تتكرّر المأساة في مخيّمات النزوح في العراق خلال فصل الشتاء من كل عام. وتواجه العائلات الأمطار والأوحال وانتشار الأمراض وسط محاولات للحصول على الدفء بوسائل بدائية قد تُعرّض حياتهم وصحتهم للخطر. وعلى الرغم من الحملات الحكومية لإغلاق المخيمات والسعي لإعادة النازحين إلى مناطق سكنهم بعد أكثر من أربعة أعوام على إعلان استعادة السيطرة على المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ما زال هناك أكثر من مليون نازح خارج مناطقهم. والأسباب مختلفة، أبرزها سيطرة فصائل مسلحة على مناطقهم، ورفضهم الانسحاب منها تحت ذرائع مختلفة مثل مدن جرف الصخر، ويثرب، والعويسات، وعزيز بلد، وذراع دجلة، وسنجار، ومناطق وبلدات أخرى تحتلها جماعات عدة، أبرزها كتائب حزب الله وحركة النجباء وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وسرايا الخراساني ومليشيات أخرى مماثلة، فضلاً عن الدمار الواسع في مدن أخرى ما يمنع عودة السكان الذين دمرت منازلهم بفعل العمليات العسكرية التي رافقت طرد "داعش".
وتوقفت المساعدات الحكومية التي كانت تُقدّم لأهالي المخيمات، ما زاد من معاناة الكثير من الأهالي. وتختلف قدرات البعض في توفير المتطلبات الأساسية. ويعمل أبناء البعض خارج المخيم في مهن لا توفر دخلاً جيداً، وإن كان يعينها كثيراً في توفير الاحتياجات المعيشية الأساسية، ما يمكن العائلات من الاستعداد لفصل الشتاء.
كان عبد الرحمن مزاحم قد أصيب نتيجة انفجار لغم أثناء هربه وعائلته من سيطرة "داعش" حين شنت القوات العراقية هجوماً على الموصل حيث يسكن، ويعتمد على ولديه المراهقين لتوفير مستلزمات عائلته المكونة من ستة أفراد. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "ولدي يعملان في جمع العلب المعدنية من حاويات النفايات وبيعها لورش إعادة التدوير، وقد استبقا قدوم الشتاء من خلال شراء أغطية بلاستيكية للخيمتين اللتين تسكنهما عائلته، بالإضافة إلى مدفئتين تعملان على الوقود وخمسين لتراً من النفط الأبيض لإيقاد المدفئتين". يضيف: "حال عائلتي تعد رفاهيّة بالمقارنة مع غالبية سكان المخيم. هناك عائلات فقدت الأب أو الأشقاء ولم يعد لديها من يساعدها، وخصوصاً أن المساعدات الحكومية متوقفة ولم نعد نحظ بمساعدات إغاثية من قبل المنظمات المدنية كما كان الحال قبل عامين وأكثر".
ويوجد أكثر من 20 مخيماً في العراق تقطنه عشرات آلاف العائلات، غالبيتهم في إقليم كردستان. لكنّ العدد الأكبر هم من يقطن في مناطق عشوائية مثل مبان مهجورة أو غير مكتملة ومجمعات حكومية سابقة تعود إلى ما قبل عام 2003. وتنشط مبادرات من قبل مواطنين أو صحفيين أو ناشطين لتقديم معونة لعائلة من سكان المخيمات تواجه ظروفاً صعبة، أو تجمع مبلغاً مالياً يمكن من خلاله تقديم مساعدة تقي هذه العائلات مساوئ فصل الشتاء.
وتقول رشيدة عواد لـ "العربي الجديد"، هي التي فقدت أحد أبنائها بعدما قتل على يد تنظيم "داعش"، وآخرين لا تعرف مصيرهم بعد، إنها أطلقت مناشدة عبر وسيلة إعلامية من أجل إنقاذ حفيدها المصاب بمرض عضال، فتواصل معها رجل من المحسنين، وتكفل بعلاج الطفل الذي توفي لاحقاً واستمر في تقديم المساعدة لعائلتها المكونة من ابنتها الأرملة وطفليها. تضيف أنها تستمر بتجديد خيمتها شتاء وتوفير ما تحتاجه أسرتها لدرء البرد والمطر. وتقول: "لولا هذا الرجل المحسن لغرقت خيمتي وتمزقت شتاء كحال كثيرين من جيراني".
لا دعم
وما من حل بالنسبة للمؤسسات الحكومية غير السعي لإغلاق المخيّمات وإعادة أهلها إلى مناطقهم. إذ أن توفير احتياجاتهم على مدار العام غير ممكن بسبب عدم وجود تخصيصات مالية، كما أكدت وزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق يعقوب جابرو نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. أضافت أن "الوزارة لم يعد بمقدورها تقديم المزيد من الدعم لهم (النازحون) بسبب قلة التخصيصات المالية. بالتالي، سيتم العمل بمبادرة الوقف السني المتضمنة تقديم منحة مالية قدرها مليون دينار للراغبين بالعودة الطوعية وحل المشاكل العشائرية التي تعرقل عودة بعض العائلات من خلال الفصل العشائري والتكفل بإعطاء الدية"، في إشارة إلى مبادرة الوقف السني لحل المشاكل التي تعيق عودة فئة من الفئات النازحة الساكنة بمخيمات النزوح.
ولا يمكن إعادة النازحين إلى مناطقهم وإغلاق مخيماتهم بالقوة، فبعضهم مهدّد بالقتل من قبل أهالي مناطقهم على خلفية انتماء أو إتهام بانتماء أبنائهم لتنظيم "داعش"، فيما يتهم آخرون جهات مسلحة تابعة للحشد الشعبي بمنعهم من العودة إلى قراهم ومزارعهم لاستيلاء هذه الجهات عليها. وهناك قسم ثالث تهدمت منازلهم من جراء المعارك ولم يعد في إمكانهم العودة. وتقول الجهات الحكومية إنها تسعى لإزالة كل هذه العراقيل لعودة النازحين، بحسب عامر الشمري الذي عاد إلى منزله بعد إعادة تأهيله من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
عراقيل
عاد الشمري قبل أكثر من عام إلى منزله بعدما بقي في مخيمات النزوح نحو ثلاثة أعوام. ويقول لـ"العربي الجديد" إنه لا يمكن لكثيرين العودة إلى منازلهم نتيجة عراقيل عدة. وتعتبر المخيمات مكاناً آمنا لهم، لكنه يتحدث عما يصفه بـ "المأساة" الشتوية التي تعتبر أكثر ضرراً من الصيف يواجهها سكان المخيمات كل عام.
ويقول الشمري: "يعاني الأهالي بسبب درجات الحرارة المرتفعة وهبوب العواصف الترابية. ولا يمكن توفير الكهرباء بشكل مستمر لاستعمال المراوح أو أجهزة التكييف ما يتسبب بمعاناة كبيرة". يضيف: "المأساة الشتوية أكثر أذى في ظل انخفاض درجات الحرارة وإغراق المخيمات بمياه الأمطار والأوحال بسبب السكن في خيام مهترئة". إلا أن الحمداني الذي عاش هذه المآسي لا يكف عن الاهتمام بالنازحين في المخيمات، ويستمر في التواصل معهم. ويقول إنه منذ مغادرته المخيم، يتواصل مع ناشطين ومنظمات مدنية محلية لإيصال مساعدات للمخيمات، وخصوصاً تلك التي تقي النازحين المطر والبرد.
وتستمرّ العديد من المنظمات الإنسانية في تقديم الاحتياجات للنازحين داخل المخيمات. إلا أنها لا توفر كافة احتياجات الأهالي. ومن بين هذه الجهات مركز الهوية الذي يطلق بشكل مستمر حملات إنسانية خاصة للنازحين والمخيمات والمناطق التي تعرضت للدمار وهجر سكانها إثر المعارك مع "داعش". ويقول مدير المركز زيد فريح جاسم لـ "العربي الجديد" عن السعي لتأهيل منازل النازحين للمساهمة في عودتهم إلى بيوتهم، مضيفاً أن الحملة وضعت سقفاً زمنياً لتأهيل كافة منازل النازحين مدة خمسة أعوام.
نداءات نازحين
إلّا أنّ الإعلامي قاسم محمد علي، والناشط في الدفاع عن قضايا النازحين داخل المخيمات ومعاناتهم سواء في وسائل الإعلام التي يعمل بها أو من خلال منصات التواصل الاجتماعي، يؤكد أن هناك صعوبة كبيرة في إعادة جميع النازحين، إذ أن بعضهم سلبت منازلهم وأراضيهم وأعمالهم. ويقول لـ "العربي الجديد" إنه يوثق نداءات السكان في المخيمات، لافتاً إلى أنهم يعيشون ظروفاً سيئة في فصل الشتاء. ولدى هؤلاء بيوت كبيرة ومزارع وقطعان من الماشية الميسوري الحال، لكنهم باتوا اليوم يرتّقون خيامهم ويحاولون الحصول على غطاء بلاستيكي لحمايتها من المطر.
يتابع: "هؤلاء تركوا قراهم ومزارعهم ومنازلهم بعدما استولت عليها مليشيات تابعة للحشد الشعبي ومنها منطقة جرف الصخر شمالي محافظة بابل (وسط البلاد) وهي محاذية لحدود الأنبار". ويؤكد نازحون من سكان هذه المنطقة أن إصرار المليشيات على عدم عودتهم تسعى لمحاولة تغيير ديموغرافية المنطقة، وهو ما يؤكده سياسيون عراقيون بشكل مستمر عبر وسائل الإعلام. لكن طبيعة الحالة السياسية الراهنة في العراق التي نتجت عن المحاصصة الطائفية للحكم يصعب معها فرض بعض الحقوق وإعطائها لأصحابها.
ويقول قاسم محمد علي لـ "العربي الجديد"، إنّه من "المآسي التي تحلّ على النازحين في المخيمات خلال فصل الشتاء هي إصابتهم بالعديد من الأمراض، وخصوصاً الأمراض الصدرية نتيجة البرد الشديد وبقاء الخيام مبلّلة نتيجة تساقط الأمطار لأيام في ظل طقس بارد وأرض موحلة". يضيف: "للحصول على التدفئة مخاطره وأضراره، وسبق أن وقعت حرائق داخل المخيمات نتج عنها حالات وفاة واختناق نتيجة اعتماد النازحين على مدافئ بدائية تعتمد على الحطب".
ويتذكّر نازحون مناسبات عدّة عاشوها في مخيّماتهم، من بينها ما هو حزين ومؤلم، كفقدانهم أقاربهم أو جيرانهم في خيام أخرى توفوا نتيجة إصابتهم بأمراض خلال الشتاء. ومن بين هؤلاء سعد مجبل (63 عاماً)، الذي تحدث عن وفاة طفلة رضيعة في خيمة مجاورة لخيمته. وحاول والدها توفير ما تحتاجه من دفء بعد ليلة باردة وممطرة تسببت بغرق الخيام، إلا أن الرضيعة التي لم يتجاوز عمرها الشهرين كانت تعاني صعوبة في التنفس ولم تصمد حتى يطلع نهار اليوم التالي.
ويروي مجبل في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه "شهد وفاة مسنين داخل المخيم في ظل حالة الطقس السيئة، وخصوصاً أنّهم يعانون أمراضاً عدة وضعفاً في المناعة عدا عن الحالة النفسية السيئة لوجودهم في مخيمات، بينما كانوا يسكنون بيوتاً واسعة ولهم مكانتهم الاجتماعية، ما عجل في وفاتهم، ودائماً ما نستذكرهم وخصوصاً مع قدوم الشتاء".