على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، يتجول محسن لهيذب من تونس كل صباح على شاطئ البحر لالتقاط ما يلفظه من بقايا ومقتنيات
يقضي محسن لهيذب ساعات يوميا في التنقل على طول شواطئ مدينة جرجيس في تونس، لجمع أي شيء يلفظه بحر تونس. أحذية وملابس وقوارير وبقايا سفن ومراكب يصفها داخل أرض فضاء باتت متحفاً يستقبل الزوار.
كانت غاية لهيذب في البداية بيئية، إذ كان متطوعاً لتنظيف الشواطئ، وزادت جهوده بعد تقاعده من عمله كساعي بريد، إذ يجمع "رسائل يلفظها البحر" على شواطئ تونس، من بينها طموحات مهاجرين كانوا يحلمون بالوصول إلى الضفة الأوروبية، لكن بقيت ملابسهم وأحذيتهم لتشهد على مأساة راحوا ضحيتها.
تعد مدينة جرجيس من بين أبرز نقاط انطلاق المهاجرين في تونس، ويتوافد إليها مئات من راغبي الهجرة، خصوصاً الأفارقة. يقول لهيذب لـ"العربي الجديد": "تفاقمت ظاهرة الهجرة عبر سواحل تونس نحو أوروبا خلال العقدين الأخيرين، وبات غرق المراكب في البحر خبراً شبه يومي، ورغم انتشال عشرات الجثث من قبل خفر السواحل، إلا أن المئات منها لا يمكن انتشالها، ثم يقذف البحر بقايا هؤلاء ومقتنياتهم على الشاطئ. أقوم بجمع كل ما أجده، وأنقله إلى ساحة كبيرة قرب بيتي تحولت إلى معرض".
في معرضه الذي أطلق عليه اسم "ذاكرة البحر والإنسان"، يعرض محسن آلاف القطع التي تشمل قوارير وقبعات وأحذية. بعضها قام بتكديسه بطريقة عشوائية، فيما رتب بعضها الآخر على الأرض بأشكال مختلفة. يقول: "كلما وجدت مقتنيات خاصة بالمهاجرين أشعر بالحزن على موتهم. كانت لهؤلاء أحلام، ولم يبق منهم سوى بقايا لا تمثل للبعض سوى نفايات. لكنها تشهد على المأساة. وأكثر ما يزعجني هو إيجاد أحذية أو لعب أطفال، فأولئك لم تكن لهم إرادة في اختيار هذا المصير".
تمكن محسن من جمع آلاف القطع، لكنه لم يكن يتوقع أنه بعد سنوات من العمل كساعي بريد يوصل رسائل الناس يومياً، سيأتي عليه يوم يجمع فيه المئات من رسائل الموتى التي يجدها في داخل القوارير التي يلفظها البحر. رسائل مكتوبة بلغات عدة، بالإيطالية والفرنسية والعربية والإنكليزية، تروي قصص أشخاص لا يدري إن كانوا على قيد الحياة أم ماتوا، كما لا يمكنه أن يعرف تاريخ كتابة غالبية تلك الرسائل.
يتابع محسن: "بعض الرسائل عبارة عن خواطر خاصة، كتبها مراهقون أو عشاق، وأخرى تضم وصايا أشخاص فكروا في الانتحار، وتتضمن رسائل أخرى مناجاة الله، أو أمنيات. قد يكون بعض من كتبوا تلك الرسائل على قيد الحياة، وقد تكون بعض الرسائل لأشخاص ماتوا منذ سنوات، لكن بقيت أحلامهم وأمنياتهم حبيسة تلك القوارير".
في عام 2002، تمكن لهيذب من دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية بعد جمعه كمية كبيرة من النفايات التي يلفظها بحر تونس، والتي كانت تلوث الشاطئ. وهو يقدم من خلال هوايته تلك رسائل تتعلق بأهمية الحفاظ على البيئة، وبخطورة رحلات الهجرة السرية، ويفتح متحفه يومياً للزوار من كل الفئات العمرية بالمجان ليحدّثهم عن بعض القطع التي جمعها، والمكان الذي وجدها فيه، وتاريخ إيجادها، ويحدث الشباب والأطفال خصوصاً عن مخاطر رحلات الهجرة السرية.
ويفتح المتحف أبوابه لتلاميذ المدارس الذين يزورونه برفقة مدرّسيهم، ويقدم لهم جولات توعية بأهمية الحفاظ على البيئة، وطرق الاستفادة من النفايات، إضافة إلى التوعية بمخاطر رحلات الهجرة، ولا سيما أن أعداد الأطفال المشاركين في تلك الرحلات شهدت ارتفاعاً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، بحسب تقارير المنظمات الحقوقية والجهات الرسمية.
يوضح لهيذب أن البعض "يسخر من جهودي، ولا يرون في تلك البقايا سوى نفايات لا فائدة منها، لكنها بالنسبة لي رسائل لا يجب أن تدفن كما دفنت جثث أصحابها، فهي توثق معاناة هؤلاء المهاجرين ومأساتهم، وتصف حجم ما عانوه من أجل حلم الحياة الكريمة، فقد قطع بعضهم مئات الكيلومترات براً للوصول إلى أقرب نقطة بحرية في تونس قد تنقلهم إلى أوروبا، لكن تنتهي رحلاتهم غالباً بكارثة إنسانية، وتلك الرحلات لا تضم الرجال فقط، بل بينهم أطفال ونساء من كل الفئات العمرية".
يضيف: "المتحف يخلد ذكرى هؤلاء الأشخاص ومآسيهم على الرغم من عدم الإلمام الكامل بتفاصيلها. نمتلك فقط بعضاً من ملابسهم وأحذيتهم وأشيائهم، لكنها كافية للتعبير عن حجم المآسي الإنسانية التي واجهوها. أنا صديق لعشرات المهاجرين الموجودين في تونس، وأحاول مساعدتهم، وأنصحهم بعدم المجازفة بركون قوارب الهجرة. لكني أفقد كل يوم تقريباً أحدهم، والبعض منهم يختفون ولا أعرف مصيرهم".