام ولا مياه ولا ملابس ولا لوازم ضرورية أخرى، تماماً كما هي حال عائلات كثيرة نزحت تحت النيران من دون أيّ متاع.