يلاحظ المرء ازدياداً في أعداد المتسولين في الأسواق والساحات، بمجرد التجوّل في بلدات ومدن محافظة إدلب شمال غربيّ سورية. يطلبون من المارة ما يوفّر لهم ربطة خبز أو دواء أو أي مبلغ قد يساعدهم في تأمين بدلات إيجار منازلهم. وفيما يتعاطف الناس معهم، يعتقد آخرون أنهم اتخذوا من التسول مهنة وباب رزق.
في سوق إدلب، تطلب سيدة أربعينية من المارة المساعدة في تأمين دواء لزوجها الذي أصيب خلال الحرب. تقول لـ"العربي الجديد": "من يقبل بكل هذا الذل؟ لولا العوز لما كنت لأقف هذه الوقفة". تضيف: "زوجي أصيب خلال الحرب، ولدي أربعة أطفال. نزحنا من ريف إدلب واستأجرنا غرفة عند أطرافها. ليس لدينا مورد رزق أو عمل أو حتى من يقدم لنا أي مساعدة في الخارج. حتى المنظمات لا تقدم لنا مساعدات كافية، ما يضطرني إلى طلب المساعدة من الناس".
عند دوار الساعة المعروف في إدلب، ترى مجموعة من الأطفال الذين تراوح أعمارهم ما بين 8 و13 عاماً، يتسوّلون من المارة وسائقي السيارات العابرة، وتختلف أسبابهم. منهم من يقول إنه جائع، ومنهم من يحتاج إلى توفير الخبز لعائلته، فيما يحتاج آخرون إلى دواء. وفي أحد الشوارع القريبة من الساحة، تقف سيدة في منتصف العشرينيات تحمل بين يديها طفلاً في عامه الأول، وترتدي ثياباً مرتبة ونظيفة، وتسأل الناس المساعدة لتؤمن طعام طفلها اليتيم، كما تقول.
السبب الأول لارتفاع أعداد المتسولين، هو الحرب، التي أدت إلى زيادة نسبة الفقر والجوع وعدم توافر فرص عمل، بحسب عامر الحاج، ابن مدينة إدلب. يقول لـ"العربي الجديد": "عندما أذهب إلى السوق، أجد متسولين من جميع الفئات العمرية، وقد تحول التسول لدى البعض إلى مهنة. أعرف أن البعض يقف في نقاط محددة في المدينة من الصباح وحتى المساء، وكأنه دوام رسمي. ومنهم على هذا الحال منذ سنوات".
يتابع: "بكل تأكيد، هناك كثير من المتسولين الذين يحتاجون إلى المال. على مقربة من الفرن، تجد رجالاً في العقد الرابع أو الخامس، يطلبون ربطة خبز لإطعام عائلاتهم"، لافتاً إلى أن "الجهات المسؤولة في إدلب غائبة بشكل تام، وكأن هذا الأمر لا يعنيهم، وهذا الأمر ينسحب على المنظمات، وخصوصاً المحلية، التي أصبحت لا تعمل إلا بحسب التمويل المقدم لها".
الأسباب الرئيسية للنزوح تتمحور حول تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي
ويلاحظ مصطفى رجب، وهو من ريف إدلب، ارتفاعاً في أعداد المتسولين بشكل كبير في مختلف أنحاء المحافظة، خصوصاً عقب موجة النزوح التي حدثت قبل أشهر من جراء الأعمال العسكرية التي شنها النظام وروسيا. ويقول لـ"العربي الجديد": "الأسباب الرئيسية تتمحور حول تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي، في ظل شبه انعدام فرص العمل، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد السكان". يضيف: "تحول التسول إلى ظاهرة طبيعية لم تحرك أي جهة، سواء تلك التي تشرف على إدارة المنطقة عسكرياً أو إدارياً، أو المنظمات الغائبة بشكل شبه تام عن هذا الملف".
بدوره، يقول رئيس مكتب العلاقات العامة في مجلس مدينة إدلب صلاح غفير، لـ"العربي الجديد": "من المعروف أن ظاهرة التسول المنتشرة في المحافظة ترتبط بتردي الوضع الاقتصادي"، لافتاً إلى أن "مجلس المدينة عمد في العديد من الملفات إلى عدم التزام تطبيق القوانين بحرفيتها، وتغاضى عن انتشار البسطات والأكشاك وغيرها بهدف تأمين فرص عمل وتفادي التسول". يضيف: "على الرغم من ذلك، هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يملكون القدرة على خلق فرص عمل، بسبب تردي أوضاعهم المادية إلى حد كبير، الأمر الذي قد يدفع جزءاً منهم إلى التسول"، معتبراً أن القضاء على هذه الظاهرة "يتطلب تأمين فرص عمل، علماً أن تنشيط الحركة الاقتصادية يحتاج إلى عوامل عدة، وهي الاستقرار السياسي وتوافر الكهرباء وغيرها". ويقول: "لدينا أمل في أن يتم الأمر في الفترة المقبلة، وهناك جدية في العمل لجذب الاستثمارات إلى المنطقة، ما يساعد في خفض نسبة المتسولين".
يتابع غفير: "كانت المحافظة تعتمد على الزراعة. لكن مع خسارة مساحات واسعة من الأراضي، ووجود أعداد كبيرة من السكان، أصبحنا في حاجة إلى بدائل، التي يمكن أن تكون صناعية وتجارية. وهذه البدائل على طاولة البحث، وأعتقد أنه سيكون لذلك انعكاس واضح على الأوضاع المعيشية والاجتماعية في المحافظة".
وحول دور المنظمات الدولية والاقليمية في الحد من ظاهرة التسول، يوضح غفير: "حتى اليوم، لا يوجد أي دور لتلك المنظمات. وأعتقد أن دورها سيكون سلبياً على المدى البعيد. فالشعب السوري محب للعمل ومتقن للحرف. وخلال فترة طويلة من عمل المنظمات، فقدت شريحة واسعة من المجتمع هويتها الخاصة وأعمالها، سواء كانت زراعية أو حرفية أو صناعية. انحصر دور المنظمات بالإغاثة، فيما مساهمتهم في التعليم لا تكاد تذكر. والأسوأ من ذلك أنه ما من دور لهم في مشاريع التنمية. ونحن في أشد حاجة إلى تقديم الدعم لخلق فرص عمل ومشاريع صغيرة، ولسنا في حاجة إلى إعطاء سلة إغاثية كي لا يعتاد المواطن أن تصله احتياجاته بالمجان".
يضيف: "للمنظمات دور أكبر وأهم. فالأموال التي أنفقت في مجال الإغاثة والقطاع الطبي وما شابه، كان يمكن أن تساهم كثيراً في تحسين الواقع الاقتصادي. لكن للأسف، ما من رؤية لذلك، ولا يوجد قرار دولي لتغيير توجهات المنظمات. لذلك، لا أعتقد أنه سيكون هناك أي تغيير لدور المنظمات في المدى المنظور". ويقول غفير: "ظاهرة التسول في حاجة إلى تكافل اجتماعي في الداخل والخارج، وهذه مسؤولية أممية. نناشد كل المنظمات الدولية إعداد برامج متكاملة للتخلص من التسول".